حكم زواج المسلم بالكتابية ( 5 )


بسم الله الرحمن الرحيم 

حكم زواج المسلم بالكتابية الحربية:

إن الآية التي دلت على جواز زواج المسلم بالكتابية لم تفرق بين أن يتزوجها في دار الإسلام أو دار الحرب، ولكن دار الحرب تختلف عن دار الإسلام بأن الهيمنة في دار الإسلام للمسلمين الذين هم أهل الحل والعقد، يحكمون بما أنزل الله ويظهرون شعائر الإسلام، و احتمال ميل الزوجة الكتابية إلى زوجها المسلم وارد، كما أن احترامها لآداب الإسلام وعدم مجاهرتها بما يخالفها أقرب، إرضاءً لزوجها الذي تغيظه مخالفة دينه في الأخلاق وارتكاب المحرمات، بخلاف دار الحرب التي تكون الهيمنة فيها للكفار، لأنهم أهل الحل والعقد و الحكم فيها بقوانينهم وهي تخالف الإسلام، والشعائر الظاهرة هي شعائر الكفر وليست شعائر الإسلام، والأخلاق السائدة هي أخلاق الكفار، ولهذا فإن الزوجة الكتابية في بلاد الحرب أكثر تمسكاً بعقيدتها وأخلاقها وعاداتها، وأقل ميلاً إلى دين زوجها، بل يخشى على زوجها أن يتأثر بالمحيط الكافر الذي يعيش فيه، ويخشى أكثر على ذريته من التدين بدين أمهم التي تربيهم عليه، لهذا اختلف العلماء - رحمهم الله - في حكم زواج المسلم بالكتابية في دار الحرب.

فقد ذكر القرطبي - رحمه الله - أن ابن عباس - رضي الله عنهما - سئل عن نكاح أهل الكتاب إذا كانوا حرباً؟ فقال: لا يحل، وتلا قول الله - تعالى -: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر (إلى قوله - تعالى -: (وهم صاغرون)(1).

قال المحدث: حدثت بذلك إبراهيم النخعي فأعجبه ـ يعني أن إبراهيم يقول بالتحريم ـ وكره مالك تزوج الحربيات لعلة ترك الولد في دار الحرب، و لتصرفها في الخمر و الخنزير)(2)اهـ.

فمذهب ابن عباس - رضي الله عنه - وإبراهيم النخعي تحريم زواج المسلم بالكتابية في دار الحرب، والسبب في ذلك أن المسلم مأمور بقتال الكفار المحاربين، وزواجه بالحربية فيه ركون إليها، وداع إلى سكناه في دارها وهي دار الحرب، وذلك ينافي معنى قتالها، بل فيه تكثير لسوادهم على المسلمين بسكناه بينهم وبذريته من الكتابية الحربية، التي قد تنشئهم على الكفر ومحبة أهله والعداوة للإيمان وأهله، وغير ذلك من المفاسد الناشئة عن زواج المسلم بالحربية.

وقد صرحت كتب المذاهب الفقهية بكراهة الزواج بالكتابية في دار الحرب، إلا أن منها ما تفسر الكراهة بالكراهة التنـزيهية و منها ما تفسرها بالكراهة التحريمية.

فقال السرخسي - رحمه الله -\" بلغنا عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنه سئل عن مناكحة أهل الحرب من أهل الكتاب فكره ذلك وبه نأخذ، فنقول: يجوز للمسلم أن يتزوج كتابية في دار الحرب، ولكنه يكره، لأنه إذا تزوجها ثمة، ربما يختار المقام فيهم، وقال - صلى الله عليه وسلم -: \" أنا برئ من كل مسلم مع مشرك لا تراءى نارهما \"(3). ولأن فيه تعريض ولده للرق، فربما تحبل فتسبى فيصير ما في بطنها رقيقاً، وإن كان مسلماً، وإذا ولدت تخلق الولد بأخلاق الكفار، وفيه بعض الفتنة، فيكره لهذا...\"(4).

ورجح الفقيه الحنفي: محمد أمين الشهير بابن عابدين، - رحمه الله - أن الكراهة هنا تحريمية وليست تنزيهية، فقال: وفيه أن إطلاقهم الكراهة في الحربية يفيد أنها تحريمية، والدليل عند المجتهد على أن التعليل يفيد ذلك، ففي الفتح: ويجوز تزوج الكتابيات، والأولى أن لا يفعل.. وتكره الكتابية الحربية إجماعاً، لافتتاح باب الفتنة، من إمكان التعليق المستدعي للمقام معها في دار الحرب، وتعريض الولد على التخلق بأخلاق أهل الكفر، وعلى الرق، بأن تسبى وهي حبلى، فيولد رقيقاً وإن كان مسلماً. اهـ فقوله: والأولى أن لا يفعل يفيد كراهة التنزيه في غير الحربية، و ما بعده يفيد كراهة التحريم في الحربية، تأمل \"(5).

وقال في الشرح الصغير ـ في المذهب المالكي ـ: \" و تأكد الكره ـ أي الكراهة ـ إن تزوجها بدار الحرب، لأن لها قوة بها لم تكن بدار الإسلام، فربما ربت ولده على دينها، ولم تبال باطلاع أبيه على ذلك... \"(6).

وقال النووي - رحمه الله -: \" و تحل كتابية، ولكن تكره حربية وكذا ذمية على الصحيح \" وقال في الحاشية: لكن الحربية أشد كراهة منها(7).

وقال الخرقي - رحمه الله -: \" ولا يتزوج في أرض العدو إلا أن تغلب عليه الشهوة، فيتزوج مسلمة و يعزل عنها ولا يتزوج منهم، ومن اشترى منهم جارية لم يطأها في الفرج، وهو في أرضهم \". وقال ابن قدامة معلقاً على ذلك: \" يعني و الله أعلم من دخل أرض العدو بأمان، فأما إن كان في جيش المسلمين فمباح له أن يتزوج، وقد روي عن سعد بن أبي هلال أنه بلغه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زوج أبا بكر أسماء ابنة عميس وهم تحت الرايات، أخرجه سعيد، لأن الكفار لا يد لهم عليه، فأشبه من في دار الإسلام. أما الأسير فظاهر كلام أحمد أنه لا يحل له التزوج مادام أسيراً، لأنه منعه من وطء امرأته إذا أسرت معه، مع صحة نكاحهما، وهذا قول الزهري، فإنه قال: لا يحل للأسير أن يتزوج مادام في أرض المشركين \"(8).

وقال ابن القيم - رحمه الله -: \" وإنما الذي نص عليه أحمد ما رواه ابنه عبد الله، قال: كره أن يتزوج الرجل في دار الحرب أو يتسرى من أجل ولده، وقال في رواية إسحاق بن إبراهيم: لا يتزوج ولا يتسرى الأسير في دار الحرب، وإن خاف على نفسه لا يتزوج، وقال في رواية حنبل: ولا يتزوج الأسير ولا يتسرى بمسلمة إلا أن يخاف على نفسه، فإذا خاف على نفسه لا يطلب الولد.. \"(9).

وبهذا يظهر أن مذهب الإمام أحمد أكثر صراحة في تحريم زواج المسلم بالكتابية بل لا يبيح له وطء أمته المسلمة أو امرأته في دار الحرب و يليه المذهب الحنفي في ذلك.

و الأسباب التي دعت بعض علماء المسلمين إلى القول بالتحريم أو الكراهة تتلخص في ثلاثة أمور رئيسية:

الأمر الأول: الخوف على ذرية المسلم من الكتابية الحربية من أن ينشأوا على دينها، فيكون بذلك قد غرس لأعداء الإسلام غرساً يكثر به سوادهم و يخسر ذلك الغرس المسلمون الذين هم أولى بتكثير سوادهم، و قد علم أن حفظ النسل ضرورة من ضرورات الحياة، والمقصد الأساس من حفظ النسل أن يكون النسل البشري محققاً لعبادة الله في الأرض

الأمر الثاني: الخوف من اختيار المسلم المقام بين ظهراني الكفرة الحربيين وفي ذلك عدة مفاسد.

المفسدة الأولى: مخالفة الأمر الإلهي بالهجرة من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام، وفي ذلك تعريض المسلم نفسه لعذاب الله وسخطه و إذلال نفسه لعدوه.

المفسدة الثانية: تكثير سواد الكافرين و تقليل عدد المسلمين و ذلك يسبب قوة الكافرين وإضعاف المسلمين.

المفسدة الثالثة: تعريض ذريته للكفر أو الاسترقاق ولو كانوا مسلمين، ذلك أن امرأته قد يأسرها المسلمون وهي حامل فيكون ولدها رقيقاً.

هذا مع ما يتعرض له المسلم في بلاد الكفر من المحرمات التي قد لا يستطيع الإفلات منها ومشاهدة المنكرات التي لا يقدر على إنكارها، بل قد يموت قلبه فيرضى بها لكثرتها، وقد تمارس امرأته أنواعا ً منها، وقد يميل مع طول الوقت إلى كثير من عاداتهم المخالفة للإسلام إن سلم من الارتداد عن دينه، وهذا هو الأمر الثالث.

وبناء على ذلك فالذي يبدو رجحانه هو القول بتحريم زواج المسلم بالكتابية الحربية، لأن تناول الشيء المباح إذا أدى إلى مفاسد تفوق مصلحته غلب جانب تلك المفاسد على مصلحته، ومفاسد نكاح المسلم الكتابية الحربية تفوق المصالح المترتبة عليها كما هو واضح والله أعلم.

 

----------------------------------------

(1) التوبة: 29.

(2) الجامع لأحكام القرآن (3/69)

(3) أبو داود (3/105) ولفظه: \" أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين \" قالوا: يا رسول الله لم؟ قال: \" لا تراءى ناراهما\".

(4) المبسوط (5/50) وراجع مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر (1/328) و كذا كتاب السير الكبير للإمام محمد بن الحسن الشيباني (5/1838).

(5) حاشية رد المحتار على الدر المختار (3/45)، وصرح الدكتور وهبة الزحيلى في كتابه الفقه الإسلامي وأدلته (7/145) أن الحنفية يحرمون الزواج بالحربية في دار الحرب.

(6) الشرح الصغير (2/420).

(7) المنهاج مع حاشيته (3/187)

(8) المغني (9/292-293).

(9) أحكام أهل الذمة (2/420)

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply