حول مقاله (تحريف مفهوم الجهاد) في كتابه: الأدمغة المفخخة:
الحمد لله حمداً لا ينفد، أفضل ما ينبغي أن يحمد، وصلى الله على أفضل المصطفين
محمد وعلى آله وصحبه ومن تعبد أما بعد:
فمما لا شك فيه عند المسلمين أن (الفيء) هو المال المأخوذ من الكفار من غير قتال، ولا إيجاف خيل ولا ركاب، وقد سماه الله فيئاً لأنه مما أفاءه الله على المسلمين، فرجع إليهم من الكفار، قال - تعالى -: ((وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنهُم فَمَا أَوجَفتُم عَلَيهِ مِن خَيلٍ, وَلا رِكَابٍ, وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيءٍ, قَدِيرٌ)) (الحشر: 6).
وذلك أن المال إنما خلقه الله لعباده لكي يستعينوا به على طاعته، ولما بقي على تلك العبادة الخالصة المسلمونº صاروا هم الأحق بتملك المال، كما قال - تعالى -: ((قُل مَن حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزقِ قُل هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدٌّنيَا خَالِصَةً يَومَ القِيَامَةِ)) (الأعراف: من الآية32).
قال ابن كثير في تفسيره (2/283): (أي هي مخلوقة لمن آمن بالله وعبده في الحياة الدنيا، وإن شركهم فيها الكفار حباً في الدنيا فهي لهم خاصة يوم القيامة) ا. هـ.
ومن هنا نستنبط بأن الأحق بالمال هم المسلمون، فإذا انتقل بيد الكفار وبقي معهم، وأقبلت جحافل الإيمان لقتالهم ـ باستثناء الذميين والمعاهدين والمستأمنين ـ ولم يقفوا أمامهم للقتال وتركوا أموالهم خوفاً فعندئذٍ, يفيء المال ويرجع إلى مستحقه الأصل وصاحبه الأحق وهم المسلمون ولذا قال الله: ((وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاءُ)) لأن المال الذي بيد الكافر لا يستحقه بعلة كفره بالله فماله عليه عذاب ووبال لأنه يستخدمه فيما يسخطه - عز وجل - وهذا بنص القرآن وتأمل قوله - تعالى -: ((فَلا تُعجِبكَ أَموَالُهُم وَلا أَولادُهُم إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الحَيَاةِ الدٌّنيَا وَتَزهَقَ أَنفُسُهُم وَهُم كَافِرُونَ)) (التوبة: 55).
يتضح لك أنه بقدر ما يجمعه الكفار من حطام الدنيا فإنه عليهم عذاب، بل لو أنفقوا أموالهم تلك في أمورهم المعيشية أو في مصالح خيرية بحتة لا تضر بشريعة الإسلام، فإن مالهم كذلك ضائع ولن يجزوا به إلا النار، قال - تعالى -: ((مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هَذِهِ الحَيَاةِ الدٌّنيَا كَمَثَلِ رِيحٍ, فِيهَا صِرُّ أَصَابَت حَرثَ قَومٍ, ظَلَمُوا أَنفُسَهُم فَأَهلَكَتهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِن أَنفُسَهُم يَظلِمُونَ)) (آل عمران: 117).
وسبب ظلمهم لأنفسهم أنهم كفروا بربهم فلم يتقبل منهم نفقاتهم قال - تعالى -: ((وَمَا مَنَعَهُم أَن تُقبَلَ مِنهُم نَفَقَاتُهُم إِلَّا أَنَّهُم كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُم كُسَالَى وَلا يُنفِقُونَ إِلَّا وَهُم كَارِهُونَ)) (التوبة: 54).
فما بالك إذا كانوا ينفقون أموالهم حرباً على المسلمين، وصداً عن سبيل المؤمنين، كحال الكفار الحربيين، فإن أموالهم تلك لن يجنوا منها إلا العلقم المر، والحسرات المتتاليات، قال - تعالى -: ((إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَموَالَهُم لِيَصُدٌّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيهِم حَسرَةً ثُمَّ يُغلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحشَرُونَ)) (لأنفال: 36).
لهذا كان الأحق بالمال من عبد الله ووحده، وإذا كان بيد الكفار فهو طارئ عليهم ولا يستحقونه لأنهم قد غصبوه من المسلمين أو صار بيدهم بغير حق شرعي يبيحه لهم، وقد مضت شريعتنا وبينت قاعدة فقهية عظيمة بأنه(ليس لعرق ظالم حق) وهي نصٌّ حديث في جامع الترمذي (1378) وقال: (حديث حسن غريب)، وسنن أبي داود(3073) والنسائي في الكبرى (3/405)، وحسَّنه الحافظ ابن حجر في بلوغ المرام (باب الغصب)وكذا الألباني في إرواء الغليل (5/355) وللحديث طرق عديدة وقد تلقاه بالقبول فقهاء الأمصار/ انظر: التمهيد لابن عبد البر: (22/280ـ 284)
وعليه فلو أتى المسلمون إلى ديار الكفار الحربيين ولم يقفوا لقتالهم فإن المال كله يرجع بيد أصحابه الأصلاء وهم المسلمون وذلك بنصِّ القرآن ـ والحمد لله على جزيل عطائه ـ ويقارب هذه المسألة تمثيلاً الأرض المملوكة فكثيراً ما تكون أحب للإنسان من ماله المخزون، وقد يتملكها الكفار ولكنها سترجع في العاقبة إلى من يستحقها، قال - تعالى -: ((إِنَّ الأَرضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِن عِبَادِهِ وَالعَاقِبَةُ لِلمُتَّقِينَ)) (لأعراف: من الآية128).
فتعين المصير والعاقبة في الأرض إلى المسلمين المتقين، قال - تعالى -: ((وَلَقَد كَتَبنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعدِ الذِّكرِ أَنَّ الأَرضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ)) (الأنبياء: 105). تلك خلاصة مجملة لحقيقة مسألة الفيء، والتي ذكرها العلماء في كتبهم بمثل هذا التوضيح.
وقد اطلعت مؤخراً على مقالة كتبها الأستاذ / زين العابدين الركابي، بعنوان (تحريف مفهوم الجهاد /عصم الله النص القرآني من التحريف فعمد الغلاة إلى تحريف المعنى) وفيها من المغالطات الفقهية، والمجازفات السلوكية ما لو قرأها المنصف لخرج بذلك، ولا غرابة فنحن في زمن.
خلا لك الجو فَبِيضِي واصفُرِي *** ونَقِّرِي ما شئت أن تنقِّرِي
ولكن...ليس على كل حال، فالمراقبون للكتابات في الأوساط الفكرية كُثُر، ويقع بعضها في الشباك (فلابد يوماً أن تصادي فاصبري).
والعبث الفكري لا ينجح كل مرة، وتبيين الحق أمر واجب وفرض علينا، حتى نحفظ تراثنا الإسلامي من تشكيك المشككين، والحمد لله.. فإن:
الحق شمس والعيون نواظر *** لكنها تخفى على العميان
وبداية... فإني لا أريد من الأستاذ الركابي أن يتشنج معي، في تقبل هذا التعقيب كما تشنج مع غيري، ومنهم رأي الداعية الذي بثه في مقاله (تحريف مفهوم الجهاد)، والذي سأذكره بعد قليل.
إنني أتمنى للركابي كل خير وبر وتوفيق... فلست من دعاة الفرقة والاختلاف، بل من دعاة السنة والجماعة والائتلاف، و ليتنا جميعاً إن بدا قولنا خطأً مغايراً للكتاب والسنة بالفهم الصحيح الموافق لمراد الله ورسوله، أن نتراجع كما تراجع بعض علمائنا ـ - رحمهم الله - ـ عندما وقعوا في بعض الأخطاء فبان لهم أن قولهم خلاف الصواب...، والله من وراء القصد.
* كثيراً ما يدعو الأستاذ /الركابي إلى تبني المنهج الموضوعي، والتفكير العلمي الرصين مع الإنصاف والاعتدال، وقد ذكر شيئاً من ذلك في كتابه ((الأدمغة المفخخة)) قائلاً: (تعالوا نبني هذا العالم الهادئ الآمن بما قل وكثر من العمل والتفكير والتعبير بالفكرة الرضية الندية... وبالكلمة الداعية إلى الله اللطيف الودود السلام، وإلى العدل والإنصاف والاعتدال.. وبالسلوك المتسامح.. وبالفعل الرفيق المسالم، وبالأدمغة النظيفة.. من التفكير في الإثم والعدوان الملأى بمفاهيم السلام والأمن والمرحمة ومحبة الخير والأمن للإنسان.. كل إنسان) انظر(صـ 13).
ويحاول الركابي أن يطرح رؤيته الفكرية مع الكفار حيث علق على قوله - تعالى -:
((عَسَى اللَّهُ أَن يَجعَلَ بَينَكُم وَبَينَ الَّذِينَ عَادَيتُم مِنهُم مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)) (الممتحنة: 7).
بقوله: (فهذه الآيات دعوة صريحة إلى الإيناس والإيلاف وفتح باب الاحتمالات الحسنة.. ) انظر(صـ 63).
والحاصل أن الإنسان سيخرج بخلفية معينة عن هذا الكاتب بأنه متزن في الطرح، متوافق مع ما كتب آنفاً.
والآن... بين يدي مقالة الأستاذ الركابي: (تحريف مفهوم الجهاد) والتي ضمنها في كتابه الأخير(الأدمغة المفخخة) من (صـ 28إلى صـ 35) وفي هذا المقال اختيارات موفقة، وتحليلات طيبة، ومعالجة جيدة لبعض مظاهر العنف، إلا أن فيه من الأخطاء الواضحة والمغايرة للصواب ما هو ظاهر، كما أنَّ فيه الاستخفاف ببعض آراء العلماء ـ وإن لم يذكرها في ثنايا مقاله ويَعزُهَا لأصحابها ـ ما يقف له شعر القارئ مستغرباً عمَّا انطبع في ذهنه بأن الركابي يناقش المسائل التي يخالفها بكل موضوعية وأدب، مع الفهم الصحيح.
وفي هذا التعقيب لن أناقش جميع ما يؤخذ على الركابي في مقاله حيث أتى بمغالطات عدة كان من ضمنها تنصله من ذكر جهاد الطلب (انظر ص 32 ـ 33 ـ 34 في مقاله آنف الذكر) واشتراطه بأن يكون الجهاد للدفاع فقط، ولا شك أنَّ هذا غلط ظاهر، وقول غير صحيح فإنَّ أئمة الإسلام قد أطبقوا على استنكار هذه الدعوى وأفردوها بكتب ومؤلفات عدَّة فلتراجع في مواطنها.
وسأقتصر في هذا التعقيب على مناقشة رأيٍ, طرحه الركابي كان متشنجاً في نقاشه، ونصه ـ:
((ومنذ قريب سمعت رجلاً داعية يقول: معنى الفيء: أن الأصل في المال هو للمسلمين ولذلك يجب أن ينتقل من الطارئين عليه، أي غير المسلمين إلى أصحابه الأصلاء وهم المسلمون) وهذه جهالة، بل حمق، بل جنون. فالله ليس هو رب هذا المتكلم فحسب، بل هو رب غير المسلمين كذلك: رب اليهودي والنصراني والوثني والملحد، رب كل إنسان، ولقد تجلى الرب على البشر الذين خلقهم بصفة الربوبية فأمدهم جميعاً بعطائه الجزيل: ((كُلّاً نُمِدٌّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِن عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحظُوراً)) (الاسراء: 20).
وبمقتضى مقولة: إن أصل الأموال والخيرات للمسلمين وإنها يجب أن تفيء أو تعود إليهم، يجوز أو يحل نهب أموال غير المسلمين وسرقتها واغتصابها ومصادرتها، وعلى هذا يمكن لمسلم حاسد طامع ـ مثلاً ـ أن يستولي على بيت فخم جميل لإنسان غير مسلم، وحين يقاضيه صاحب البيت يدعي: أن أصل الملكية له هو لا لصاحب البيت!!. أي تفكير تافه.. أي جنون.. أي انحطاط خلقي هذا؟!... ا. هـ (انظرصـ31ـ32)
وفي هذا الكلام السابق يتضح منه التهكم بهذا الداعية حين ذكر السبب الذي سُمِّيَ به الفيء بهذا الاسم، ولي معه عدة وقفات:
الوقفة الأولى:
أما ما نقله الركابي عن هذا الداعية، فإنه كلام صحيح لا غبار عليه، وهو عين ما ذكره الفقهاء في كتبهم فهذا الداعية لم يأت بجديد، أو أنه عارض الكتاب والسنة، وما ذكره فهو استنباط من ظاهر الآية وأحاديث المصطفى ـ عليه الصلاة والسلام - وقد قعّدَ الفقهاء قاعدة فقهية جليلة وذكرها الإمام أبو الحسن الكرخي - رحمه الله - في أصوله بقوله: (الأصل أنَّ من ساعده الظاهر فالقول قوله والبينة على من يدعي خلاف الظاهر) أصول الكرخي صـ110 بواسطة الوجيز في إيضاح قواعد الفقه الكلية للشيخ/البورنو صـ180، فلا عبرة بقول الركابي ما لم يستدل على نقده بدليل واضح وبرهان قاطع يدفع ذلك الظاهر ويرده.
ولو ذكر الركابي حقيقة أخرى علَّل بها سبب تسمية الفيء بذلك فقد يكون له وجه بالقبول، إلَّا أنه قد تحمس برد ذلك السبب بكل سخرية وتهكم، بل بنى على ذلك التعليل أحكاماً ألزم بها مخالفه، لم يقلها ولم تخطر على باله، وسيأتي بيانها ـ إن شاء الله ـ.
الوقفة الثانية:
في هذه السطور سأذكر ـ بعون الله ـ شيئاً من كلام الفقهاء الذين سبقوا هذا الداعية بهذا التأصيل والتعليل من مئات السنين وأبين بأنه لم يفتئت على دين الله - عز وجل - ، بل لم يأت بجديد في ذلك إلا أنه قد قال بمثل ما قالوا به، وحيث أنَّ كلامهم في ذلك كثير، وقد يطول ذكره فإني سأقتصر في النقل على كلام لأحد الأئمة المجتهدين ثم أعقبه بالعزو إلى أحد علماء كل مذهب ذكر ذلك، ذاكراً المرجع ورقم المجلد والصفحة، ومن أراد مراجعة ذلك فليرجع إلى مدوناتهم، ليتبين للركابي أنَّ هذا القول قال به أئمة المذاهب، وعلماء الإسلام، ولم يقل به هذا الداعية المسكين فقط!
فلنعط القوس باريها، ولنخل بين المطي وحاديها، ولنذكر كلام العلماء ورأيهم في الذي اعتبره الركابي (جهالة ـ بل حمق ـ بل جنون)!! والله المستعان.
(أ) قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - ما نصه:
(وسمي الفيء فيئاً، لأن الله أفاءه على المسلمين، أي رده عليهم من الكفارº فإن الأصل أن الله - تعالى -، إنما خلق الأموال إعانة على عبادته، لأنه إنما خلق الخلق لعبادته فالكافرون به أباح أنفسهم التي لم يعبدوه بها، وأموالهم التي لم يستعينوا بها على عبادته، لعباده المؤمنين الذين يعبدونه، وأفاء إليهم ما يستحقونه، كما يعاد على الرجل ما غصب من ميراثه وإن لم يكن قبضه قبل ذلك) مجموع الفتاوى(28/276)
وهنا ـ تأمل ـ فإن ابن تيمية يعتبر أن الكافر كأنه غصب المال من المسلمين باستشهاده و تشبيهه بما لو غصب من الرجل ميراثه ثم عاد إليه وإن لم يكن قبضه قبل ذلك.
وقال كذلك - يرحمه الله - (وما لم يقاتلوا عليه فهو فيء، لأن الله أفاءه على المسلمين، فإنه خلق الخلق لعبادته، وأحل لهم الطيبات، ليأكلوا طيباً، ويعملوا صالحاً، والكفار عبدوا غيره، فصاروا غير مستحقين للمال، فأباح للمؤمنين أن يعبدوه وأن يسترقوا أنفسهم، وأن يسترجعوا الأموال منهم، فإذا أعادها الله إلى المؤمنين منهم فقد فاءت، أي رجعت إلى مستحقيها) مجموع الفتاوى (28/562)
وبمثله قال ابن القيم في عدة الصابرين (صـ312ـ 313)، ووافقهم الزركشي ـ الحنبلي ـ في شرحه على مختصر الخرقي (4/145)، والشربيني ـ الشافعي ـ في مغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج (4/145)، وأبو العباس القرطبي ـ المالكي ـ في المفهم شرح صحيح مسلم(3/557)، والقاضي ابن العربي ـ المالكي ـ في أحكام القرآن(4/1770) ـ (2/855)، والقاضي أبو السعود ـ الحنفي ـ في إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم(8/227) فليرجع إليها في مواضعها.
وليعلم أن هذا كله في المحاربين من الكفار للمسلمين بأن آذوهم كما آذى بنو النضير محمداً - صلى الله عليه وسلم - ، فخرج لقتالهم، أومن أرادهم المسلمون بجهاد الطلب ليحرروا الناس من عبودية الطاغوت ويزيلوا العوائق التي تحول بينهم وبين سماع دين الحق، ويهدوهم إلى عبودية الله - عز وجل - فلو فر الكفار ولم يقاتلوا المسلمين فإن مالهم يرجع فيئاً للمسلمين، فتأصيل العلماء لهذا المبدأ جارٍ, على هذه الأطر والضوابط، ولهذا ذكر العلماء أنَّ الكافر إذا أسلم فإنَّ تملكه صحيح ولا يجبر بالخروج عنه، و لم يقل أحد منهم بأنه يجوز للمسلم أن يسرق أو ينهب مال الكافر إذا كان ذمياً أو معاهداً أو مستأمناً، كما فهم ذلك الأستاذ الركابي ـ هداه الله ـ وجعله لازماً ومقتضى لمن يقول بأن الفيء أصله للمسلمين فإذا انتقل من الكفار فقد رجع إلى من يستحقه وهم المسلمون، وعلى هذا فعندما ذكر الركابي أنه بمقتضى هذا القول (يمكن لمسلم حاسد طامع أن يستولي على بيت فخم جميل لإنسان غير مسلم، وحين يقاضيه صاحب البيت يدعي أن أصل الملكية له هو لا لصاحب البيت... لأن أصل الأموال والخيرات للمسلمين) فهذا الذي ذكره الركابي هو في الحقيقة فهم ساقط، وقول لم يقله أحد لا من المتقدمين ولا من المعاصرين، فهولازم لا يلزم، وقول يستسفهه من كان قليل العلم والمعرفة فضلاً عن علماء أفذاذ، فلتتق الله أيها الأستاذ، ولا تلبس الحق بالباطل، وصدق من قال:
وكم من عائب قولاً صحيحاً وآفته من الفهم السقيم واعلم أنك ستسأل يوم الدين عما كتبت:
فلا تكتب بكفك غير شيء *** يسرك في القيامة أن تراه
والآن فقد بان واتضح أن هذا القول الذي قذفه الأستاذ بأبشع الألفاظ وأقذع العباراتº هو عين قول الفقهاء المتمكنين ومن مذاهب شتى، ليعلم الجميع أن الأقوال التي رماها الركابي في نقد هذا القول يدل على مقدار عقل صاحبه، وكيف أنه يناقش الكلام السابق ذكره بهذه العقلية المتشنجة ـ ويا للأسف ـ وهذا عين ما ابتلينا به في هذا العصر حيث يطلق كثير من المفكرين الكلام على عواهنه جزافاً بلا تأصيل أو ربط، لأنها فكرة دندنت في رؤوسهم فصبوها في مقالاتهم دون مراجعة لكلام العلماء المتخصصين ولم يلقوا بالاً في خاطرهم، بأنه قد يعتريها الخطأ والانحراف، وهذا ما ابتلي به الركابي فأطلق هذه العبارات الشديدة والتي خرجت عن حيز العقلانية (والسلوك المتسامح) و(فتح باب الاحتمالات الحسنة)التي يبني بدعواه مقالاته عليها!
ولو كلف الدكتور نفسه بأن يجهد عينيه قليلاً للجولان بالنظر في بطون الكتب الفقهية لوجد ما يسند قول هذا الداعية ولوجد له سابقاً من مئات السنين.
خاصة أني ومن خلال مطالعتي لكتابات الأستاذ الركابي، وجدت أنه إذا رأى قولاً يراه الصواب فإنه يأتي بما يسند قوله ذاك، من آراء العلماء المتقدمين مثل/ ابن تيمية، وابن المُنَيِّر، والقرافي، وابن كثير، فلم لا يبحث عمن يسند قوله من العلماء السابقين بأن من قال هذا القول فإنه صاحب جهالة وحمق وجنون، ويقيني أنه لن يجد ما يعزز فكرته التي طرحها في مقاله.
فإن زعم الأستاذ بأنه لم يكن يدري بأن العلماء السابقين قالوا بمثل هذا القول الذي نقده أو قريباً منه، فإن هذه رزيةº فكيف يتحدث في مسألة شرعية فقهية، ولم يقلب صفحات التراث الفقهي الضخم الذي خلفه لنا علماؤنا.
ورحم الله أبا العباس بن تيمية ـ حين قال ـ (العلم إما نقل مُصَدَّق، أو استدلال مُحَقَّق، وما سوى ذلك فباطل مزَوَّق) مجموع الفتاوى.
وليت أن الأستاذ الركابي عرض نقده ذاك على بعض الفقهاء المتخصصين، حتى يعلم جرم ما قاله وأن فهمه كان مخالفاً للصواب، ومن جميل كلام ابن المقفع قوله:
(لا ينبغي للمرء أن يعتد بعلمه ورأيه ما لم يذاكره ذووا الألباب، و لم يجامعوه عليه، فإنه لا يستكمل علم الأشياء بالعقل الفرد) الأدب الصغير(صـ73).
و يؤسفني ـ والله ـ أن يفحش الأستاذ الركابي بالنقد للكلام السابق بعبارات يظن أنه إذا قالها فسيفرض رأيه بالقوة، ويقتنع الناس بكلامه ذاك لأنه قول (جنون)، وأخشى أن يكون الركابي قد أخذ منزع (الإسبارطيين) والذين يحققون أفعالهم وأقوالهم بالقوة والعنف، بغض النظر عن البحث في مسائل الدين، وعقلانية السلوك والأخلاق!! والله المستعان.
الوقفة الثالثة:
وأما عن استدلال الركابي بقوله - تعالى -: ((كُلّاً نُمِدٌّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِن عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحظُوراً)) (الاسراء: 20).
فإنه استدلال في غير موضعه....
نعمº تكفل الله بالرزق والعطاء لكل أحد من بني الإنسان بل حتى الحيوانات تكفل برزقها ـ - عز وجل - ـ، ودليله قوله - تعالى -: ((وَمَا مِن دَابَّةٍ, فِي الأَرضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزقُهَا وَيَعلَمُ مُستَقَرَّهَا وَمُستَودَعَهَا كُلُّ فِي كِتَابٍ, مُبِينٍ,)) (هود: 6).
ولكن العطاء والإمداد والرزق كله من الأبواب الكونية القدرية العامة، والتي تعطى للمسلم والكافر، فإذا جاءنا حكم بمقتضى الأمر الشرعي الديني بأخذ أموال الكفار إذا لم يثبتوا لقتال المسلمين، فإنّه لا تعارض عندئذٍ, بين الأوامر الكونية القدرية وبين الأوامر الشرعية الدينية، وكذلك بين العطاء الكوني القدري (مثل أن يرزق الكافر المال) وبين العطاء الشرعي الديني (مثل الأمر بأخذ أموال الكفار المحاربين إذا قهرناهم وأخذنا منهم مالهم ولم يثبتوا لقتالنا) وهذه مسألة شرحت بإسهاب في كتب التوحيد والعقائد، فليرجع إليها من أراد تفصيلها.
وختاماً / فما أجمل ما قاله الإمام ابن حجر العسقلاني:
((العبد من تمسك بما كان عليه السلف واجتنب ما أحدثه الخلف)) فتح الباري (13/67)
ولعل الأستاذ الركابي يراجع ما كتبه في ذلك فإنَّ (الرجوع إلى الحق من جملة الدين) كما قال الإمام العيني - رحمه الله - في عمدة القاري (1/66) وكثيراً ما يركز الركابي بأنه(يفتح باب الاحتمالات الحسنة ولو مع الكفار ) فليت ذلك كان مصروفاً إلى إخوانه الدعاة المسلمين قبل غيرهم من ملل الكفر.
سائلاً المولى - عز وجل - أن يغفر لي، وللركابي، ولجميع من نبَّه على خطئي وتقصيري، ومن الله الحول والطول، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد