بسم الله الرحمن الرحيم
تاريخ التعدد [1]
لم ينشئ الإسلام نظام التعدد، وإنما حده بقيود وضوابط معينة وإلا فالتعدد موجود منذ القدم عند سائر الأمم، وكان في شريعة المتقدمين بل قد عدد بعض الأنبياء - عليهم السلام - كما في قصة إبراهيم وزوجتيه سارة وهاجر، وروي عن سليمان - عليه السلام - أنه كان تحته ثلاثمائة حرة [2]
بل كان حتى في قوانين البابليين والأشوريين وقد جاء المصريين وكان معمولاً به لدى الرمان والهنود، وكان يتباهى به زعماء العرب وملوك العجم.
وجاء الإسلام وأهل الجاهلية يعددون بلا قيد ولا شرط: فلربما كان عند الواحد منهم عشرة نسوة أو أكثر، فلما ظهر الإسلام هذب التعدد ووضع له الأسس والشروط المناسبة وقيده بالعدد فقصر على أربع زوجات وشدد فيه على العدد - وسيأتي ذكر هذه الشروط بعد قليل بمشيئة الله - تعالى -.
حكم التعدد
قال الله - تعالى -: ((وَإِن خِفتُم أَلاَّ تُقسِطُوا فِي اليَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِن خِفتُم أَلاَّ تَعدِلُوا فَوَاحِدَةً أَو مَا مَلَكَت أَيمَانُكُم ذَلِكَ أَدنَى أَلاَّ تَعُولُوا)) (سورة النساء آية 3).
دلت هذه الآية على جواز نكاح أكثر من واحدة بشرط العدل ـ إلى أربع زوجات حرائر يجمع بينهن الرجل.
وجاءت أحاديث تؤكد معنى هذه الآية: منها:
حديث ابن عمر رضي الله - تعالى -عنهما أن غيلان بن سلمة أسلم وعنده عشرة نسوه فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أمسك أربعاً وفارق سائرهن)) [3]
ومنها: حديث قيس بن الحارث قال: (أسلمت وعندي ثمانية نسوة، فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكرت ذلك له ففال: ((اختر منهن أربعاً)) [4].
وقد أجمع المسلمون على جواز الجمع بين أربع زوجات فأقل، وأنه لا يجوز الزيادة على ذلك [5].
وعلى ذلك جرى عمل المسلمين (إذ لم يسمع عن أحد من الصحابة ولا التابعين أنه جمع في عصمته أكثر من أربع) [6].
وأما النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد (اتفق العلماء على أن من خصائصه - صلى الله عليه وسلم - الزيادة على أربع نسوة يجمع بينهن) [7].
وقد مات - عليه الصلاة والسلام - عن تسع نسوة كما ثبت ذلك في الصحيحين [8].
وغيرهما من حديثا ابن عباس وأنس - رضي الله عنهم -.
وفي زيادته على أربع نسوة: حكم كثيرة ذكرها العلماء بل أفردوا في ذلك مؤلفات خاصة، وليس هذا محل التفصيل في ذلك [9]
هل الأفضل التعدد، أم الاقتصار على واحدة؟
- ذهب بعض أهل العلم إلى أنه يستحب أن لا يزيد على واحدة إن حصل بها الإعفاف لما فيه من التعرض للمحرم وهو الجور وعدم العدل [10].
- وذهب بعضهم إلى أنه راجع إلى حال الشخص، فقد يكون في حق بعض الأشخاص هو الأولى، ولا يكون كذلك بالنسبة إلى آخرين: مثل أن يكون للرجل قريبة يتيمه وليس لها أهل فالأولى في حقه أن يضمها إلى زوجته [11].
والمتأمل في النصوص ومقاصد الشرعية وحكم التعدد ومصالحة يتبين له أن الأفضل في حق القادر الذي يأمن من نفسه الجور: أن الأفضل له أن يزيد على واحدة على حسب حاله. وهذا هو رأي الشيخ العلامة عبد العزيز بن باز(مفتي الديار) والشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين [12]وغيرها.
وأسوق هنا فتوى سماحة الشيخ ابن باز لفائدتها واشتمالها على الأدلة:
قال الشيخ - حفظه الله - تعالى -: (الأصل في ذلك شرعية التعدد لمن استطاع ذلك ولم يخف الجور لما في ذلك من المصالح الكثيرة في عفة فرجه وعفة من يتزوجها الإحسان إليهن وتكثير النسل الذي به تكثر الأمة وتكثر من يعبد الله وحده، ويدل على ذلك: قوله - تعالى -: ((وَإِن خِفتُم أَلاَّ تُقسِطُوا فِي اليَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِن خِفتُم أَلاَّ تَعدِلُوا فَوَاحِدَةً أَو مَا مَلَكَت أَيمَانُكُم ذَلِكَ أَدنَى أَلاَّ تَعُولُوا))، ولأنه - صلى الله عليه وسلم - تزوج أكثر من واحدة، وقد قال الله - سبحانه وتعالى -: ((لَقَد كَانَ لَكُم فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسوَةٌ حَسَنَةٌ)).
وقال - صلى الله عليه وسلم -: كما قال بعض الصحابة: أما أنا فلا أكل اللحم، وقال أخر: أما أنا فأصلي ولا أنام، وقال أخر: أما أنا فأصوم ولا أفطر، وقال أخر: أما أنا فلا أتزوج النساء فلما بلغ - صلى الله عليه وسلم - خطب الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ((إنه بلغني كذا وكذا ولكني أصوم وأفطر وأصلي وأنام وأكل اللحم وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني)) وهذا اللفظ العظيم منه - صلى الله عليه وسلم - يعم الواحدة والعدد. والله ولي التوفيق) [13] أ. هـ
إن الله - تعالى -حكيم عليم لا يشرع لعباده أمر إلا لحكمة، وقد تكون هذه لحكمة ظاهرة، وقد تكون خفية. وعلى المرء أن يسلم لأمر الله وقضائه وإن لم يدرك الحكمة، والتعدد مشروع لحكم كثيرة، ويترتب عليه من المصالح مالله به عليم.
وهذه المصالح والفوائد على قسمين:
من حكم مشروعية التعدد [14]
· مصالح وفوائد خاصة.
· مصالح عامة.
ونذكر هنا شيئا مما ذكر من المصالح، فنقول:
المصالح الخاصة
وهي المصالح العائدة إلى الزوج أو الزوجة، فمنها:
* أن في التعدد حفظا للأسرة الواحدة وحماية لها من التفكك والانهيار وذلك أن المرأة (الزوجة) قد تكون عقيماً أو مريضة مرضاً يمنع من الإنجاب أو يقلل منه، فيعوق حينئذ على الزوج مقصد عظيم من مقاصد الزواج فإن من طبيعته الرغبة في الإنجاب، ولحل هذه المشكلة لابد من أحد مرين:
أولهما: الطلاق، وهذا له عواقبه المعروفة
ثانيهما: أن يبقي زوجته تلك ويتزوج أخرى، ولاشك أن هذا هو الأولى حفاظاً على الأولى من البقاء بلا زوج.
* كما أن التعدد يحل في كثير من الأوقات مشكلة الخلاف والشقاق بين الزوجين حين يتعذر المصلح فقد يكون الحل الأمثل أن تبقى الزوجة خاصة إذا كان الخلاف الأقوى من جانب الزوج وحينئذ يستخدم حقه في التعدد.
* فيه إعفاف للرجل حين تقوى رغبته، ويشتد توقانه للنساء فلا يكتفي بواحدة وفيه قدرة على العدل، فحينئذ شرع له أن يعدد.
* صيانة المرأة من الوقوع في الرذيلة وبخاصة في هذا الوقت الذي كثرت فيه الفتن وعم فيه البلاء، فخير للمرأة أن تكون ثانية أو ثالثة خير لها من التعرض للفتنة. وقانا الله والمسلمين شرها
* فيه حل لمشكلة العوانس والمطلقات، فقد أصبحت مشكلة العنوسة بين الفتيات ظاهرة للعيان، وعند مكاتب الإحصاء: الخبر اليقين، وهي مشكلة يئن منها العالم كله، وفي هذه البلاد من ذلك الشيء الكثير حتى بلغ الأمر أن يوجد في أحد البيوت: خمس عوانس أعمارهن من الثلاثين إلى الخامسة والأربعين. 1
ولهذا الداء أسباب كثيرة ليس هذا مقام ذكرها لكن يهمنا أن نعلم أن في التعدد حلا ظاهراً وداء ناجعا لكثير من ضحايا العنوسة.
وقد صرحت إحدى العانسات وقد بلغت الخامسة والأربعين وقالت بملء فيها: (أعطوني ولو نصف زوج). 2
وما يقال في العوانس يقال في المطلقات، وإن كانت المطلقة أكثر فيلا إلى التعدد من المبكر (العانس) في الغالب.
* من الناس من هو كثير الأسفار والتنقلات وراء مصالحه فتكون حاجته ماسة إلى من يؤنسه في غربته، وفي المقابل ربما تكون الزوجة موظفة لا تمكث في البيت إلا ريثما تستعد للذهاب إلى العمل مر ة أخر ى وهذا موجود بالنسبة للطبيبات، والرجل بحاجة إلى من تؤنس رغبته وتزيل وحشته فيحتاج إلى أن يتزوج بأخرى.
هذه بعض الفوائد والمصالح المتعلقة بالأزواج والزوجات.
ثانياً: المصالح العامة
وهي التي تعود على الأمة كلها والمجتمع بأسره:
* تكثير عدد الأمة: فإن الأمة بحاجة إلى كثرة أعدادها، وهذه الحاجة مقصد شرعي حث عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - في غير ما حديث كقوله - عليه الصلاة والسلام -: ((تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم)) [15].
وكانت الأمم ولا تزال تتفاخر بالكثرة، وقد قال الأعشى:
ولست بالأكثر منهم *** حصى وإنما العزة للكاثر
وقد لاحظ هذه المصلحة أحد زعماء المسلمين في (نيجريا) عندما أراد أن يزداد عدد المسلمين ليفوق عدد النصارى واللادينيين فحثهم على التعدد وهم بطبيعة الحال راغبون فيه فتضاعف عددهم أضعافا كثيرة [16]
* التعدد يشتمل على الرحمة والعدل إذا إن في تطبيقه إلقاء العبء (امرأة بلا زواج) عن كاهل المجتمع، وبخاصة إذا علمنا أن نسبة عدد النساء تفوق نسبة عدد الرجال في كثير من المجتمعات، وسبب ذلك: إما لما يتعرض له الذكور من الآفات والحروب، وإما لكثرة المواليد من الإناث، وهذا مشاهد ملموس،
وقد أخبر عنه نبينا - صلى الله عليه وسلم - في الحديث عن أنس بن مالك رضي الله - تعالى -عنه قال: سمعت رسول لله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من أشراط الساعة: إن يقل العلم، ويظهر الجهل ويظهر الزنا، وتكثر النساء ويقل الرجال حتى يكون لخمسين امرأة القيم الواحد)) [17].
والإحصاءات تدل على ذلك في كثير من البلدان [18]
* أن في التعدد توثيقاً للروابط والصلات بين أفراد المجتمع وأسره، وذلك أن النكاح في أصله جعله الله - تعالى -قسيما للنسب فقال - تعالى -((وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ المَاء بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهرا)).
فإذا كان النكاح في أصله كذلك، فإن في كثرة النكاح وتعدده زيادة ربط وتوثيق بين أسر المسلمين [19].
هذه بعض المصالح والحكم والغايات التي شرع من أجلها التعدد.
----------------------------------------
[1] انظر في ذلك (حقوق النساء في الإسلام) للشيخ محمد رشيد رضا (ص /61)، المرأة بين الفقه والقانون للسباعي (ص/71) (تعدد الزوجات) د. عبد الناصر العطار (ص/ 27ـ108) (تعدد الزوجات) للشيخ إبراهيم الضبيعي (ص/ 42)
[2] (نسيم الرياض في شرح شفاء القاضي عياض) لشهاب الدين الخفاجي (1/574)،
[3] رواه الترمذي (1128) وابن ماجة (1953) وأحمد (2/44).
وصححه الحاكم (2/192) وابن حبان (1377).
وصححه الشيخ الألباني في إرواء الغليل (6/291).
وصححه العلامة أحمد شاكر المسند\" بتحقيقه (6/237) وقد أطال في ذلك.
[4] رواه أبو داود (2241) وابن ماجه (1952) وحسن إسناده الحافظ ابن كثير في تفسيره (1/451)، وحسنه الألباني أيضاً في إرواء الغليل\" (6/295).
[5] انظر\" موسوعة الإجماع\" لسعدي أبو حبيب (2/1078)
[6] تفسير القرطبي\"(5/13). قال ابن حزم في (المحلى) (9/441) (وخالف في ذلك قوم من الروافض لا يصح لهم عقد الإسلام).
[7]) فتح \" الباري\" (4/16)
[8] البخاري (268)، (5076)ومسلم (1462)
[9] انظر\" فتح لباري \" (9/17)، \" مرشد المختار\" لابن طولون (ص/251)، \"شبهات وأباطيل\" لمحمد على الصابوني.
[10] كشاف القناع\"(5/9)، \"شرح منتهي الايرادات (3/4).
[11] المفصل في أحكام المرأة د. عبد الكريم زيدان (6/287)، (الإفصاح عن بعض المسائل المهمة في النكاح) لأم عبد الله الناصر(ص/72).
[12] في (اللقاء الشهري رقم 11)، تعدد الزوجات للشيخ إبراهيم لطبيعي (ص/122).
[13] انظر هذه الفتوى وفتوى أخرى في\" فضل تعدد الزوجات\" لأبي عبد الرحمن (ص/17-18) وانظر تفصيل المسألة في كتاب (تعدد الزوجات إعجاز تشريعي) د. محمد شتا أبو سعد (ص/71-90).
[14] انظر في ذلك: (الإسلام عقيدة وشريعة) (ص/180). (حقوق النساء في الإسلام) (ص/69) للشيخ محمد رشيد رضا.
(حكمة التشريع وفلسفته) لعلي الجرحاوي (2/8). (أضواء البيان) (تفسير آية 9 من سورة الإسراء). (إتحاف الخلاف) د. فيحان المطيري (ص/318).
(فقه السنة) (2/249). (التحرير والتنوير) لابن عاشور(4/ 256). (تعدد الزوجات) د. عبد الناصر العطار (ص/23) وسائر كتب التعدد.
[15] رواه أبو داود (2050) والنسائي (6/66) من حديث معقل بن نساء - رضي الله عنه - وهو حديث صحيح. صححه الحافظ بن حجر في (الفتح) (9/13) والألباني في (الإرواء) رقم (1784).
[16] هو احمد أبلو - رحمه الله تعالى -وانظر (أحكام الزواج) للامين الحاج محمد (ص/208).
[17] رواه البخاري (81) ومسلم (2671).
[18] انظر(تعدد الزوجات) للعطار (ص/208).
[19] الزواج لابن عثيمين (ص/27) وعنه: تعدد الزوجات لإحسان العتيبي (ص/31).
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد