فقه الاستفتاء في رمضان


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على خير عباده الذين اصطفى، وبعد: إن من الوقفات المنهجية التي ينبغي أن نلتفت إليها في هذا الشهر مسألة تتعلق بفقه الاختلاف، فكثير من المسلمين إذا جاء هذا الشهر الكريم يبدأ فيسأل عن الدقيق والجليل، خشية أن يرد على صومه وإمساكه طوال نهاره ما يفسده أو يخرم أجره.

وبعض المستفتين ربما عرض له على سؤاله أكثر من جواب، إما لحرص المستفتي الزائد الذي ربما دفعه لسؤال أكثر من مفتي، أو لورود جواب آخر من مفت على نفس سؤاله وهذا متصور، وربما قرأ المستفتي كذلك جواب سؤاله في كتب متفرقة متعلقة بالفتاوى الرمضانية وأحكام الصيام فوجد أكثر من جواب، وقد تتعدد الأجوبة عند المستفتي لأسباب أخرى.

والسؤال الذي يطرح هنا: ماذا يفعل المستفتي في مثل هذه الحال؟

وقبل أن أعلق على هذا أوصي إخوتي المستفتين الحريصين على الخير بألا يكثروا من السؤال بغير حاجة، فإذا سأل فليسأل واحداً يرضاه هو الأوثق عنده، وألا يكرر السؤال على غيره حتى لا يقع في اضطراب إذا تباين الجواب.

وذلك لأن فرض غير طلاب العلم وأهله تقليد الأعلم والأتقى، فإذا عرض لأحدهم ما يحتاج إلى السؤال عنه، فعليه أن ينظر أوثق المفتين لديه ديانة وعلماً، ولا يسأل من لا يعرف حاله أو لا يطمئن إليه فإن ذلك لا يبرئ ذمته، ولا يعلق الفتوى برقبة المفتي كما يظنه بعض الجهال، بل كل نفس بما كسبت رهينة، فهو محاسب على تفريطه في السؤال، وإن أفتاه مفت بغير علم فهو محاسب على فتواه.

فالواجب على السائل أن يبحث عمن يطمئن إلى فتواه من أهل العلم والتقى، احتياطاً لدينه كما يفعل في شؤون دنياه، ومن المؤسف أن تجد بعضهم لا يبالي عمن أخذ دينه! بينما يحتاط لدنياه أعظم الاحتياط.

وأنت تجد الناس في أمور الدنيا يحتاطون فإذا أراد أحدهم أن يبني نظر وبحث وفتش عن المقاول الأجدر، وإذا مرض توجه إلى الطبيب الأحذق، وإذا استشار استشار المهندس المرضي عنده، وهذا كله حسن لا يثرب على فاعله، بل التثريب على الأحمق الذي إذا أراد أن يبني تصيد رجلاً من الشارع وجعله مقاولاً ورضي بأن يبني له.

ولكن الذين يتوجه لهم الذم هم أولئك الذين تجد أحدهم حريصاً على صلاح دنياه، ثم لا تجد منه على أمر دينه حرصاً، ودين الله بذلك أولى، وحرصه عليه لو عقل أحرى، والله - عز وجل - يقول: \"..فَاسأَلوا أَهلَ الذِّكرِ إِن كُنتُم لا تَعلَمُونَ\" [النحل: 43، الأنبياء: 7] في آيتين من كتابه، وهذا أمر بسؤال أهل صفة مخصوصة، وقال - سبحانه - عن المنافقين: \"وَإِذَا جَاءَهُم أَمرٌ مِنَ الأَمنِ أَوِ الخَوفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَو رَدٌّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمرِ مِنهُم لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَستَنبِطُونَهُ مِنهُم وَلَولا فَضلُ اللَّهِ عَلَيكُم وَرَحمَتُهُ لَاتَّبَعتُمُ الشَّيطَانَ إِلَّا قَلِيلاً\" [النساء: 83].

وهنا يحسن التنبيه إلى أن الأوثق من أهل العلم قد يتباين عند الرجل الواحد باعتبار الأمر المسؤول عنه ولا حرج في ذلك، فربما كان الأعلم في بابٍ, غيرُه أعلم منه في بابٍ, آخر، وهذا مشهور فكثير من أهل العلم جبل في الحديث فإذا جاء الفقه رجح به غيره ممن هو دونه، ومنهم من يرجح في مسائل الاعتقاد فإذا جاء التفسير رجح به غيره وهكذا.

والخلاصة مما سبق هو أن على السائل ما لم يكن من طلاب العلم وأهله الباحثين في مسائله أن يكتفي بسؤال مفت واحد هو الأرجح عنده.

وبالمقابل على المفتين إذا جاءهم سائل وقد علموا استفتاءه أحد أهل العلم المعتبرين في أمر أمضاه، بأن يبينوا للعامي فرضه وما يجب عليه دون أن يلغوا فتوى المفتين المعتبرين لمخالفتهم لها ابتداء.

أما إذا عرضت للشخص فتويان متباينتان من عالمين معتبرين اتفاقاً أو لأسباب مرضية دون تعن منه أو تعنت في طلبهما، فهنا يتوجه في حقه الأخذ بقول أرجح المفتين لديه وأكثرهم علماً وورعاً في ناظريه.

فإذا لم يبن له رجحان أحدهما، فذهب بعض أهل العلم إلى جواز أخذ العامي بالأيسر عند اختلاف المفتين، ولعل اليسر هنا مرجح لأحدى الفتويين لمن كانت تلك حالهº لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما خير بين أمرين إلاّ اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً.

أما طالب العلم فليس له أن يأخذ قول أحدهما مسلما ما لم يستغلق عليه فهم وجه قول كل مفتي، ومن ثم الحكم أي الأقوال أوجه وأولى.

وأخيراً يحسن التنبيه إلى أن الفتوى كما أنه ينبغي التحري عند طلبها فلا تؤخذ من كل من هب ودب ودرج، فإن على المسؤول أن لا يجب عما لا يحسن، فدين الله ينبغي أن يكون الكلام فيه بعلم، أو يسكت المسؤول بحلم، فإن لم تعرف في المسألة نص ولا أثر أو عرفت ولم تدر ما حاله محكم أو غير محكم، ثابت أو غير ثابت فاسكت، فإنه بك أجمل ولك أسلم، أما أصحاب المجازفات الذين لايحجمون عن مسألة، ويقتحمون كل معضلة، متصدرين مصدرين تلك العبارات البئيسة من أفواههم: أظن! وفي نظري! وفي تقديري! وفي رأيي! وهكذا بنحوها يجتهدون في الدين بغير آلة، ودون مسوغ سوى الإعجاب بعقولهم القاصرة، فليتقوا الله وليعلموا أنه - سبحانه - رتب المحرمات، فقال عز من قائل: \"قُل إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنهَا وَمَا بَطَنَ وَالإثمَ وَالبَغيَ بِغَيرِ الحَقِّ وَأَن تُشرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَم يُنَزِّل بِهِ سُلطَاناً وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعلَمُونَ\" [لأعراف: 33]، وقال - تعالى - عن الشيطان: \"إِنَّمَا يَأمُرُكُم بِالسٌّوءِ وَالفَحشَاءِ وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعلَمُونَ\" [البقرة: 169]، وقال - سبحانه -: \"وَلا تَقفُ مَا لَيسَ لَكَ بِهِ عِلمٌ إِنَّ السَّمعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلٌّ أُولَئِكَ كَانَ عَنهُ مَسؤُولاً\"، [الإسراء: 36].

وفقني الله وإياكم لما يحبه ويرضاه، وجنبنا أسباب سخطه وما يأباه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply