وفيه مطالب خمسة:
المطلب الأول ـ القائلون بهذا الرأي:
قال بهذا الرأي مجموعة من العلماء منهم: الشيخ أحمد رضا البريلوي، والشيخ أحمد الخطيب، والشيخ أحمد خطيب الجاوي، والشيخ محمد عليش المالكي، والشيخ مصطفى الزرقاء، والشيخ عبدالله بسام، والدكتور محمود الخالدي، والشيخ سليمان الخالدي الإسعردي، والشيخ محمد سلامة جبر.
مضمون قولهم:
الأوراق النقدية تشبه النقود المعدنية الرخيصة ـ الفلوس ـ في طروء الثمنية عليها.
هذا من حيث التكييف الفقهي لها، أما من حيث الأحكام الفقهية فمنهم مَن أعطاها أحكام الفلوس، ومنهم مَن أعطاها أحكام النقدين. وسأنقل كلام بعض هؤلاء العلماء:
يقول الشيخ أحمد رضا البريلوي الحنفي: ((والرابع: ما هو سلعة بالأصل وثمن بالاصطلاح كالفلوس، فما دام يروج فكثمن، وإلا عاد لأصله..إذا علمت هذا فالنوط هو من القسم الرابع سلعة بأصله وثمن بالاصطلاح لأنه يعامل به معاملة الأثمان، وهذه الرقوم المكتوبة عليه تقديرات ثمنية)).
فأوجب فيها الزكاة، حيث قال: ((تجب فيه الزكاة بشروطها، لما علمت أنه مال متقوم بنفسه، وليس سنداً، أو تذكرة للدين حتى لا يجب أداؤها ما لم يقبض خمس نصاب، ولا حاجة فيه إلى نية التجارة، لأن الفتوى على أن الثمن المصطلح تجب فيه الزكاة ما دام رائجاً، بل لا انفكاك له عن نية التجارة لأنه لا ينتفع به إلا بالمبادلة، كما لا يخفى في فتاوى قارئ الهداية الفتوى على وجوب الزكاة على الفلوس إذا تُعومل بها إذا بلغت ما تساوي مائتي درهم من الفضة أو عشرين مثقالاً من الذهب)).
ولم يجعلها محلاً للربا، حيث قال: ((نعم يجوز بيعه بأزيد من رقمه وبأنقص منه كيفما تراضيا، لما علمت أن تقديرهما بهذه المقادير إنما حدث باصطلاح الناس وهما لا ولاية للغير عليهما)).
ويقول الشيخ أحمد الخطيب: ((النوت ورقة عملة رائجة بأعيانها رواج النقدين بقيمتهما المرقومة فيهما، وقد تقرر في المذهب أن زكاة العين إنما تجب في الأعيان الزكوية، وأن الورقة ليست من الأعيان الزكوية، فلزم أن الورقة المذكورة لا تجب زكاة عينها ظاهراً، وفي الأمر نفسه حينئذ، فلا وجه للاحتياط بإخراج زكاة عينها ولا زكاة قيمتها في غير التجارة، لأن زكاة القيمة لا تجب عندنا إلا في عروض التجارة لا غير، فتبين بجميع ذلك أن النوت كالفلوس النحاسية في جميع أحكامها ظاهراً وباطناً وفي الأمر نفسه فلا يكون من الأموال الزكوية فيباع ويقرض متساوياً ومتفاضلاً بأجل وغيره، لعدم وجود علة الربا فيها)).
ويقول الشيخ محمد عليش المالكي ـ مجيباً عن سؤال وجه إليه في حكم زكاة الكاغد ـ: ((لا زكاة فيها، لانحصارها في النعم، وأوصاف مخصوصة من الحبوب والثمار والذهب والفضة، ومنها قيمة عرض المدير، وثمن عرض المحتكر، والمذكور ليس داخلاً في شيء منها، ويقرب ذلك أن الفلوس النحاسية المختومة بختم السلطان لا زكاة في عينها لخروجها عن ذلك)).
ويقول الشيخ عبدالله بن بسام: ((والحق أن الورق (الأنواط) بأنواعها فيها شبه قوي من النقدين الذهب والفضة، وفيها شبه أيضاً من بيع الصكوك التي فيها الديون وفيها بُعد، ولكن شبهها بالقروش (النيكل) ونحوها أقوى وأقرب. لأنها بنفسها ليست ذهباً ولا فضة، وإنما هي أثمان تتغير كما تتغير القروش بالكساد والرواج وتقرير الحكومات.
أما الذهب والفضة فمقصودان لذاتهما، والرغبة فيهما. أما القروش والورق فيجعل الحكومات لهما، فتشابها أيضاً من هذه الوجهة، فإذا كان الورق بالقروش أشبه وبه أولى، فالأحسن أن تلحق به، وأن تعطى حكمه، وحكم القروش معروف عند العلماء السابقين، فإن الصحيح في مذهب الإمام أحمد أن القروش يجري فيها ربا النسيئة، ولا يجري فيها ربا الفضل، فكذلك يجري مجراها الورق بأنواعها. فيجوز بيع بعضها ببعض، وبيع شيء منها بأحد النقدين، سواء كان بما قدرت به أو أقل أو أكثر، بشرط التقابض في مجلس العقد، ولا يصح بيع بعضها ببعض، وبيع شيء منها بأحد النقدين إلى أجل، أو بحل لم يقبض، لأنه يجري فيها ربا النسيئة)).
المطلب الثاني ـ الأدلة:
من خلال النظر في كلام هؤلاء العلماء يتضح أنهم قاسوا الأوراق النقدية على الفلوس بجامع أن كلاً منهما سلعة بالأصل ثمن بالاصطلاح، ولم يلحقوها بالذهب والفضة إذ هما أثمان خلقة.
مع أن منهم مَن ألحقها بالذهب والفضة في الأحكام، ومنهم مَن ألحقها بالفلوس، كما مر؟ معنا.
وقبل أن أناقش هذا الفريق، أذكر آراء الفقهاء المتقدمين في الفلوس وموقفهم منها، من خلال كلامهم عنها في الزكاة والربا والمضاربة لنرى هل أعطوها أحكام النقدين؟. ثم نرى مدى صحة قياس الأوراق النقدية على الفلوس.
المطلب الثالث ـ آراء الفقهاء في الفلوس:
أولاً ـ رأي الحنفية في الفلوس:
1 ـ بالنسبة للزكاة:
ثمة قولان عند الحنفية، روي أحدهما عن أبي حنيفة وهو أن لا زكاة فيها ما لم تعد للتجارة، وإن كانت أثماناً رائجة، أما إن لم تكن للتجارة فلا شيء فيها. وأما الثاني فهو أن فيها الزكاة إن كانت أثماناً رائجة ولو لم تع6 للتجارة، فتجب الزكاة في قيمتها.
ويقول ابن عابدين: ((في الفلوس إن كانت أثماناً رائجة، أو سلعاً للتجارة تجب الزكاة في قيمتها وإلا فلا)).
فالمعتمد عندهم وجوب الزكاة في قيمتها إذا كانت أثماناً رائجة ولو لم تعد للتجارة.
2 ـ بالنسبة للربا:
قولان عند الحنفية:
أ ـ أبو حنيفة وأبو يوسف: الفلوس ليست محلاً لربا الفضل إذا عينها العاقدان، بأن قال: يعني هذا الفلس بهذين الفلسين، أما إذا لم يعينا الفلوس فيحرم التفاضل فيها.
ودليلهما: أن العاقدين إذا عيناها فقد أبطلا ثمنيتها، فعادت إلى أصلها وهي سلع عددية، ولهما ذلك، لأن ثمنية الفلوس ثبتت باصطلاح الناس، ولا ولاية للغير عليهما، فإذا عيناها فقد أبطلا ثمنيتها، فيجوز التفاضل فيها.
ولا يجوز بيعها ببعض نسيئة لاتفاق الجنس. أما إذا لم يعينا الفلوس فيحرم بيع بعضها ببعض متفاضلاً لأنها حينئذ أثمان ولا يجوز التفاضل في الأثمان عند اتفاق الجنس.
ب ـ وقال محمد: الفلوس محل للربا، لا يجوز بيعها ببعض متفاضلاً، لأنها أثمان باصطلاح الكل، وليس للعاقدين إبطال هذا الاصطلاح، إذ هو لازم لهما تماماً كالدنانير والدراهم.
وهذا ما رجحه صاحب فتح القدير، حيث قال:
((يجب أن يكون قول الكل الآن على جواز الشركة والمضاربة بالفلوس النافقة، وعدم التعيين، وعلى منع بيع فلس بفلسين)).
ويبدو لي أن الفلوس راحت في زمنه، حتى لم تعد تستخدم للمحقرات فقط بل عمّ شأنها، ولذلك يشير إلى أنه حتى على قول الشيخين لا يجوز التفاضل في الفلوس التي في زمنه، لأنها غير التي في زمن الشيخين.
3 ـ بالنسبة للمضاربة:
قولان عند الحنفية:
أ ـ روي عن أبي حنيفة وأبي يوسف: عدم الجواز، وحجتهم أنها أثمان باصطلاح الناس، وليست أثماناً بأصل الخلقة، ولذلك فإن ثمنيتها قابلة للتبدل ساعة فساعة، فإذا كسدت صارت كالعروض، والعروض لا تكون رأسمال شركة المضاربة، ثم إنها ثمن لبعض الأشياء في عادة التجار دون بعضها.
ب ـ أما عند محمد: فتجوز شركة المضاربة بالفلوس، وهذا هو المعتمد عند الحنفية والحجة في ذلك:
1 ـ أن الفلوس ما دامت رائجة فهي ثمن فتلحق بالنقدين.
2 ـ ولأنها ثمن لا تتعين عند المقابلة بخلاف جنسها.
وهكذا فالمعتمد عند الحنفية جواز المضاربة بالفلوس الرائجة. ويبدو لي أن المتأخرين إنما رجحوا قول محمد على قول الشيخين، لأنهم لاحظوا أن الفلوس لم تعد تستخدم للأشياء الرخيصة فقط، بدليل أن الناس شاع عندهم جعلها راسمال شركة المضاربة فغلبت ثمنيتها لذا رجح المتأخرون جواز المضاربة بها.
النتيجة: تأخذ الفلوس أحكام النقدين في المعتمد عند الحنفية.
ثانياً ـ رأي المالكية في الفلوس:
1 ـ بالنسبة للزكاة:
لا تجب الزكاة في الفلوس، إلا إذا أعدت للتجارة فعند ذلك تجب فيها زكاة العروض.
2 ـ بالنسبة للربا:
المعتمد عند المالكية، لا ربا في الفلوس، وروي أنها محل للربا وهو خلاف المشهور، وأما ما يستدل به بعض الكتاب من أن الإمام مالك جعل الفلوس محلاً للربا كالنقدين، فالتحقيق أن هذا غير مسلّم، لأنه لم يحرم بيعها بجنسها متفاضلاً وبالدراهم والدنانير نسيئة، كتحريم الدراهم بالدراهم وبالدنانير، وإنما كره ذلك، وهذه الكراهة محمولة على بابها.
3 ـ بالنسبة للمضاربة:
قولان في جعل الفلوس رأسمال شركة المضاربة والأصح عدم الجواز.
والنتيجة: لا تأخذ الفلوس أحكام النقدين في المعتمد عند المالكية.
ثالثاً ـ رأي الشافعية في الفلوس:
1 ـ بالنسبة للزكاة:
لا زكاة في الفلوس ما لم تعد للتجارة، فهي في حكم العروض.
يقول الإمام الشافعي: ((وليس في الفلوس زكاة)).
2 ـ بالنسبة للربا:
أ ـ جمهور الشافعية: لا ربا في الفلوس ولو راجت رواج النقدين.
ب ـ وروي أن أهل خراسان جعلوها محلاً للربا عندما راجت عندهم.
ويبدو أن الذي حمل أهل خراسان على القول بوقوع الربا فيها أنها صارت عندهم أثماناً غالبة حيث راجت حتى صارت نقداً رئيسياً وهم أعلم بنقودهم من غيرهم.
3 ـ بالنسبة للمضاربة:
لا يجوز جعل رأس مال شركة المضاربة فلوساً، لأنها في حكم العروض.
ويبدو لي الجواز على رأي أهل خراسان.
والنتيجة: لا تأخذ الفلوس أحكام النقدين في المعتمد عند الشافعية.
رابعاً ـ رأي الحنابلة في الفلوس:
1 ـ بالنسبة للزكاة:
أ ـ المعتمد عند الحنابلة: لا زكاة في الفلوس إلا إذا أعدت للتجارة، فهي في حكم العروض.
ب ـ وقيل: تجب فيها الزكاة إذا كانت أثماناً رائجة، ولو لم تعد للتجارة، فهي في حكم النقدين.
2 ـ بالنسبة للربا:
أ ـ المشهور عند الحنابلة: الفلوس ليست محلاً لربا الفضل، لأنها معدودة، وعلة الربا عندهم في الرواية المشهورة عن أحمد الكيل والوزن مع الاتفاق في الجنس فيجوز بيع فلس بفلسين متفاضلاً، لكن لا يجوز نسيئة للاتفاق في الجنس.
ب ـ وفي رواية منصوصة عن أحمد، رجحها ابن عقيل: لا يجوز بيع فلس بفلسين مطلقاً، لأن كل ما كان أصله الوزن فلا يجوز التفاضل فيه ولو دخلته يد الصنعة.
3 ـ بالنسبة للمضاربة:
لا يجوز جعل رأسمال شركة المضاربة فلوساً لأنها تنفق مرة وتكسد أخرى فأشبهت العروض.
والنتيجة: لا تأخذ الفلوس أحكام النقدين في المعتمد عند الحنابلة.
هذه هي آراء الفقهاء في الفلوس وهي تلزم القائلين بإلحاق الأوراق النقدية بالفلوس.
المطلب الرابع ـ الأحكام الفقهية المترتبة على إلحاق الأوراق النقدية بالفلوس:
1 ـ في الزكاة: لا تجب الزكاة في الأوراق النقدية ما لم تعد للتجارة على رأي جمهور الفقهاء.
2 ـ في الربا: الأوراق النقدية ليست محلاً للربا، على رأي جمهور الفقهاء.
3 ـ في المضاربة: لا يجوز جعل الأوراق النقدية رأس مال شركة المضاربة على رأي جمهور الفقهاء.
المطلب الخامس ـ مناقشة القائلين بأن الأوراق النقدية ملحقة بالفلوس:
هذا الرأي قال به بعض العلماء الذين عاشوا في فترة ظهور الأوراق النقدية، عندما كانت نائبة ووثيقة وهم: الشيخ أحمدرضا البريلوي، والشيخ محمد عليش، والشيخ أحمد الخطيب، والشيخ أحمد خطيب الجاوي، - رحمهم الله -.
وقال به أيضاً بعض العلماء ممن عاشوا فترة الوراق النقدية الإلزامية وهم الشيخ عبدالله بسام، والشيخ سليمان الخالدي الأسعردي كما فُهم من كلام الشيخ جلال الباطماني والشيخ مصطفى الزرقاء، والدكتور محمود الخالدي، والشيخ محمد سلامة جبر.
ولذلك سأفصل المناقشة تبعاً لظرف هؤلاء العلماء.
فبالنسبة للشيخ أحمد رضا البريلوي: كان رأيه سديداً وصواباً عندما بين وجوب الزكاة في الأوراق النقدية بحكم كونها أثماناً رائجة، سواء أعدت للتجارة أم لم تعد؟.
لكنه لم يجعلها محلاً للربا على أساس مذهب الحنفية في الفلوس.
وقد علمنا أن الحنفية اختلفوا في الربا في الفلوس على رأيين:
1 ـ فأبو حنيفة وأبو يوسف: لم يجعلاها محلاً لربا الفضل عندما تكون معينة.
2 ـ ومحمد: جعلها محلاً للربا.
إذن فعدم جعل الفلوس محلاً لربا الفضل لم يكن باتفاق الحنفية.
ثم إن الشيخ البريلوي الحنفي: احتج بأن الأوراق النقدية اصطلاحية، فيمكن للعاقدين إلغاء الاصطلاح، ومن ثم فلا تعود ثمناً في حقهما، فيجوز التفاضل فيها.
وقد مرّ معنا عند بحث رأي الحنفية في المضاربة بالفلوس، تصريح متأخري الحنفية بعدم قدرة العاقدين على إبطال ثمنية الفلوس.
فلو أن الشيخ البريلوي (ره) أخذ بذلك لكان هو أول مَن اهتدى إلى الحكم الصحيح في الأوراق النقدية.
ومع ذلك فالبريلوي يعذر فعلى الرغم من كون الأوراق النقدية في زمنه تؤدي دور النقود الذهبية والفضية، غير أنها لم تكن إلزامية، بمعنى أنه كان يحق للأفراد عدم قبولها في المعاملات، وفي وفاء الديون، وكان التعامل بالدراهم الفضية شائعاً في زمنه ويبدو أن هذا هو الذي جعله يتمسك برأي الشيخين.
وعلى كل فهذا الرأي لا يمكن الأخذ به في النقود بعد أن صارت إلزامية، ومنع تداول الذهب، فتتغير الأحكام بتغير الأزمان.
وما قيل من تقدم البريلوي، وكون النقود في زمنه غير إلزامية يقال بالنسبة للشيخ محمد عليش المالكي والشيخ أحمد الخطيب والشيخ أحمد خطيب الجاوي - رحمهم الله -، حيث عاشوا في فترة يتداول فيها الناس الذهب والفضة وهما النقد الغالب ولذلك رجحوا إلحاق الأوراق النقدية بالفلوس.
فلا يمكن الأخذ بفتواهم بعد إلغاء التعامل بالذهب والفضة وجعل الأوراق النقدية إلزامية، لأن فتواهم إنما تنطبق على الأوراق النقدية المتداولة في زمنهم فقط وهي تختلف في ماهيتها عن الأوراق المتداولة في زمننا.
أما بالنسبة للشيخ عبدالله بن بسام، والشيخ سليمان الخالدي الأسعردي، والشيخ محمد سلامة جبر، وكل مَن يسبغ الأحكام الفقهية للفلوس على الأوراق النقدية الإلزامية، فيقال لهم:
صحيح أن الأوراق النقدية هذه تشبه الفلوس من حيث إن كلاً منهما سلعة بالأصل ثمن بالاصطلاح، غير أن قياس الأوراق النقدية على الفلوس بهذا الشبه غير صحيح، إذ هناك فرق جوهري بين الفلوس والأوراق النقدية من نواح عدة:
1 ـ الفلوس ليست لها قوة إبراء غير محددة وليست إلزامية، بخلاف الأوراق النقدية فهي تتمتع بقوة إبراء غير محددة وهي إلزامية. بمعنى أن الدائن يحق له أن يرفض قبول الفلوس الرائجة إذا لم تكن مشروطة في العقد كما صرح به الفقهاء.
يقول الإمام الشافعي (ره): ((الفلوس لا تكون ثمناً إلا بشرط، ألا ترى أن رجلاً لو كان له على رجل دانق لم يجبره على أن يأخذ منه فلوساً، وإنما يجبره على أن يأخذ الفضة)).
أما هذه الأوراق النقدية فلا يحق لأحد أن يرفضها، بل إن رفضها فإنه يعاقب على ذلك، ويعدّ المدين بريء الذمة عند سداد دينه بهذه الأوراق. إذن فبين هذه الأوراق والفلوس بون واسع.
2 ـ الفلوس كانت عملة مساعدة، وليست نقوداً رئيسية، بمعنى أنها كانت تستخدم لشراء الأشياء الرخيصة التي لا تقوّم بدرهم.
يقول السرخسي موضحاً الغرض من الفلوس: ((وهي ثمن لبعض الأشياء في عادة التجار دون بعض)).
ونظراً لضعف قوتها الشرائية لم يسبغ عليها معظم الفقهاء أحكام النقدين ذلك أن العلاقة بين الدرهم والفلس هي: 1/ 48، فهذه قيمة لا تكاد تذكر، فإذا قوّمت الفلوس بالفضة لإعطاء زكاتها فنصابها = 9600 فلس.
ولم يكن الناس يسعون للحصول على مثل هذه الكمية، إذ لا فائدة فيها إلا كونها تستخدم لشراء السلع الرخيصة فلا يطمع أحد أن يجمع هذا العدد إلا أن يريد التجارة بها فعند ذلك تزكى زكاة عروض التجارة.
أما الأوراق النقدية فهي نقود رئيسية، بل هي وحدها النقد الرئيسي.
3 ـ في انتقال الأوراق النقدية عن أصلها العرضي إلى الثمنية قوة أفقدتها القدرة على رجوعها إلى أصلها في حال إبطال التعامل بها، بخلاف الفلوس، فهي إذا كسدت أو أبطل السلطان التعامل بها فإن لها قيمة في ذاتها كسائر العروض.
4 ـ الأوراق النقدية في غلاء قيمتها كالنقدين، بل إن بعضاً من الأوراق النقدية تعجز عن اللحاق بقيمتها أكبر قطعة نقدية ذهبية أو فضية.
وهكذا يتضح لنا عدم صحة قياس الأوراق النقدية على الفلوس وإعطائها أحكامها الفقهية، لاختلاف المقصود من كل منهما.
وأما الذين ألحقوا الأوراق النقدية بالفلوس في التكييف لا في الأحكام وهم الشيخ مصطفى الزرقاء، والدكتور محمود الخالدي، فتخريجهم فيه نظر للأسباب التالية:
1 ـ اختلاف ماهية الفلوس عن الأوراق النقدية كما مر معنا.
2 ـ إذا أردنا أن نلحق الأوراق النقدية بالدنانير الذهبية والدراهم الفضية في الأحكام بالقياس على الفلوس، فهذا يعني أننا جعلنا الفلوس أصلاً، والأوراق النقدية فرعاً لها، ثم الفلوس فرع، والدنانير الذهبية والدراهم الفضية أصل لها.
وهذا من الناحية الأصولية غير صحيح، إذ لا يجوز قياس الفرع على الفرع بل يقاس الفرع الجديد على الأصل مباشرة، ومن ثم فلا نقيس الأوراق النقدية على الفلوس بل على الدنانير الذهبية والدراهم الفضية.
يقول الغزالي موضحاً شروط الأصل في القياس: ((الرابع: أن لا يكون الأصل فرعاً لأصل آخر، بل يكون ثبوت الحكم فيه بنص أو إجماع، فلا معنى لقياس الذرة على الأرز، ثم قياس الأزر على البر، لأن الوصف الجامع إن كان موجوداً في الأصل الأول كالطعم مثلاً، فتطويل الطريق عبث، إذ ليست الذرة بأن تجعل فرعاً للأرز أولى من عكسه، وإن لم يكن موجوداً في الأصل فبم يعرف كون الجامع علة؟)).
وهكذا يتضح عدم صحة قياس الأوراق النقدية على الفلوس.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد