بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى:
الحمدُ لله يهدي ويُضل، ويعزٌّ ويُذل، وأشهدُ أن لا إلهَ إلاَّ اللهَ وحدهُ لا شريك له، أنَّهُ هُو البرٌّ الرحيم، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدهُ ورسولهُ النبي المصطفى الكريم- صلى الله عليه وسلم - وعلى آلهِ وأصحابهِ ومن سارَ على دربهِ إلى يومِ الدين.
أمَّا بعدُ: فاتقوا الله أيٌّها المسلمونَ حقَّ التقوى.
بعيداً عن جوِّ هذا الزمانِ القاتمِ بغبارِ الالتزامِ الأجوف، والمشوَّه بقترِ السلبيةِ المفرطةِ والمظهريةِ الجوفاء، نحلقُ في فضاءِ الجيلِ السالفِ، المعطرِ بورودِ الإيجابية، ونتفيؤ ظلالَ شجرةِ البذلِ والعطاءِ، والتضحيةِ والفداء.
نعودُ بذكرِياتنا إلى الصورِ الرائعةِ لماضينا المجيد، حيثُ يتجلى الإيمانُ الحقٌّ، وتبرزُ حقيقةَ الهمِّ لهذا الدين، وتظهرُ الغيرةُ الحقيقيةُ على دينِ الله.
إنَّ الإيمانَ إذا خالفت بشاشتهُ القلوبُ استحكم الولاءُ لهُ، وكان العطاءُ للدين سخياً غاية السخاء، لأنَّهُ معاملةً مع كريم، وتلقٍ, لمننٍ, من إلهٍ, عظيم.
وإذا كانت الحياةُ تقدمُ فداءً للدين، وثمناً لدينه، فهي كذلكَ تُسَخَّرُ لخدمةِ الدينِ وللعطاءِ له، إذ كلٌّ ما فيها لله، وإذا هِي حياةٌ أُوقفت كلَّها لله.
هذا نوحٌ- عليه السلام - يُخاطبُ ربَّهُ: ((قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوتُ قَومِي لَيلًا وَنَهَارًا)) (سورة نوح: 5) ثم قال: ((ثُمَّ إِنِّي أَعلَنتُ لَهُم وَأَسرَرتُ لَهُم إِسرَارًا)) (سورة نوح: 9) ز
إنَّهُ الجهدُ الدائمُ الذي لا ينقطعُ ولا يملٌّ، ولا يفترُ ولا ييأسُ أمامَ الإعراضِ ألفَ سنةٍ, إلاَّ خمسينَ عاماً.
ماذا بقى من حياةِ نبيِّ اللهِ نوح، لم يُسخِّر لدعوتهِ، ولم يبذل لرسالتهِ الليلُ والنهار، الجهرُ والإسرار، كُلَّها للهِ حياةً أُوقفت كُلَّها لله.
ثُمَّ سرَّح طرفكَ في مسيرةِ أنبياءِ اللهِ ورسله، لتقفَ أمامَ نبيِّ اللهِ يُوسفُ السجينُ الغريب، الطريدُ الشريد، الذي يُعاني ألمَ الغُربةِ وقهرَ السجن، وشجا الفراقِ وعذابَ الظلم، في هذا كلهُ، وبين هذا كُلَّهُ في زنزانةِ السجنِ، يسألُهُ صاحبا السجنِ عن تعبيرِ الرؤيا، فلا يُدع نبيٌّ اللهِ يوسف الفرصةَ تفلت، ولا تُنسيهِ مرارةُ المُعاناةِ القاسيةِ واجب العملِ للهِ، والعطاء لدينه، فإذا به يحولُ السجنَ إلى مدرسةٍ, للدعوة، ويرى أن كونَهُ سجيناً لا يعفيهِ أبداً من تصحيحِ الأوضاعِ الفاسدةِ، والعقائدَ المنحرفة، فإذا به يُنادى في السجن: ((يَا صَاحِبَيِ السِّجنِ أَأَربَابٌ مٌّتَفَرِّقُونَ خَيرٌ أَمِ اللّهُ الوَاحِدُ القَهَّارُ)) (سورة يوسف: 39).
فاسمعوا يا معشرَ الأحرارِ الطُلقاء، وتمضي قافلةُ العظماءِ من الأنبياءِ، لتنتهي بسيدِهم وخيرِهم محمد- صلى الله عليه وسلم - والذي سُئلت عنهُ عائشةَ- رضي الله عنها-، أكانَ نبيٌّ الله- صلى الله عليه وسلم - يُصلي جالساً قالت: نعم، بعدما حطَّمهُ الناس، وهو النبيٌّ الذي قالَ الله - عز وجل - عنهُ: ((لَقَد جَاءكُم رَسُولٌ مِّن أَنفُسِكُم عَزِيزٌ عَلَيهِ مَا عَنِتٌّم حَرِيصٌ عَلَيكُم بِالمُؤمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ)) (سورة التوبة: 128).
ويقولُ: ((فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفسَكَ)) (سورة الكهف: 6).
وإنَّ الإنسانَ ليأخذهُ الدهشُ والعجبُ، كما تغمرهُ الروعةُ والخشوعُ، وهو يستعرضُ ذلك الجهدُ الموصولِ من الرسلِ- عليهم صلوات الله وسلامه- لهدايةِ البشريةِ الضالةِ المُعانِدة.
جهودٌ موصولة، وتضحياتٌ نبيلةٌ لم تنقطع على مدارِ التأريخِ، من رُسلٍ, يُستهزأُ بهم، ويُحرقُون بالنارِ، أو يُنشَرُون بالمنشار، أو يَهجُرون الأهلَ والديارَ حتى تجيءُ الرسالةُ الأخيرة، فيجهدُ فيها محمد- صلى الله عليه وسلم - ذلك الجهدُ المشهودُ المعروف، هو والمؤمنون معه، ثُمَّ تتوالى الجهودُ المضنيةُ، والتضحياتُ المذهلةُ، من القائمين على دعوتهِ في كلِّ أرضٍ, وفي كلِّ جيل.
وهكذا تسيرُ ركابَ المؤمنين برسالاتِ الله، لا تدعُ فرصةً للعملِ للدينِ تفلت، ولا فرصةً للعطاءِ للدينِ تضيع، كلٌّ عطاءٍ, يُقدمُ مهما كان قليلاً، وكل جُهدٍ, يُبذلُ ولو كان يسيراً.
هذا الرجلُ الكفيفُ الأعمى، عبد الله بن أمِّ مكتوم- رضي الله عنه- مؤذنُ رسولِ اللهِ- صلى الله عليه وسلم - الذي عذرهُ اللهُ في قرآنه، ((لَيسَ عَلَى الأَعمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الأَعرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى المَرِيضِ حَرَجٌ)) (سورة الفتح: 17).
لم ير أن يسعهُ أن يدعُ فيها فرصةً لخدمةِ الدين تفلتُ منه، ولتكن هُناك في مواقعِ القتالِ، وميدانِ النزال، فيصحبُ كتائبَ المسلمينَ، ويطلبُ أن توكلَ إليهِ المُهمةُ التي تُناسبه، فقال: إنِّي رجلٌ أعمى، لا أفرٌّ، فادفعوا لي الرايةَ أمسك بها، وتحملُ كتبَ التاريخ أنباءَ ابن أمِّ مكتوم، وأنَّهُ كان أحدُ شهداءِ القادسيةِ، يومَ غشيتهُ الرماحُ، فلم تصادف فرَّاراً ولا مُولياً، ولا مُعطياً دبرهُ في قتال.
وهذا ضمام بن ثعلبةَ يأتي مُسلماً ويسألُ رسولُ الله- صلى الله عليه وسلم - عما يجبُ عليه، فيأتيهِ الجوابُ بأنَّ عليه الشهادتين، وإقامِ الصلاةِ وإيتاءِ الزكاة، وصومُ رمضانَ وحجٌّ بيتِ اللهِ الحرام، حتى إذا عرفَها آمنَ بها ثُمَّ قال: يا رسولُ الله: واللهِ لا أزيدُ على هذهِ ولا أنقصُ، لكنهُ لا يرى ولا يرى أنَّ العملَ للدينِ داخلٌ فيما تحللَ منهُ، فينقلبُ إلى قومهِ داعياً إلى اللهِ، يقولُ لهم يا قومِ بئست اللاتُ، بئست العزى، ويظلٌّ بين ظهرانيهم حتى لا يبقى بيتٌ من بيوتهم إلاَّ دخلهُ الإسلام.
إنَّها نقطةٌ في بحرِ الإيجابيةِ الذي خاضهُ أسلافنا، فأثمرَ جهادُهم وبذلهم أعظمُ إنجازٍ, يومَ طوي بساطُ المشرقِ إلى الصينِ، وبساطُ المغربِ إلى المحيطِ تفتحهُ كتائبُ المجاهدينَ من الصحابةِ والتابعين، ما كانَ هذا الإنجازُ ليتحققَ إلاَّ على أيدي رجالٍ, يُعلنُونَ في كلِّ موقعةٍ, قائلين: إنَّ الله ابتعثنا لنخرجَ الناسَ من عبادةِ العباد إلى عبادةِ ربِّ العباد.
إنَّ هذا المعنى العظيمُ معنى العطاءِ للدينِ والبذلِ له، وتسخيرِ الحياةِ من أجلهِ حتى إذا الحياةُ كلَّها بليلِها ونهارها، وإذا النفسُ بمشاعرها ووجدانها وبكلِّ طاقاتها مسخرةً لهذا الدين.
هذا المعنى توارى أو خفت في نفوسِ كثيرٍ, من المسلمين، بل ضعفَ في نفوسِ الشبابِ المتدين ذاته.
لقد قالَ - جل وعلا -: ((قَد أَرسَلنَا رُسُلَنَا بِالبَيِّنَاتِ وَأَنزَلنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالقِسطِ وَأَنزَلنَا الحَدِيدَ فِيهِ بَأسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالغَيبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيُّ عَزِيزٌ)) (سورة الحديد: 25).
وقد قامَ بالنصرةِ بالسيفِ طائفةٌ من المؤمنين، وهُم المُجاهدُون الصادقون، وقامَ بالهدايةِ بالكتابِ بعضُ العلماءِ وطلابُ العلمِ والدعاةِ والعاملين، وهاتان الطائفتانِ هُم بقيةَ الخيرِ في الأمةِ، الذين قاموا بما يجبُ عليهم نحو دينهم، فنجوا بصلاحِهم وإصلاحهم، ((وَمَا كَانَ رَبٌّكَ لِيُهلِكَ القُرَى بِظُلمٍ, وَأَهلُهَا مُصلِحُونَ)) (سورة هود: 117).
وبقيت في الأمةِ جموعٌ غفيرةٌ تتفرجُ على معركةِ الإسلامِ مع خصومه، وكثيرٌ منهم ممن ينتسبُ إلى الصحوةِ المباركة، فحبُهم للإسلامِ، وحميتُهم على الدينِ لا تتجاوزُ عبارات الإعجابِ بالمجاهدينَ والمصلحين، وعباراتُ الذمِ والتشنيعِ على الكافرين، وهذا وإن كان خيراً إلاَّ أنَّهُ لا ينصرُ ملةً ولا ينقذُ أمةً.
بل من هذه الجموعِ فئةً مجالسُهم تحليلٌ وتنظيرٌ بلا عملٍ, ولا إنتاج، جلَّ حديثهم نقدٍ, لفلان، وتفسيقٍ, لعلان، وذمٍ, لهذا، وإسقاطٍ, لذاك، وإن بحثتَ عنهم في ميدانِِ البذلِ للدينِ، لم تجد لهم أثراً ولم تسمع عنهم خبراً، يبدعُون في لومِ العاملين، وتخطئةِ المُجتهدين، وإن قيلَ لهم تعالوا فاعملوا لدينِ اللهِ أو ادفعوا، أطرقوا بالرؤوسِ وهُم يجمحُون.
فإلى هذه الجموعِ الخاملة، والطاقاتِ المعطلة، كونوا أنصارَ اللهِ وخوضُوا المعركةَ مع إخوانِكم، وسارِعُوا في ردِّ كيدِ الأعداءِ من الكفارِ والمُنافقين، وخُوضُوا في بحرِ البذلِ والعطاءِ لدينِ اللهِ، دعوةً وتعليماً، وأمراً بالمعروفِ ونهياً عن المنكرِ، وجهاداً في سبيلِ الله.
أنتَ يا أخي قادرٌ على أن تفعلَ للإسلامِ الكثيرِ مهما قلَّ علمُك، وضعُفَ تدبيرُك، وخفي اسمكَ، وجهُلَ قدرُك.
أنـت كنـزُ الــدرِّ والياقـوتِ في * * * لجـةِ البحرِ وإن لم يعرفون
محفلُ الأجيالِ محتـاجٌ إلــى * * * صوتكَ العالي وإن لم يسمعوكَ
قُل وردد، أنا سهمٌ للإسلام، فحيثُ كانت مصلحةُ الإسلامِ فارموا بي هُناك.
أخي: إنَّ القلوبَ ينبغي ألاَّ تشحٌّ بمشاعرها، والعيونُ لا تبخلُ بدموعها، فأينَ العطاءُ للدينِ في حياتنا، أخي: إنَّ الغيرةَ على الدينِ وحملِ همِّهِ يجبُ أن تكونَ هاجسُ كلٌّ واحدٍ, منا، وهماً يجري في عروقِ كلِّ مسلمٍ, صغيراً كان أم كبيراً، ذكراً أو أنثى، عالماً أو جاهلاً، صالحاً أو فاسقاً، فلا يجوزُ أن تكونَ الذنوبُ والخطايا حاجزاً وهمياً بين العبدِ وبين العملِ الإيجابي لهذا الدين، نُريدُ أن يكونَ هَمٌّ هذا الدينِ يُلاحقُ المرأةَ في بيتها، والرجلُ في متجرهِ، والمعلمُ في فصلهِ، والطالبُ مع زملائِهِ، والموظفُ في دائرتِهِ، بل ويحملهُ الشابٌّ على الرصيفِ، وفي مدرجاتِ الملاعبِ، فلم تكن الخطيئةُ يوماً مهما عظُمت حائلاً بين المُسلم وبين أن يُساهِم في نُصرةِ هذا الدين، فقد ذهبَ بعضُ الصحابةِ إلى غزوةِ أحدٍ, بعد ليلةٍ, من شربِ الخمرِ كما في صحيحِ البخاري، أنَّهُ اصطبحَ ناسٌ الخمرَ يومَ أحدٍ, ثُمَّ قُتلوا شُهداء.
وفي قصةِ أبي مِحجن الثقفي عبرةً وعظة، وهو الذي كان يشربُ الخمرَ، ويُجلدُ عليها، فلم يمنعهُ ذلكَ عن الجهادِ في القادسية، وكعبُ بن مالكٍ, وهو المتخلفُ عن الجهادِ مع رسولِ اللهِ- صلى الله عليه وسلم - لم يمنعهُ ذلك من الاعتزازِ بدينهِ والتمسكِ به أمامَ إغراءاتِ ملكِ غسان.
أخي:
إنَّ العملَ للدينِ ليس مصنفاً إلى شرائحَ وفئات، فكلٌّ مُسلمٍ, بانتمائِهِ للإسلامِ عاملٌ للدينِ مهما كان عليه، ومهما كانَ فيهِ من خطأ، ومهما اعتراهُ من تقصير، فينبغي ألاَّ تضيفَ إلى أخطائك خطأً آخر، هو القُعُودُ عن العملِ للدين.
إنَّ العملَ للدينِ ليسَ وظيفةً تصدرُ برقمٍ, وتاريخ، ولكنهُ صدرَ بأمرٍ, ربانيٍّ, برقمِ مائةً وخمسةً وعشرين من سورةِ النحل، ((ادعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكمَةِ وَالمَوعِظَةِ الحَسَنَةِ)) (سورة النحل: 125).
إنَّ العملَ للدينِ ينبغي أن يبقى ظاهراً في حياتنا، نراهُ في شابٍ, يوزعُ شريطاً أو كتاباً، نراهُ في شابٍ, يُبلغُ كلمة، نراهُ في موقفٍ, يُعلنُ إنكارَ منكرٍ,، نراهُ في معلمٍ, يوجِّهُ طلابهُ، وأبٍ, يُرشدُ أبنائه، نراهُ هنا وهنا وهناك.
إنَّ العملَ للدينِ أمرٌ لا نستخفي به، ولا نتسترُ عليه، بل ينبغي أن تبقى ساحتُنا فوارةً بالعملِ الضخمِ للدين، نراهُ في كلِّ فلتةٍ, وفي كل لفته، ((هَاأَنتُم هَؤُلَاء تُدعَونَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبخَلُ وَمَن يَبخَل فَإِنَّمَا يَبخَلُ عَن نَّفسِهِ وَاللَّهُ الغَنِيٌّ وَأَنتُمُ الفُقَرَاء وَإِن تَتَوَلَّوا يَستَبدِل قَومًا غَيرَكُم ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمثَالَكُم)) (سورة محمد: 38)).
أقولُ هذا القول.
الخطبة الثانية:
أما بعد..
إنَّ الدعوةَ إلى اللهِ - عز وجل - صورةٌ من صورِ العملِ لهذا الدين، ومظهرٌ من مظاهرِ الغيرةِ عليه، الدعوةُ إلى اللهِ وظيفةَ الرسل، ((وَمَن أَحسَنُ قَولًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسلِمِينَ)) (سورة فصلت: 33).
كلَّ الكلماتِ تسقطُ وتبقى كلمةُ الداعية، وكلَّ العباراتِ تهوي وتسمو كلمةَ الداعية، الدعوةُ إلى اللهِ من أعظمِ ما يتقربُ بهِ إلى اللهِ، كما قال ابن القيم: (مقامُ الدعوةِ إلى اللهِ من أشرفِ مقاماتِ التعبد)، فيا رجالٌ ويا نساء: إنَّ أبوابَ الدعوةِ مفتحةً فكونوا أولَّ السالكين، وإنَّ حِبالها مُرخاةً فكونوا أو الصاعدين.
أخي المسلم: إنَّ ممَّا يُقوي في قلبكَ الغيرةُ على دينِ الله، أن تستشعرَ المسؤوليةَ وجسامتُها، وأن تُقدرَ الخطرُ الداهمِ على أمتك، وتستشعرَ استمراريةِ دعاةِ الباطلِ في إشاعةِ باطلهم، ((وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيلاً عَظِيمًا)) (سورة النساء: 27).
((وَانطَلَقَ المَلَأُ مِنهُم أَنِ امشُوا وَاصبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُم إِنَّ هَذَا لَشَيءٌ يُرَادُ)) (سورة ص: 6)، ((إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَموَالَهُم لِيَصُدٌّوا عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيهِم حَسرَةً ثُمَّ يُغلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحشَرُونَ)) (سورة الأنفال: 36).
فأنت ترى أصحابَ المللِ الباطلةِ، والنحلِ الضالةِ يبذلُون كلَّ غالٍ, ورخيص، دفاعاً عن باطلهم، ونشراً لمبادئِهم، دُونَ انتظارٍ, لجزاءٍ, دنيوي.
يقولُ أحدُ الدعاة: أذكرُ أنني ترددتُ كثيراً جداً على مركزٍ, من مراكزِ إعدادِ المنصرينَ في مَدريد، وفي فناءِ المبنى الواسعِ وضعُوا لوحةً كبيرةً كتبُوا عليها: أيٌّها المبشرُ الشاب، نحنُ لا نعدُكَ بوظيفةٍ, أو عملٍ, أو سكن، أو فراشٍ, وثير، إننا نُنذرُكَ بأنَّك لن تجدَ في عملكَ التبشيري إلاَّ التعبَ والمرض، كلَّ ما نقدمهُ لكَ هُو العلمُ والخبز، وفراشٌ خشنٌ في كوخٍ, فقير، أجرُكَ كلهُ ستجدهُ عند الله، إذا أدرككَ الموتُ وأنت في طريقِ المسيحِ كُنتَ من السُعداء.
هذه الكلماتُ حَركت كثيراً من جندِ الشيطانِ المُبشرين بالنيران، من حملةِ الشهاداتِ في الطبِّ والجراحةِ والصيدلةِ وغيرها، للذهابِ إلى الصحاري القاحلةِ التي لا تُوجدُ فيها إلاَّ الخيامُ والمستنقعاتُ المليئةُ بالنتنِ والأمراض، والمكوثُ هُناكَ السنينَ الطوال، دونَ أجرٍ, وبلا منصب، فما بالُنا معشرَ المسلمينَ يجلسُ الواحدُ منَّا شبعانَ متكئاً على أريكتهِ، إذا طُلبَ منهُ نُصرةَ دينِ الحقِّ، أو كُلفَ بأبسطِ المَهامِ، أو عُوتبَ على تقصيرهِ في الدعوةِ، أو لِيمَ على استغراقه في اللهوِ والترفيهِ، انطلقَ كالسهمِ مردداً ياحنظلةَ ساعةً وساعة، وكأنَّهُ لا يحفظُ من القرآنِ أو السُنةِ غيرَ هذا.
تبلـدَ في الناسِ حـسُ الكفاح * * * ومالوا لكسبٍ, وعيشٍ, رتيــب
يكـادُ يُزعـزعُ مــن همتي * * * سدورَ الأمينِ وعـزمِ المريــب
يا معشرَ المعلمينَ والمعلمات:
يا بَناةَ المجدِ وصانعي الأجيال، إنَّ أهمَّ ما نُخاطبكم بهِ، أن تمكِّنوا همَّ الدعوةِ من قُلوبكم، مُستغلينَ المواردَ المُتاحةِ لكم، قبلَ أن تنضبَ أو تشُوبُها شوائبُ البطالةِ، أو تكتسحُها أيدي السفالةِ.
أيٌّها المعلمون والمعلمات:
لماذا لا تُذكونَ في قلوبِكم همَّ دعوةِ طلابكم وطالباتكن إلى الاستقامة، ألستم توجِّهُونَهم إلى ما فيهِ خيرُهم، لماذا يأخذُ التلقينُ المجردُ كلَّ أوقاتِكم مع أنَّهُ الوسيلةُ لا الغاية، لماذا يخرجُ الطلابُ والطالباتُ من فصولهم كما دخلوا إليها، لماذا لا نستغلُ هذا الصرحُ العلمي ليكونَ ميداناً لتخريجِ النشءِ المستقيم على دينه، لماذا لا نوجِّهُ علمنا الذي نُلقِنهُ للأجيالِ أياً كان ذلك العلمُ ليكونَ خادماً لشرعِ الله، تساؤلات ينبغي أن نهتمَّ بها، وأن نعدَّ الإجابةَ عليها قبلَ أن نعدَّ كشوفَ الدرجاتِ، ودفاترَ التحضير، إنَّ دعوةَ الطلابِ تكونُ عبرَ طريقين، أولهما: أقوالنا، وثانيهما: أفعالُنا، ابتسامتُنا وتواضعنا، وحُسن تعاملنا ولين قولِنا وتغاضينا عن الأخطاءِ، وشرحِ صدورنا لهمومِ طلابنا، إنَّ إذكاءَ روحُ الإسلامِ في الطالبِ، ومخاطبةُ وجدانهِ مع حُسنِ التعاملِ معه، كفيلانِ بأن يخرجا لنا جيلاً يُعتمدُ عليه، فيا ليتَ مُعلمينا ومعلماتِنا لهذا يُدركون، وبه يعملون.
يا معشرَ الطُلاب، إنَّكم تقضُون في المدرسةِ ساعاتٍ, هي زبدةُ أوقاتِكم، فإذا لم تقُوموا بالدعوةِ في هذا الميدانِ، فأيَّ ميدانٍ, ستكُونونَ أكثرَ إنتاجاً فيه، إنَّ فئةَ الطلابِ من أكثرِ الفئاتِ استجابةً للدعوة، وقابليةً للتأثيرِ، وفئةُ الطُلابِ أقربُ للناسِ إلى الشابِ، فهو يعيشُ معهم، ويخالطهم ويجالسهم، لذا فإنَّ دعوتَهم أولى من دعوةِ غيرهم، والمسؤوليةِ تجاهَهُم آكدُ من المسؤوليةِ تجاهَ غيرهم.
مؤسفٌ كل الأسفِ أن ترى بعضَ شبابنا يقضي مع زملائهِ سنينَ عدداً، في مقاعدِ الدراسةِ لم يتلقوا منهُ كلمةَ نصح، أو توجيهاً لمعروفٍ,، أو تغييراً لمنكرٍ,، أو مساهمةً في نشرِ الخيرِ ودعوةِ الغير.
فيا أخي الطالبُ ساهم في نُصرةِ دينكَ بدعوةِ زملائِك، بكلمتكَ بهديتك، برسالتكَ، بالقدوةِ في الصلاحِ والسلوك.
وأخيراً إلى أختي المسلمة:
يحزٌّ في النفسِ أن يرى المرءُ ذلك التمردُ الأخلاقي الذي يعصفُ بنا من كلِّ حدبٍ, وصوب، ثُمَّ يجدُ من بعضِ صالحاتِنا عزوفاً أو انشغالاً عن تلك المسؤوليةِ العظيمة، فيا سُبحان الله!! لمن تتركنَ الميدان.
فيا أختي المسلمة:
ألا يكتوي قلبُكِ حين ترين تلك الوحوشَ الكاسرةِ التي كشَّرت عن أنيابها الفضائية، ومخالبها الصحفية، وراحت تعبثُ بأخواتكِ، وتنتهكُ عفتهنَّ وكرامتهنَّ، ألا يتفطرُ فؤادكِ وأنت ترينَ مظاهرَ التفسخِ وقلةَ الحياءِ تستشري في نسائنا.
أيطيبُ لك عيشٌ وأنتِ ترين الفتاةَ تلو الفتاة، وقد رمت بحجابها، وراحت تركضُ هُنا وهناك، مُلبيةً نداءَ تلك الأبواقِ الخاسئة، التي مُلئت بكلِّ الوان الدهاءِ والفتنة.
كيف تقوى نفسُكِ على القعودِ وأنتِ تملكينَ بفضلِ الله القدرةَ على تحصينِ أخواتكِ من حبائلِ المفسدين.
أختي المسلمة:
إمَّا أن تتقدمي أنت، وإلاَّ فإنَّ المفسدين لنا بالمرصاد، وبقدرِ تقصيركِ يكونُ إقدامُهم، ومن أيقنت بعظيمِ مسؤوليتها هانت عليها كل العقبات، ومن صدقَ الله صدقهُ الله.
أيٌّها المسلمون:
فلنستشعر الشعورَ بالاستحياءِ من اللهِ جلَّ جلالهُ في قلوبنا، حين نرى من لا خلاقَ لهم يكدحونَ ويُضحٌّون لنصرةِ باطلهم، ويُوفُون مع إمامهم إبليس، بالعهدِ الذي قطعهُ على نفسهِ، ((قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغوِيَنَّهُم أَجمَعِينَ)) (سورة ص: 82).
لابدَّ من الدعوةِ إلى اللهِ على كلِّ المستويات، دعوةً للمنحرفين والغافلين إلى التمسكِ بالإسلام، دعوةَ للمتمسكينَ بهِ لبعثِ هممهم، وتعريفهم بطريقِ العملِ وفقه الدعوة، لابدَّ من الدعوةِ إلى الله وعلوَّ الهمةِ فيها، لانتشالِ الأمةِ من تيهها الذي تهيمُ فيهِ، فالسوادُ الأعظمُ قد انحرفَ غيرَ ما قُصد كيدٌ ولا إرادةٌ سوء، لابدَّ من الدعوةِ إلى الله لاستنقاذِ الظباءِ الجفولةِ، والعصاةُ الذين تخلَّفوا عن منازلِ الفضل، لابدَّ من الدعوةِ إلى الله وإلاَّ فسدت الأرض، وأسنتِ الحياة وتعفنت، وذاقت البشريةُ الويلات من بعدها عن منهج الله، حينما يعيشُ الإنسانُ لدعوةِ الله يومَها فقط سيذوقُ معنى السعادة،
إنَّ السعادةَ أن تعيشَ لفكرةِ الحقِّ التليد
لعقيدةٍ, كبرى، تحلٌّ قضيةَ الكونِ العتيد
وتجيبُ عمَّا يسألُ الحيرانُ في وعيٍ, رشيد
فتشيعُ في النفسِ اليقينِ وتطردُ الشكَ العنيد
وتردٌّ للنهجِ المسددِ كلَّ ذي عقلٍ, شريد
هذي العقيدة للسعيدِ هي الأساسُ هي العمود
من عاشَ يحملُها ويهتفُ باسمها فهو السعيد.
وبعدُ فهل يا ترى تتحركُ الهممُ لدعوةِ الغافلين، وإرشادِ التائهين، هذا هو المُؤمل منَّا جميعاً رجالاً ونساءَ، صغاراً وكباراً، وإنا لمنتظرون.
اللهمَّ صلى على محمدٍ, وعلى آلهِ وصحبه،،،
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد