بسم الله الرحمن الرحيم
جاء في سنن أبي داود وابن ماجه والبيهقي وصحيح ابن خزيمة، عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: \" لا أحل المسجد لحائض ولا جنب\" والحديث وارد على سبب، وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاء ووجوه بيوت أصحابه شارعة [مقابلة] في المسجد، فقال: وجهوا هذه البيوت عن المسجد، ثم دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يصنع شيئًاº رجاء أن تنزل فيهم رخصة، فخرج إليهم بعدُ، فقال: \"وجهوا هذه البيوت عن المسجد فإني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب\"، وحيث إن هذا الحديث هو عمدة من يمنع دخول الحائض المسجد، فمن المتعين بيان درجته من حيث القبول والرد، فأقول مستعيناً بالله: إن إسناد هذا الحديث بجميع طرقه ضعيف لا يحتج به، ففي إسناده: جسرة بنت دجاجة، قال فيها البخاري: عندها عجائب، وقال البيهقي: فيها نظر، كما في إسناده أيضاً (أُفلت) أو فليت بن خليفة عن جسرة عن عائشة، وفليت هذا مجهول، ذكره ابن أبي حاتم في كتابه الجرح والتعديل. ورواه ابن ماجه في سننه من حديث أبي الخطاب البحري عن محدوج الذهلي عن جسرة بنت دجاجة عن أم سلمة، وهذا خطأ، و الصحيح عن عائشة، وأبو الخطاب ومحدوج مجهولان، قاله الحافظ ابن حجر.
وقال البخاري في محدوج الذهلي: فيه نظر، وقال ابن حزم: ساقط يروي المعضلات عن جسرة، وقال الذهلي له حديث مقطوع هو هذا الحديث.
وأبو الخطاب البحري قال فيه البخاري مجهول، وقال الذهبي: متماسك، ولينه الحافظ ابن حجر واتهمه جمال الدين المزي بالتشيع مع شيخه ابن عقدة.
هذا عن رجال إسناده، أما الحديث جله فقد ضعفه كل من الخطابي في (معالم السنن)، وابن القيم في (تهذيب السنن)، والنووي في (المجموع) وابن حزم في (المحلى)، وقال إنه منكر مردود، وتبعه الألباني في (إرواء الغليل).
آية النساء (يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنباً إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا..\" نصت على من أصابته جنابة ذكراً كان أو أنثى- وكان مسافراً أن لا حرج عليه أن يمر بالمسجد إن احتاج لذلك.
قال ابن عباس: \" لا يصح لأحد أن يقرب الصلاة \"ومن لازم المسجد وهو جنب إلا بعد الاغتسال إلا المسافر فإنه يتيمم\" وقال به النووي والشافعي، وبهذا قال أبو حنيفة والنووي وابن راهويه وهو رواية عن أحمد: أما إذا أراد الجنب دخول المسجد فعليه أن يتيمم، وقال الجمهور من العلماء: يجوز لمن عليه جنابة دخول المسجد للحاجة مطلقاً، واستدلوا بحديث أبي هريرة المتفق عليه لما سأله الرسول - صلى الله عليه وسلم - عندما افتقده، فقال: يا رسول الله إني كنت نجساً قد أجنبت، فقال له الرسول (إن المسلم لا ينجس) قال ابن المنذر: وبه نقول.فأنكر على أبي هريرة اعتزاله المسجد، وحضور مجلس العلم بعلة الجنابة، وبين له أن المسلم لا ينجس.
ومعلوم أن الكافر المشرك يجوز له دخول المساجد كلها إلا المسجد الحرامº لقوله - تعالى -\" إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا... \"وبوب البخاري في صحيحه: (باب دخول المشرك المسجد) وساق فيه حديث ثمامة بن أثال لما ربطه الرسول - صلى الله عليه وسلم - في سواري المسجد، ولا يكاد يجهل أحد أن المشركين كانوا يغدون على الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو في المسجد لغرض الإسلام أو لتبليغ رسالة إليه، أو لغرض المجادلة والحاجة كما حصل من وفد نصارى نجران، فقد بقوا أياماً ضربوا أخبيتهم في جانب من المسجد، بل كان نصارى الحبشة يلعبون فيه بالحراب بمرأى ومسمع من الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، فإذا جاز هذا مع المشرك النجس مهما تطهر وتنظف فكيف لا يجوز للحائض والجنب المسلمين دخول المسجد لسماع المواعظ والتذكير وتعلم القرآن وتعليمه، وإذا جاز للجنب ومن في حكمه
- كالحائض المرور بالمسجد للحاجة الخاصة من نوم أو استظلال وراحة فدخولهما له لغرض طلب العلم أو تعليمه من باب أولى.
- وحدث الحيض كحدث الجنابة في الجملة، فلا تصح الصلاة من الحائض والجنب ما داما متلبسين، به ودليل هذا في الجنب آية النساء السابق ذكرها، ودليل عدم صلاة الحائض قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (فإذا أقبلت حيضتك تدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك وصلي).
ويفارق الجنب الحائض بأمور منها: أن من عليه جنابة لا يجوز له أن يقرأ القرآن، بخلاف الحائض فلا مانع أن تقرأ القرآن نظراً أو حفظاً على الصحيح من أقوال أهل العلم، وبه أفتت اللجنة الدائمة لهيئة كبار العلماء برئاسة سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله - وما ورد في منع الحائض من قراءة القرآن لحديث (لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئاً من القرآن) فلا يصح، فقد ضعف طرقه ابن القيم في (إعلام الموقعين) والحافظ ابن حجر في (التلخيص الحبير).
ومما يخالف فيه الجنب الحائض أن الجنب يصح صيامه بخلاف الحائض. كما يختلف الحدثان(الجنابة والحيض) في الاغتسال منهما، فمن عليه جنابة لابد من تعميم الماء على جميع جسده وشعره فإن تحت كل شعرة جنابة، أما الحائض عند الاغتسال منه فلا يلزمها نقض شعر رأسها بل يكفيها أن تحثو عليه ثلاث حثيات من الماء، وأيضاً فإن من عليه جنابة فرفع حدثه بيده متى شاء اغتسل.
أما المرأة الحائض فرفع حدثها أو ابتداؤه ليس إليها لحديث \" إن حيضتك ليست بيدك\" فحدثها قد يطول، حيث أقل الحيض يوم وليلة، وأكثره خمسة عشر يوماً من الشهر، وهذا معنى الحديث الصحيح في نقصان دين المرأة: أنها (تجلس شطر دهرها لا تصلي) فمنع الحائض من قراءة القرآن ودخول المسجد للتعليم والتعلم يتسبب في حرمانها من خير كثير طوال نصف عمرها الزمني.
- وتأسيساً على ما سبق فإن الجنب والحائض على وجه الخصوص لا يجوز منعهما من دخول المسجد لسماع المواعظ وحضور الدروس والندوات والمحاضرات العلمية النافعة، ومنع الحائض من ذلك قد يسبب لها نسيان ما حفظته من القرآن، ويحرمها من طلب العلم النافع علاوة على ما فيه من كسر خاطرها، وكبح همم وعزائم ذوات النبوغ من النساء.
- ثم إذا أبيح للجنب دخول المسجد للحاجة كما لو كان في سفر (إلا عابري سبيل... ) فإن الحائض أشد منه حاجة، كأن يطلبها عدو لأخذ مالها أو التحرش بها جنسياً فلها أن تدخل المسجد وتمكث فيه، والقاعدة الشرعية تقول: (الحاجة تنزل منزلة الضرورة عند الانتفاء)، وطلب العلم في المسجد إن لم يكن بالفعل فرض عين تدعو إليه الضرورة لإحياء رسالة المسجد للمسلمين جميعاً، فلا أقل أن يكون حاجة تنزل منزلة الضرورة.
- وإذا كانت العلة من منع الحائض من دخول المسجد والمكث فيه للحاجة عند من يقول بالمنع هي خوف تلويثه بالنجاسة (الدم) فإن وسائل النظافة والتحفظ عند النساء اليوم أكثر منه في زمان مضى، حيث تتحفظ المرأة في بيتها فضلاً عن المسجد- لا يلحق الدم مهما عظم شيئاً من ملابسها، ثم إن المستحاضة (غير الحائض) تصوم وتصلي وتشهد مجامع الخير ولو خرج منها الدم. فقد جاء في صحيح البخاري من حديث عائشة، قالت: \" اعتكف مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعض نسائه وهي مستحاضة ترى الدم، فربما وضعت الطست تحتها من الدم\" فإن كانت علة المنع للحائض هي التلويث للمسجد فهي نفسها في دم الاستحاضة، وليست مساجدنا بأفضل من مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بل حاجة نساء اليوم إلى طلب العلم الشرعي وتوخي سبله النافعة أشد من حاجة نساء الأمس وأمهات المؤمنين خاصة.
- وثبت من حديث أم عطية في الصحيحين أنها قالت: \" أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في العيدين أن نخرج العواتق والحيض ليشهدن الخير ودعوة المسلمين ويجتنبن الحيض المصلى) فكأن اجتناب النساء الحيض للمصلى مخافة التلويث بالدم النجس، وسبق أن أجبنا عن هذه العلة المدعاة، أما التعليل في خروجهن إلى صلاة العيدين فقد نص عليه بالحديث (ليشهدن الخير ودعوة المسلمين) من سماع الخطبة والموعظة والتأمين على الدعاء ونحو ذلك، وهذا هو عين الموجود في الدروس العلمية المقامة في المسجد من الرجال والنساء طوال العام، وفي شتى الفنون العلمية النافعة.
ثم إن منع الحيض من حضور مثل هذه الدروس والحلقات العلمية لا يتفق مع قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - \" لا تمنعوا إماء الله مساجد الله وليخرجن تفلات\" أي بثياب العادة دون زينة أو طيب، بل في بعض روايات حديث أم عطية السابقة أنها سألت عن مثل هذا الخروج أهو عزيمة أو رخصة، حين قالت (أعلى إحدانا بأس إذا لم يكن لها جلباب ألا تخرج؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مشيراً إلى أن الخروج في مثل هذه الحال هو أشبه بالعزيمة قال\" لتلبسها صاحبتها من جلبابها\" قال الحافظ ابن رجب في شرحه لصحيح البخاري \" الأظهر أن أمر الحيض باعتزال المصلى إنما هو حال الصلاة ليتسع المصلى على النساء الطاهرات مكان صلاتهن، ثم يختلطن بهن في سماع الخطبة\" والنهي عن تلويث المسجد بدم الحيض أو دم الاستحاضة على السواء، ولهذا قال الحافظ ابن حجر في الفتح في شرح حديث المستحاضة التي اعتكفت مع الرسول - صلى الله عليه وسلم -: \" فيه جواز مكث المستحاضة في المسجد، وصحة اعتكافها وصلاتها وجواز حدثها في المسجد عند أمن التلويث، ويلتحق بها دائم الحدث ومن به جرح يسيل\" وقال ابن الملقن في شرحه لعمدة الأحكام: \" أُمر الحيّض باعتزال مصلى المسلمين ليس للتحريم، بل إما مبالغة في التنزيه لمحل العبادة، أو لكراهة جلوس من لا يصلي مع المصلين في محل واحد في حال إقامة الصلاة، أو هو للاحتراز وصيانتهن من مقاربة الرجال من غير حاجة ولا صلاة\".
- وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الحائض في الحج: \" تقضي المناسك كلها غير أن لا تطوف بالبيت\" دليل على دخولها المسجد الحرام للدعاء والصدقة والاستغفار لمضاعفة الحسنة فيه بمائة ألف إلا الصلاة والطواف فيه فلا يصح منها.
الخلاصة:
بعد النظر والتأمل في النصوص وأقوال أهل العلم فيظهر لي والله أعلم - جواز دخول الجنب والحائض المساجد كلها إذا أمن التلويث لأرض المسجد وفرشه، ودعت حاجة غير الصلاة في المساجد أو الطواف بالبيت ولا حاجة أكبر وأهم من حضور مجالس الذكر وحلق العلم تعلماً وتعليماً التي تعقد بين الحين والآخر في عموم مساجد المسلمين، والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد