الأيمان ( 3 )


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه، وبعد:

نواصل ما بدأناه في الحلقتين السابقتين حول الأيمان فنقول وبالله التوفيق:

ثالثًا: اليمين المنعقدة:

اليمين المنعقدة: هي اليمين يقصدها المسلم ويعقد قلبه على تحقيقها بفعل شيء أو عدم فعله في المستقبل، كأن يقول: والله لأشترين لك ثوبًا جديدًا غدًا، أو يقول: والله لا أدخل بيتك لمدة شهر.

 

شروط اليمين المنعقدة:

لكي تكون اليمين منعقدة، لا بد أن يتوافر فيها عدة شروط، وهذه الشروط بعضها خاص بالحالف نفسه، وبعضها خاص بالشيء المحلوف عليه، وبعضها خاص بصيغة اليمين، وسوف نتحدث عن كل منها بإيجاز:

1- شروط الحالف:

يُشترط في الحالف: الإسلام، والعقل، والبلوغ، والتلفظ باليمين مع القصد والاختيار.

2- شروط المحلوف عليه:

يُشترط في المحلوف عليه أن يكون أمرًا مستقبلاً، وأن يكون متصور الوجود حقيقة عند الحلف، بمعنى أن يكون غير مستحيل وجوده.

3- شروط صيغة الحَلِف:

يُشترط فيها التلفظ باليمين، ولا تكفي النية وحدها، وأن يكون الحلف باسم من أسماء الله - تعالى -أو بصفة من صفاته، وأن يكون خاليًا من الاستثناء وهو قول: إن شاء الله(1).

 

حُكمُ اليمين المنعقدة:

يجب الوفاء باليمين المنعقدة، مع وجوب الكفارة على صاحبها في حالة عدم الوفاء بها. يقول الله - تعالى -: وَلاَ تَنقُضُوا الأَيمَانَ بَعدَ تَوكِيدِهَا وَقَد جَعَلتُمُ اللَّهَ عَلَيكُم كَفِيلاً [النحل: 91].

وقال - سبحانه -: لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغوِ فِي أَيمَانِكُم وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُمُ الأَيمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِن أَوسَطِ مَا تُطعِمُونَ أَهلِيكُم أَو كِسوَتُهُم أَو تَحرِيرُ رَقَبَةٍ, فَمَن لَم يَجِد فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ, ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيمَانِكُم إِذَا حَلَفتُم وَاحفَظُوا أَيمَانَكُم كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُم آيَاتِهِ لَعَلَّكُم تَشكُرُون [المائدة: 89].

 

كفارة اليمين المنعقدة:

كفارة اليمين المنعقدة: إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، أو تحرير رقبة مؤمنة، والمسلم مخير بين هذه الثلاث، فله أن يُكفِّر بأيها شاء، فإن عجز ولم يستطع أن يفعل واحدًا منها فإنه ينتقل إلى الصوم، فيصوم ثلاثة أيام متتابعات أو متفرقات، ولا يُجزئ الصوم إلا بعد العجز عن الإطعام أو الكسوة أو عتق رقبة مؤمنة(2).

 

الحنث في اليمين باعتبار المحلوف عليه:

ينقسم حكم الحنث في اليمين باعتبار المحلوف عليه إلى خمسة أقسام هي:

1- إن كانت اليمين على فعلِ واجبٍ, أو تركِ مُحرَّمِ كان حَلٌّها (عدم الوفاء بها) مُحرَّمًا لأن حَلَّها بفعل المَحرَّم.

2- إن كانت اليمين على فِعل مندوب (مستحب) أو ترك فعل مكروه، فحَلٌّها (عدم الوفاء بها) مكروه.

3- إن كانت اليمين على فعل مباح (جائز) فحَلٌّها (عدم الوفاء بها) مباح.

4- إن كانت اليمين على فعل مكروه أو ترك مندوب، فحلٌّها مندوب إليه (يُستحب عدم الوفاء بها) لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعبد الرحمن بن سَمُرة: «إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرًا منها، فأت الذي هو خير وكفِّر عن يمينك».

5- إن كانت اليمين على فعل مُحرَّم أو ترك واجب، فحلٌّهَا (عدم الوفاء بها) واجب لأن حَلَّها بفعل الواجب، وفعل الواجب واجب(3).

اليمين على نية المستحلِف:

إن اليمين تكون على نية الحالف في كل الأحوال إلا إذا استحلفه القاضي أو نائبه في دعوى توجهت عليه، والتورية- وإن كان لا يحنث بها- فلا يجوز فعلها حيث يبطل بها حق المستحلِف(4).

عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «يمينُك على ما يصدِّقك عليه صاحبك»(5).

روى مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «اليمين على نية المستحلِف»(6).

قال النووي: إذا ادعى رجل على رجل حقًا، فحلَّفه القاضي، فحلف وورَّى غير ما نوى القاضي، انعقدت يمينه على ما نواه القاضي ولا تنفعه التورية، وهذا مجمع عليه(7).

 

فائدة هامة:

لو كانت اليمين على نية الحالف لما كانت لها معنى عند القاضي ولضاعت الحقوق بين الناس.

 

التورية في اليمين:

التورية: هي أن يقصد الحالف شيئًا غير الذي يحلف عليه إذا كان المستحلف ظالمًا للحالف أو لغيره، فيجوز للحالف التورية ليحفظ حقه أو لينصر مظلومًا(8).

ولأن الظالم ليس له حق التحليف، فجاز للمظلوم أن يوري في يمينه.

روى أبو داود عن سويد بن حنظلة قال: «خرجنا نريد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومعنا وائل بن حُجر، فأخذه عدو له، فتحرَّج القوم أن يحلفوا، وحلفت أنه أخي فخلى سبيله، فأتينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخبرته أن القوم تحرجوا أن يحلفوا، وحلفت، قال: صدقت، المسلم أخو المسلم»(9).

 

مبنى الأيمان على العُرفِ والنية:

قال الشيخ سيد سابق في «فقه السنة»: أمر الأيمان مبني على العُرف الذي دَرَجَ عليه الناس، لا على دلالات اللغة، ولا على اصطلاحات الشرع، فمن حلف ألا يأكل لحماً، فأكل سمكًا، فإنه لا يحنث، وإن كان الله سماه لحمًا، إلا إذا نواه، أو كان يدخل في عموم اللحم في عُرف قومه(10).

 

يمين الناسي والمكره والمخطئ:

من حلف أن لا يفعل شيئًا ففعله ناسيًا أو مخطئًا أو مكرهًا عليه كرهًا شديدًا، يضر بنفسه أو ماله أو عرضه، فلا إثم عليه ولا كفارة(11).

يقول الله - تعالى -: وَلَيسَ عَلَيكُم جُنَاحٌ فِيمَا أَخطَأتُم بِهِ وَلَكِن مَا تَعَمَّدَت قُلُوبُكُم [الأحزاب: 5].

روى أحمد عن أبي ذر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه»(12).

ومن صور الفعل الخطأ: أن يدخل المسلم دارًا لا يعرف أنها المحلوف عليها أو كمن حلف ألا يسلم على شخص مُعين، فسلم عليه وهو لا يعرف أنه هو الشخص الذي حلف ألا يسلم عليه.

الحنث في اليمين لمصلحة شرعية:

الحنث في اليمين: هو الخُلفُ وعدمُ الوفاء باليمين.

يجوز للمسلم أن يحنث في يمينه، ويكفر عنها من أجل مصلحة شرعية راجحة.

يقول الله - تعالى -: وَلاَ تَجعَلُوا اللَّهَ عُرضَةً لأَيمَانِكُم أَن تَبَرٌّوا وَتَتَّقُوا وَتُصلِحُوا بَينَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة: 224].

قال ابن جرير الطبري في تفسير هذه الآية:

«لا تجعلوا الله قوة لأيمانكم في أن لا تبروا ولا تتقوا ولا تصلحوا بين الناس، ولكن إذا حلف أحدكم فرأى الذي هو خير مما حلف عليه من ترك البر والإصلاح بين الناس، فليحنث في يمينه، وليبر، وليتق الله وليصلح بين الناس وليكفر عن يمينه(13).

روى مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا

منها، فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه»(14).

روى الشيخان عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «والله لأن يَلِجَ أحدُكُم بيمينه في أهله آثمٌ له عند الله من أن يُعطِي كفارته التي افترض الله عليه»(15).

اللَجَاجُ: هو أن يتمادى الإنسان في الأمر ولو تبين له خطؤه، وأصل اللجاج في اللغة هو الإصرار على الشيء مطلقًا(16).

قال النووي - رحمه الله -: معنى الحديث: أنه إذا حلف يمينًا تتعلق بأهله ويتضررون بعدم حنثه، ويكون الحنث ليس بمعصية، فينبغي له أن يحنث فيفعل ذلك الشيء ويكفِّر عن يمينه، فإن قال: لا أحنث، بل أتورع عن ارتكاب الحنث وأخاف الإثم فيه، فهو مخطئ بهذا القول، بل استمراره في عدم الحنث وإدامة الضرر على أهله أكثر إثمًا من الحنث(17).

وقت إخراج كفارة اليمين:

من حلف على يمين فهو مُخيَّر في إخراج الكفارة قبل الحنث وبعده سواء كانت الكفارة صومًا أو غيره إلا في كفارة الظهار فعليه إخراج الكفارة قبل الحنث في اليمين لقوله - تعالى -: فَتَحرِيرُ رَقَبَةٍ, مِن قَبلِ أَن يَتَمَاسَّا [المجادلة: 3](18).

روى البخاري عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إني إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرًا منها إلا أتيتُ الذي هو خير وتحللتها»(19). تحللتها: جعلتها حلالاً بإخراج الكفارة.

وروى الشيخان عن عبد الرحمن بن سمرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له: «إذا حلفت على

يمين فرأيت غيرها خيرًا منها، فأت الذي هو خير، وكفِّر عن يمينك»(20).

وفي رواية لأبي داود عن عبد الرحمن بن سمرة أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال له: «فكفِّر عن يمينك ثم ائتِ الذي هو خير»(21).

ورواية أبي داود صريحة في تقديم الكفارة على الحنث في اليمين، وممن قال بجواز تقديم الكفارة على الحنث في اليمين أربعة عشر صحابيًّا(22)، وقد أيد هذا المذهب البخاري في صحيحه حيث قال في كتاب كفارات الأيمان باب الكفارة قبل الحنث وبعدَهُ(23).

 

إخراج الكفارة قبل الحلف:

لا يجوز إخراج الكفارة قبل الحلف باليمين لأنه تقديم للحكم قبل سببه، فلم يجز كتقديم الزكاة قبل ملك النصاب وكفارة القتل قبل الجروح(24).

من مات وعليه كفارة يمين:

إذا مات المسلم وعليه كفارة يمين، وجب إخراجها من تركته قبل تقسيمها، سواء أوصى بذلك أم لم يوص(25).

 

---------------------------------------------------

1- بدائع الصنائع للكساني ج3 ص10: 12، الفقه الإسلامي وأدلته لوهبة الزحيلي ج3

ص392، 396.

2- بداية المجتهد لابن رشد ج1 ص628.

3- المغني لابن قدامة بتحقيق التركي ج13 ص444، 445،

بدائع الصنائع للكاساني ج3 ص17، 18.

4- نيل الأوطار للشوكاني ج8 ص302.

5- مسلم حديث 1653.

6- مسلم كتاب الأيمان حديث 21.

7- مسلم بشرح النووي ج6 ص131.

8- المغني لابن قدامة بتحقيق التركي ج13 ص497: 501.

9- أخرجه أبو داود وصححه الألباني.

10- فقه السنة للسيد سابق ج4 ص12.

11- روضة الطالبين للنووي ج11 ص78، 79،

المغني لابن قدامة ج13 ص446: 448.

12- حديث صحيح: صحيح الجامع للألباني حديث 1731.

13- جامع البيان لابن جرير الطبري ج2 ص402.

14- مسلم ج1 كتاب الأيمان حديث 13.

15- البخاري حديث 6625، ومسلم حديث 1655.

16- فتح الباري لابن حجر العسقلاني ج11 ص528.

17- مسلم بشرح النووي ج6 ص137.

18- المغني لابن قدامة ج13 ص481- 483، المحلى لابن حزم ج8 ص67.

19- البخاري حديث 6721.

20- البخاري حديث 6722، مسلم حديث 1650.

21- حديث صحيح: صحيح أبي داود للألباني حديث 2806.

22- فتح الباري لابن حجر العسقلاني ج11 ص617.

23- البخاري - كتاب كفارات الأيمان باب 10.

24- المغني بتحقيق التركي ج13 ص483.

25- روضة الطالبين للنووي ج11 ص25.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply