حكم زواج المسلم بالكتابية ( 6 )


 بسم الله الرحمن الرحيم 

زواج المسلم بالكتابية في دار الكفر اليوم (أ)

توطئة:

لقد كانت الأرض في العصور الإسلامية السابقة تنقسم إلى بلاد إسلام تطبق فيها أحكام الله، وأهل الحلّ والعقد فيها هم المسلمون، وترفع عليها راية الإسلام، وتبعث منها كتائب الدعوة إلى الله والجهاد في سبيله، وبلاد كفر أهلها يحاربون المسلمين حرباً مباشرة، ولا تخرجها عن كونها بلاد حرب المعاهدات المؤقتة التي تعقد بين المسلمين والكفار.

أما الآن فإن كثيرا من بلدان المسلمين التي كل سكانها مسلمون ولو بالاسم أو أغلبهم مسلمون، أهل الحل والعقد فيها ليسوا بمسلمين بل هم كفار، يحاربون الإسلام وأهله أشد من الكفار الحربيين في الزمن الماضي، ومثال ذلك الشعوب المسلمة التي يحكمها شيوعيون ملحدون لا يؤمنون بالله ولا برسوله ولا باليوم الآخر ولا بالوحي، بل يعدون الإيمان بالغيب الذي جاء به الرسول ونزلت به الكتب خرافة يجب محاربتها والقضاء على كل من يعتقدها، وكذلك العلمانيون الذين يرون أن قوانين البشر أنفع لحياة الناس من القرآن والسنة، وقلما تخلو من هذين الصنفين بلاد من المسلمين وإن كانوا في بعض الشعوب لا يجرؤن على الظهور، لأن ظروفها غير مناسبة لظهورهم فبماذا نحكم على هذه الشعوب التي يحكمها هؤلاء؟ أهي بلاد إسلام نظراً لأن كل سكانها منتسبون للإسلام أو أغلبهم، وإن كان أهل الحل والعقد فيها كفرة يجاهرون بمعاداة الإسلام، أم هي بلاد كفر نظراً لكون الأحكام التي تنفذ فيها هي أحكام الكفر، وأهل الحلّ والعقد فيها كفار؟ وتعريف علماء الإسلام لبلاد الإسلام وبلاد الكفر يرجح اعتبارها دار كفر وليست دار إسلام، فقد قال علاء الدين الكاساني رحمة الله: \" إن دار الكفر تصير دار إسلام بظهور أحكام الإسلام فيها...وإن دار الإسلام تصير دار كفر بظهور أحكام الكفر فيها \".(بدائع الصنائع9/4374)

وقد سألت من علماء هذا العصر رئيس مجلس القضاء الأعلى في المملكة العربية السعودية سابقاً - الشيخ عبد الله بن حميد - رحمه الله - عن تعريف بلاد الإسلام وبلاد الكفر فأجاب بما يلي: \" نفيدكم أن العبرة بمن كانت له الولاية والحَلّ والعقد والتصرف في البلد، فإن كان ذلك للمسلمين فهي دولة إسلامية وإن وجد بها كفار، وإن كان الحلّ والعقد والتصرف والولاية للكفار فتعتبر الدولة كافرة، وإن كثر فيها المسلمون \"(بعث به إليَّ في خطاب خاص برقم 422/1بتاريخ7/3/1401)

وقد ابتلى المسلمون بهذا الوضع الشاذ في كثير من بلدانهم، ولو طبقنا تعريف علماء المسلمين لبلاد الكفر لما سلم منها إلا القليل وفي ذلك مخاطر عظيمة، إذ ينبني عليه أن لا يتزوج المسلم في بلاده التي تلك صفتها بالمسلمة فضلاً عن الكتابية، وإذا اضطر إلى ذلك فلا يقصد الولد، لهذا لا أريد الخوض في هذا، وعلى المسلمين أن يتقوا الله ما استطاعوا في بلدانهم وأن يصبروا على التمسك بدينهم وعلى تنشئة أولادهم عليه حسب قدرتهم ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، ولندع بلدان المسلمين وننتقل إلى الكلام عن بلدان الكفر لنعرف كيف تغيرت أحوالها هي أيضاً، لأنها المقصودة في هذا الفصل.

صفة بلاد الكفر في هذا الزمان

لقد كانت الخلائق في آخر عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - كما قال ابن القيم ثلاثة أقسام: مسلم مؤمن به، ومسالم له آمن، وخائف محارب (1)، والمراد بالمسالمين له الآمنين الذين كانوا أهل ذمة، وأما الأرض،

فكانت قسمين: أرض الإسلام وهي التي يدين أهلها بالإسلام، أو يخضعون لحكمه بأداء الجزية، وأرض كفر وهم المحاربون للإسلام.

وهكذا استمرت الأرض في عهد أصحابه - رضي الله عنهم -، إما بلاد إسلام و إما بلاد حرب، والبلدان التي كانت تعقد هدنة مؤقتة مع المسلمين هي بلاد حرب ما لم يؤد أهلها الجزية ويخضعوا لحكم الإسلام.

أما الآن فإن بلدان الكفار إذا تأملت واقعها، وجدتها تنقسم إلى أقسام: منها ما هي دار حرب، لأنها معلنة الحرب على الشعوب الإسلامية كما هو الحال في أرض فلسطين التي احتلها اليهود و شردوا أهلها ولا يزالون يشردونهم ويقتلونهم.

والذي يبدو أن لا فرق بين دور الحرب في الماضي من حيث عدم جواز زواج المسلم بالحربية فيه، لما مضى من الأدلة القاضية بذلك، ولكن المسلمين لا زالوا كثرة في هذه الدار، يصعب معه أن يطبق عليهم حكم دار الحرب فيمنعون من التزاوج فيما بينهم أو من قصد الولد، لأن التزاوج وقصد الأولاد والإكثار من النسل قد يكون في صالح المسلمين ليستمر صراعهم لأعداء الله لإجلائهم عن بلدانهم، ولو أوجبنا عليهم الهجرة من بلادهم بسبب أنها بلاد حرب إلى بلاد الإسلام لما وجدوا من يقبلهم مهاجرين في البلدان الإسلامية، ثم إن في هجرتهم من بلادهم إلى غيرها فرصة لليهود ليستقلوا بها وضياعاً لتلك الأرض، لهذا يبدو أن حكمهم في التزاوج فيما بينهم حكم المسلمين في بلاد الإسلام، وحكم زواجهم بالكتابية حكم زواج المسلم بها في دار الحرب.

ومن تلك البلدان من يعلن أهلها الدعوة إلى السلم وعدم إرادة الحرب مع الشعوب الإسلامية وغيرها، وهي ذات صفتين: صفة تبدو بها أنها ليست دار حرب، وهي صفة المعاهدات والاتفاقات الدولية التي يترتب عليها تبادل السفراء والتبادل التجاري والاقتصادي و الصناعي والثقافي وما أشبهه، فهي بهذا شبيهة ببلاد العهد في العصور الإسلامية السابقة إلا أن العهد في هذا العصر يتخذ صفة الدوام، وليس على أسس إسلامية، وغالب المعاهدات تكون المصالح فيها راجحة لبلدان الكفر، ومن الأمثلة على هذا القسم أمريكا وبعض دول أوربا وغيرها كروسيا.

وإذا نظرت إليها من جهة أخرى وجدتها ذات صفة ثانية وهي دار حرب وذلك من ثلاثة جوانب:

الجانب الأول: أنها تساعد الدول المحاربة للمسلمين بالمال والسلاح والغذاء والخبراء والإعلام وكل ما تحتاجه الدول المحاربة.

الجانب الثاني: أن أساطيلها البحرية وأسرابها الجوية، وجحافلها البرية مستعدة في أي لحظة لغزو أي دولة أو شعب من الشعوب الإسلامية التي لا يخضع حكامه لسياساتهم وتوجيهاتهم.

والجانب الثالث: أنها تسعى لإيجاد أحزاب تؤيدها في داخل الشعوب الإسلامية، تحارب الإسلام والمسلمين، وهي تمدها بالمال والتوجيه والسلاح، وتدفع تلك الأحزاب للقيام بانقلابات في داخل الشعوب الإسلامية من أجل القضاء على الإسلام والمسلمين، وتكفي هذه الجوانب الثلاثة لعد تلك الدول الكافرة دول حرب وبلادها بلاد حرب (2) وإن كانت الشعوب الإسلامية غير قادرة في الوقت الحاضر، بسبب ضعفها و تفرقها أن تعامل تلك الدول الكافرة معاملة الحربيين في كثير من الأحكام الثابتة في الشريعة الإسلامية، كدعوتها إلى أحد أمرين: الأمر الأول: الدخول في دين الله، والأمر الثاني: أداء الجزية والخضوع لأحكام الإسلام العامة، فإن أبوا فجهادهم في سبيل الله، كما كان ذلك دأب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قولاً وفعلاً، وعليه مضى السلف الصالح عندما كانوا متمسكين بدين الله.

 

حكم زواج المسلم بالكتابية في دار الكفر اليوم

سبق أن جمهور العلماء على جواز نكاح المسلم الكتابية في ديار الإسلام مع الكراهة، وبعضهم يرى جواز ذلك في ديار الحرب مع الكراهة الأشد، وبعضهم يرى تحريم ذلك في ديار الكفر. وأن بعض السلف يرى التحريم مطلقاً في ديار الإسلام وديار الكفر.

وسبق أن بلاد الكفر في هذا الزمان ليست دار حرب محضة كما كانت دار حرب في الماضي، وليست دار عهد محضة، فهي بلاد حرب غير مباشرة، كما هو الحال بالنسبة للدول التي تساعد اليهود ضد المسلمين بالمال والسلاح والرجال وغيرها، وهي مستعدة للحرب المباشرة في أي لحظة، كأمريكا وأوربا وروسيا، وهي أيضاً بلاد حرب مباشرة كما هو الحال بالنسبة لأفغانستان، وأنكى من ذلك أن تلك الدول تحارب المسلمين بالمسلمين، حيث تنظم الأحزاب الموالية لها وتساعد على ضرب شعوبها بالسلاح.

وهي شبيهة بدار العهد ـ في الجملة ـ من حيث الاتفاقات الدولية و تبادل السفراء، والمعاملات الاقتصادية وغيرها.

وكثير من الاتفاقات الدولية المبرمة بين دول الكفر والشعوب الإسلامية تكون في صالح دول الكفر أكثر مما هي في صالح الشعوب الإسلامية، بل الضرر الذي يلحق الشعوب الإسلامية من تلك الاتفاقات أكثر من النفع الذي يحصل منها.

كما أن بعض المعاهدات تخالف مقاصد الإسلام، وأهم ذلك إبطال الجهاد في سبيل الله، الذي هدفه الأول الدعوة إلى الله ودخول الناس في هذا الدين، أو خضوعهم لنظامه العام بدفع الجزية وإلا قوتلوا، كما كان عليه الرسول صلى الله وأصحابه والسلف الصالح، وهو الحكم القائم إلى يوم الدين (3).

وسبق بيان حالة المسلمين في ديار الكفر، وأنهم معرضون للذوبان في المجتمع الكافر، وأن بعضهم يرتد عن الإسلام، وبعضهم يبقى مسلماً بالاسم والانتساب، وهو قد ضاع في تلك المجتمعات الكافرة، والناجون من ذلك قليل.

فإذا نظرنا إلى ديار الكفر من جهة ما تقوم به من حرب مباشرة ضد المسلمين، أو غير مباشرة، فإن القياس يقتضي تحريم زواج المسلم بالكتابية فيها قياساً على تحريم ذلك عند بعض العلماء في دار الحرب، وإذا نظرنا إليها من جهة ما بينها وبني حكام الشعوب الإسلامية من معاهدات واتفاقات، فالقياس يقتضي إباحة الزواج بالكتابية في ديار الإسلام ـ وإن كانت لا تعتبر ذمية ولا حربية ـ أما الزواج بها في ديار الكفر التي فيها شبه بدار الحرب المحضة و شبه بدار العهد فإن فيه إشكالاً، لأن هذه الدار التي هذه صفتها جديدة لم تكن موجودة في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، و لا في عهد خلفائه لأن الديار كلها كانت إما دار إسلام ـ ويدخل فيها أهل الذمة ـ وإما دار حرب، ويدخل فيها دار العهد المؤقت ـ وعندما كان المسلمون يتزوجون بالكتابيات إنما كانوا يتزوجون بهن في ديار الإسلام، وديار الإسلام كانت محكومة بشريعة الله و المجتمع فيها كان مجتمعاً إسلامياً، والكتابية ذمية وليست حربية وإسلام الكتابية التي يحيط بها المجتمع الإسلامي الذي تطبق فيه أحكام الإسلام في المنزل والمسجد والشارع مأمول، وتربية أبنائها على الإسلام و تنشئتهم على مبادئه وآدابه هي الأساس، لأن البيئة كلها تساعد على ذلك: الأسرة، و الجيران، والمسجد، ودور العلم، والمجتمع كله، لأن القوة في كفة الإسلام و المسلمين، والمرأة أقرب إلى التأثر بالإسلام من التأثير في ولدها بالكفر وعاداته.

ولو فرض أنها حاولت التأثير فيه فإنها ستفشل، وإذا علم الزوج أو أسرته أو أي مسلم بذلك يبادر إلى إحباط تلك المحاولة، ولو تقدمت بشكوى إلى القضاء تطلب فيها الاستقلال بتربية أولادها، فإن الشرع الإسلامي لا يبيح لها ذلك، بل يحكم بالإشراف على الأولاد و تربيتهم لمن في إشرافه و تربيته مصلحتهم في دينهم، ولا يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً.

وإذا فرض أن زوج الكتابية تساهل معها في تربية أولاده، فإن المسلمين لا يسكتون عن ذلك، لتمسكهم بقاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إما من قبل المحتسبين من المجتمع، وإما من قبل الحاكم المسلم هذا بالنسبة لدار الإسلام.

 

--------------------------------------

(1)- زاد المعاد (3/160

(2)- وقد اعتبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - قريشاً ـ في مدة عهدهم ـ حرباً على المسلمين بسبب إعانتهم بني بكر ـ الذي دخلوا في عهدهم ـ على خزاعة ـ الذين دخلوا في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكانت إعانتهم لهم بالسلاح. راجع في ذلك تفسير الإمام البغوي، - رحمه الله - (2/266-267).

(3)- يأتي إبطال الجهاد من حيث دوام المعاهدات بين حكام الشعوب الإسلامية والدول الكافرة، مع أن كثيراً من تلك المعاهدات فيه إجحاف بالمصالح الإسلامية.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply