تعويض المتهم السجين عند ظهور براءته


بسم الله الرحمن الرحيم 

الحبس بتهمة أمر مقرر في الشرائع والأنظمة القديمة والحديثة، وهو ما تدعو إليه الحاجة حال تعيّنه للكشف عن الحقيقة موضوع الدعوى وإيصالها لأصحابها، ولمنع المتهم من الاستحواذ على حقوق غيره والفرار بها بعيداً عن هيمنة العدالة

أجاز الإسلام حبس المتهم، واعتبره من السياسة العادلة والتصرف الحكيم، وذلك إذا تأيدت التهمة بقرينة قوية أو ظهرت علامات الشك والريبة على المتهم، أو كانت له سوابق في الانحراف والجريمة

روى أبو داود والترمذي والنسائي بإسناد حسن: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حبس رجلاً في تهمة بدم (دعوى قتل) يوماً وليلة

وروى الشيخان أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حبس يهودياً اتهم في قتل فتاة، فلم يزل به حتى أقر أنه قتلها، فقتله

وقد أجازت القوانين المعاصرة عامة حبس المتهم، على خلاف بينها في تحديد طبيعة الأفعال المبررة لهذا الحبس: هل هي جنائية، أم جنحية، أم متلبس بها، أم مهيئاً لها؟

مدة الحبس بتهمة

يرى بعض الفقهاء: أن مدة حبس المتهم لا ينبغي أن تزيد على ثلاثة أيام، وأجازت جماعة أخرى أن تبلغ شهراً، وقال آخرون: ليس لها حد أعلى، بل هي حسب اجتهاد القاضي وتقديره لظروف التهمة، والمدة التي يمكن أن ينكشف فيها حال المتهم، واتفقوا جميعاً على أنه لا يجوز تأخير حبس المتهم عن الحد اللازم، بل يجب التعجيل قدر الإمكان في التحقيق معه والكشف عن الحقيقة، وإظهارها دون تأخير ولا مماطلة

وقد أشار بعضهم إلى أن المدة التي تكفي في التحقيق في تهمة قتل، ربما لا تكفي في التحقيق في تهمة تزييف أو سرقة أو غير ذلك، والعكس صحيح أيضاً

هذا، وقد ذهبت بعض القوانين إلى أنه لا يُزاد على ثلاثة أيام في استنطاق المشتبه فيه، ولا يُزاد على عشرين يوماً في توقيف ومساءلة المظنون به، وأجازت قوانين أخرى حبس المتهم مدة خمسة عشر يوماً، يمكن تمديدها ـ حسب الحاجة ـ على فترتين إلى خمسة وأربعين يوماً مع ملاحظة عدم جواز التباطؤ في التحقيق حتى لا يترتب على ذلك بقاء المتهم في الحبس ظلماً دون حاجة إلى ذلك

 

كتابات فقهية سابقة تصلح في موضوع التعويض عن الضرر

إن المتأمل في كتابات الفقهاء السابقين تتحصل لديه مسائل عدة يمكن اعتمادها مقدمة تأسيسية لما نحن بصدده، ومن هذه المسائل ما يلي:

1 ـ إذا نُفِّذ حدّ أو قصاص في شخص ثم رجع الشهود عن شهادتهم لظهور خطأ، فعليهم الدية، وتروى في ذلك قصة عن عليّ ـ رضي الله عنه

2 ـ إن بدا للشهود خطأ فرجعوا عن شهادة بمال بعد الحكم به واستيفائه، غرَّموه في قول كثير من الفقهاء، وفي معاقبتهم تعزيراً قولان

3 ـ إن أخطأ القاضي وبنى حكماً على شهادة فاسقين أو كافرين ونحوهم ممن لا تصح شهادتهم ضمن آثار ذلك الخطأ، وللفقهاء قولان في الجهة التي تلزم بالتعويض عن خطأ القاضي هل هي بيت المال الخزانة العامة أم العاقلة قرابة القاضي أو النقابات المهنية التي ينتمي إليها؟

4 ـ يرى فقهاء الشافعية: أن ما يحدث في التعزير من تلف وضرر فيجب ضمانه على القاضي، لأن علياً أشار على عمر بأنه يضمن جنين التي أجهضت خوفاً من عمر حين بعث إليها يطلبها للحضور إليه

إن هذه المسائل وأمثالها تدل بوضوح على أن تضمين المخطئ أو المقصِّر التعويض عن الأضرار الناشئة من تصرفاته المشروعة ابتداء، هو أمر مقرر في الإسلام، سواء في العقوبات أو في الأضرار المالية

 

تعويض المتهم المحبوس حال ظهور براءته

إن المبدأ السابق المستخلص من المسائل الآنفة يدعو إلى القول: إن على الدولة معاقبة أو تضمين من يتسبب في حبس المتهم، أو يتأخر في الإفراج عنه بغير قرينة مقبولة أو موجب شرعي، وكذا تعويض المتهم عن الأضرار الواقعة عليه في مدة حبسه، وخصوصاً إذا تجاوزت الحد اللازم المشروع عرفاً للكشف عنه واستبراء حاله بحسب ما سبق بيانه

هذا، ومما يمكن اعتماده دليلاً مؤنساً لما نحن بصدده ما رواه عبدالرزاق في المصنف وأبو عبيد في الأموال، وابن حزم في المحلى وغيرهم: أن رجلين من قبيلة غفار نزلا بمياه حول المدينة، وعليها ناس من قبيلة غطفان معهم ظهر إبل لهم، فأصبح الغطفانيون قد أضلوا بعيرين من إبلهم، فاتهموا الغفاريين بهما، فأقبلوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذكروا أمرهم فحبس أحد الغفاريين، وقال للآخر: اذهب فالتمس البعيرين فذهب وعاد بهما، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - للمحبوس: استغفر لي، فقال: غفر الله لك يا رسول الله، فقال النبي: ولك، وقتلك في سبيله، قال الراوي: فقتل يوم اليمامة

ووجه الدلالة: أن الرجل حبس بتهمة ثم ظهرت براءته، فأطلقه النبي - صلى الله عليه وسلم - وعوَّضه بدعائه له بالشهادة في سبيل الله، وأعظم بهذا الدعاء النبوي وبهذه الشهادة ذات المكانة العظيمة عند الله - تعالى -، قال - تعالى -: (ولا تحسبنَّ الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون) آل عمران: 169

 

وقائع أخرى تؤكد مبدأ التعويض عن الضرر

مما يمكن اعتباره منسجماً مع هذا المبدأ: ما رواه النسائي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقسم شيئاً بين أصحابه، فأقبل رجل وأكبَّ عليه، فطعنه النبي بعرجون عود كان معه فجرحه، فقال: تعال فاستقد <اقتص>، قال: بل عفوت يا رسول الله

ومن هذا القبيل أن عمر  رضي الله عنه  نهى عن طواف الرجال مع النساء ثم رأى رجلاً يفعله فضربه بالدرة، ولما علم أن نهيه لم يبلغه عزم عليه أن يقتصّ منه أو يعفو عنه، ومن المنقول عنه قوله: <رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقصّ من نفسه> رواه النسائي

 

التعويض يشمل الأضرار المادية والمعنوية

قد يتبادر إلى الذهن أن التعويض عن الأضرار المادية يسلّم به في ضوء النصوص السابقة، بخلاف التعويض عمَّا يعرف بالأضرار المعنوية أو الأدبية؟ •

والجواب على هذا: أن استسماح النبي - صلى الله عليه وسلم - المحبوس من الغفاريين ـ في القصة الآنفة ـ يصلح في التعويض عن الأضرار المعنوية، ويضاف إليه ما يلي:

1 ـ ما رواه أحمد والحاكم وابن ماجه وغيرهم من حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: <لا ضرر ولا ضرار>، ومن المعلوم أن الضرر يكون مادياً ومعنوياً، وقد يكون المعنوي أفظع وأشد من المادي، قال الشاعر:

جراحات السنان لها التئام *** ولا يلتئم ما جرح اللسان

2 ـ من المقرر عند علماء المسلمين: وجوب إزالة الضرر شرعاً، وذلك اعتماداً على القاعدة الفقهية المتفق عليها: <الضرر يزال> وإزالة الضرر تكون بإزالة آثاره وتداعياته

3 ـ ذكر المالكية: أن من سجن غيره بقصد تفويت منفعة عليه يضمن ذلك، ويعلم قصده بقوله أو بالقرينة

4 ـ نص الحنابلة على أن من غصب حراً وحبسه فعليه أجرته

إن إنزال العقاب بالجهة المقصرة في هذا الصدد لا يغني المحبوس المتضرر شيئاً، وإنما يغنيه رد الاعتبار الأدبي إليه، وتعويضه عن الأضرار المادية والنفسية والاجتماعية التي لحقت به ونزلت بأسرته

إن قواعد العدالة تقتضي إسناد جميع المسؤوليات إلى أصحابها ومحاسبة المتهاونين والمتسببين بالأضرار، كما تقتضي التعويض عن الأضرار أياً كانت: مادية أو معنوية، وخصوصاً أن عصرنا الحالي يشهد نموا مطرداً في مفاهيم حقوق الإنسان، وهي لا تتعارض مع تعاليم الإسلام وتوجيهاته في كثير من صورها ومجالاتها، ومنها الحقوق المعنوية والأدبية

من الجدير هنا الإشارة إلى بعض المواقف الإيجابية في هذا الصدد، حيث اتجهت بعض الدول إلى وجوب تعويض المتهم المحبوس عند ظهور براءته عن عامة الأضرار التي لحقت به، سواء كانت مادية أو معنوية، ومن هذه الدول: بلجيكا، وسويسرا، والولايات المتحدة، وفرنسا

كما صدرت أحكام قضائية في بعض البلدان العربية منها: المملكة العربية السعودية، والكويت فيها تعويض متهمين ـ كانوا قد حبسوا ـ عن أضرار معنوية لحقت بهم، وتعتبر هذه المواقف خطوات إيجابية في الطريق الصحيح

وزيادة على ما سبق رأت بعض الدول وجوب إعلان براءة المتهم في الصحافة ووسائل الإعلام الأخرى، وذلك من أجل العمل على رد الاعتبار الأدبي والاجتماعي إليه، وتصحيح وضعه وصورته في أذهان الناس•

وهكذا يتضح مما سبق: أن الحبس بتهمة أمر مقرر في الشرائع والأنظمة عامة، وذلك لمحاصرة الجريمة والكشف عن الفاعلين والوصول إلى الحقيقة، غير أنه من الأهمية بمكان التعجيل في التحقيق مع المتهمين وعدم التمادي في حبسهم من غير قرينة قوية مقبولة ولا موجب مشروع

فإذا تجاوزت جهة ما تلك المسلمات الإجرائية، فأطالت حبس المتهم من غير مسوّغ، توجب عليها أن تعوضه عما لحقه من أضرار مادية ومعنوية، وتساءل الأشخاص الذين باشروا هذه التجاوزات وتنزل بهم الجزاءات المناسبة، وبذلك يمكن ضمان ورعاية حرية كل إنسان وأمنه الفردي، وهذا في مجمله يلتقي مع تعاليم الشريعة الإسلامية والاتجاهات القانونية المعاصرة

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply