بسم الله الرحمن الرحيم
ورد في الحديث أن صيام رمضان سبب لمغفرة الذنوب، و كذا قيامه (لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، أخرجه البخاري برقم 37 في الإيمان: باب: \"تطوع قيام رمضان من الإيمان\")، و قيام ليلة القدر (لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال - صلى الله عليه و سلم -: \"من قام رمضان إيماناً و احتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه\" أخرجه البخاري برقم35، و مسلم برقم 760)، و الصحيح أن المغفرة تختص بالصغائر، لقوله - صلى الله عليه و سلم - : \"الصلوات الخمس، و الجمعة إلى الجمعة، و رمضان إلى رمضان، مفكرات لما بينهن، إذا اجتنب الكبائر\"رواه مسلم (أخرجه مسلم برقم 233 14، 15، 16 في الطهارة، باب: \"الصلوات الخمس و الجمعة إلى الجمعة…\" من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - و الجمهور على أن الكبائر لابد لها من توبة.
ثم إن العبد بعد فراق رمضان و قد كُفِّرت عنه سيئاته، يجب عليه أن يحافظ على الصالحات، و يحفظ نفسه عن المحرمات، و تظهر عليه آثار هذه العبادات في بقية حياته، فذلك من علامات قبول صيامه و قيامه و قرباته، فإذا كان بعد رمضان يحب الصلوات و يحافظ على الجمع و الجماعات، و يكثر من نوافل الصلاة، و يصلي من الليل ما قدر له، و يُعوِّد نفسه على الصيام تطوعاً، و يكثر من ذكر الله تعالى ودعائه و استغفاره، و تلاوة القرآن الكريم و تدبره و تعقله، و يتعاهد الصدقة، و يصل أرحامه و يبر أبويه، و يؤدي ما عليه من الحقوق لربه و للعباد، و يحفظ نفسه و يصونها عن الآثام و أنواع الجرائم، و عن جميع المعاصي و تنفر منها نفسه، و يستحضر دائماً عظمة ربه و مراقبته و هيبته في كل حال، إذا كان كذلك بعد رمضان، فإنه دليل قبول صيامه و قيامه، و تأثره بما عمل في رمضان من الصالحات و الحسنات.
و مع ذلك فإن صفة الصالحين و عباد الله المتقين الحزن و الأسى على تصرم الأيام الشريفة، و الليالي الفاضلة، كليالي رمضان، و هذه صفة السلف الصالح و صدر هذه الأمة - رحمهم الله تعالى -، فلقد يحزنون لانصراف رمضان، و مع ذلك يدأبون في ذكره، فيدعون الله ستة أشهر أن يتقبله منهم، ثم يدعونه ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، فتكون سنتهم كلها في ذكر هذا الشهر، فهو دليل على عظم موقعه في نفوسهم، و يقول قائلهم:
سلام من الرحمن كـل أوان *** على خير شهر قد مضى و زمان
سلام على شهر الصيام فإنه *** أمان من الرحمن كل أمـــان
لئن فنيت أيامك الغر بغـتة *** فما الحزن من قلبي عليك بفـان
لقد ذهبت أيامه و ما أطعتم.
و كتبت عليكم فيه آثامه و ما أضعتم.
و كأنكم بالمشمرين و قد وصلوا و انقطعتم.
أترى ما هذا التوبيخ لكم؟
أو ما سمعتم قلوب المتقين إلى هذا الشهر تحن؟ و من ألم فراقه تئن؟
كيف لا تجرى للمؤمن على فراقه دموع؟ و هو لا يدري هل بقي له في عمره إليه رجوع.
شعر:
تذكر أياماً مضت و لياليا *** خلت فجرت من ذكرهن دموع
أين حرق المجتهدين في نهاره؟
أين قلق المتهجدين في أسحاره؟
فكيف حال من خسر في أيامه و لياليه؟
ماذا ينفع المفرط فيه بكاؤه و قد عظمت فيه مصيبته و جل عزاؤه؟
كم نصح المسكين فما قبل النصح؟
كم دعى إلى المصالحة فما أجاب إلى الصلح؟
كم شاهد الواصلين فيه و هو متباعد؟
كم مرت به زمر السائرين و هو قاعد؟
حتى إذا ضاع الوقت و خاف المقت ندم على التفريط حين لا ينفع الندم.
و طلب الاستدراك في وقت العدم.
دموع المحبين تدفق.
قلوبهم من ألم الفراق تشقق.
عسى وقفة للوداع تطفي من نار الشوق ما أحرق.
عسى توبة ساعة و إقلاع ترفوا من الصيام ما تخرق.
عسى منقطع عن ركب المقبولين يلحق.
عسى أسير الأوزار يطلق.
عسى من استوجب النار يعتق.
لا شك أن شهر رمضان أفضل الشهور، فقد رفع الله قدره و شرفه على غيره، و جعله موسماً للخيرات، و جعل صيامه و قيامه سبباً لمغفرة الذنوب و عتق الرقاب من النار.
فتح فيه أبوابه للطالبين، و رغب في ثوابه المتقين.
فالظافر من اغتنم أوقاته، و استغل ساعاته، و الخاسر من فرط في أيامه حتى فاته.
جعله الله مطهراً من الذنوب و ساتراً للعيوب و عامراً للقلوب.
فيه تعمر المساجد بالقرآن و الذكر و الدعاء و التهجد.
و تشرق فيها الأنوار و تستنير القلوب.
فهو شهر البركات و الخيرات.
شهر إجابة الدعوات.
شهر إغاثة اللهفات.
شهر الإفاضات و النفحات.
شهر إعتاق الرقاب الموبقات.
فيه تكثر الصدقات و تتضاعف النفقات و يجود المسلم بما يمكنه من العطايا و الهبات.
ترفع فيه الدرجات، و تقال فيه العثرات، و تسكب فيه العبرات، فبعده تنقطع هذه الحسنات.
فمن قبله الله فهو من أهل الكرامات و أعالي الدرجات في نعيم الجنات، و من رُدَّ عليه عمله فهو من أهل الحسرات لما فاته من الخيرات.
فلا أوحش الله منك يا شهر الصيام و القيام.
و لا أوحش الله منك يا شهر التجاوز عن الذنوب العظام.
و لا أوحش الله منك يا شهر التراويح.
و لا أوحش الله منك يا شهر الذكر و التسبيح.
و لا أوحش الله منك يا شهر المصابيح.
و لا أوحش الله منك يا شهر التجارات المرابيح.
و لا أوحش الله منك يا شهراً يترك فيه كل قبيح.
فيا ليت شعري من المقبول منا فنهنيه، و من المردود منا فنعزيه.
فيا أيها المقبول هنيئاً لك، و يا أيها المردود جبر الله مصيبتك.
عباد الله: حافظوا على عبادة ربكم بعد هذا الشهر، و إياكم أن تعودوا لما كنتم فيه من الذنوب و الخطايا، فإن رب الشهرين واحد، و هو الذي كلفكم و أمركم و نهاكم، فإياكم أن تعودوا لما مضى من التفريط و الإهمال، حتى يمحوا الله عنكم السيئات و يقبل منكم الحسنات، و أكثروا من دعاء الله تعالى و التضرع بين يديه.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد