بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، والصَّلاة والسَّلام على من لا نبي بعده، نبيّنا محمد وعلى آله وصحبهº وبعد:
استقبل المسلمون في هذه الأيام شهراً مباركاً.. شهراً تُمحى فيه الذنوب، وتحيا فيه القلوب.. استقبلوا شهراً تحلوا فيه تلاوة الكتاب، وتزكوا عبادة المحراب.
قال الله - تعالى -: {يا أيها الذين آمنوا كُتب عليكم الصِّيامُ كما كُتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون. أياماً معدودات}.
لقد حلَّ علينا هذه الأيام ضيفٌ كريمٌ، تُستنزل فيه الرحمات، وتُسكب فيه العبراتº فلا أدري لعمر الله ماذا أعددنا له؟ وهذا الضيف بالطبع هو شهر رمضان المبارك.
مرحباً أهـلاً وسهلاً بالصِّيام *** يا حبيباً زارنا في كلِّ عـــام
قـد لقيناك بحبٍّ, مفعـــمٍ, *** كلٌّ حبّ في سوى المولى حرام
فاغفـر اللهــم ربي ذنبنا *** ثم زدنا من عطاياك الجســام
لا تُعاقبنــا فقد عاقبنــا *** قلق أسهرنا جنح الظــــلام
من رأى هلال رمضان فليدعوا بهذا الدعاء:
جاء في \"سنن الترمذي\" أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا رأى هلال رمضان قال: \"اللهم أهلَّه علينا باليُمن والإيمان، والسلامة والإسلام، هلال خير ورشد، ربي وربك الله\". وجاء في بعض الطرق أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يُبشِّر أصحابه بدخول شهر رمضان في آخر ليلة من شعبانº الأمر الذي يشحذ هممهم للتنافس والمسابقة في الأعمال الصالحة. {سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض} {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أُعدَّت للمتقين}.
وسأحاول في هذه المقالة الإجابة على هذا السؤال الكبير، بذكر أمورٍ, يتعرَّف المؤمن الصائم من خلالها على المنهج الذي ينبغي أن يسير عليه خلال هذا الشهر، مبتدئاً بذكر ما يتعلق بكيفية استقباله، وهي بمثابة إرشادات رمضانية.
استقبل شهر رمضان بالتوبة والاستغفار:
اعتاد كثير من الناس - هداهم الله - استقبال الشهر بشراء الأطعمة والأشربة وتخزينها في المنازل، فقد امتلأت الأسواق ومحلات البيع بالجُملة في هذه الأيام بكثرة المشترين! وبدأت دعايات البضائع، وملصقات المشتروات تطاردنا عند إشارات المرور وفي الأماكن العامة! وهذا أمر عادي إلى حدٍّ, ماº ولكن الذي أريد التنبيه عليه هو الإسراف في هذا الأمر والمبالغة فيه، فكون الشخص يذهب لشراء حاجيّات رمضان قبل دخول الشهر هذا لا لوم عليه فيه. قال – تعالى -: {قل من حرَّم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدٌّنيا خالصةً يوم القيامة}. ولكن الذي أودّ الإشارة إليه هو الإسراف والتبذير في شراء احتياجات رمضان، حتى إن بعض الناس تُصيبه التٌّخمة خلال الشهر، فينسلخ رمضان وقد ازداد وزنه.. وتقرَّحت معدته.. وكثرت إلى الأطباء مراجعته!! وأُذكِّرك قارئي الكريم بقول الله – تعالى -: {ولا تُبذِّر تبذيراً إنَّ المبذِّرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربِّه كفوراً}.
ولذا كان واجباً على المسلم أن يستقبل هذا الشهر بالتوبة إلى الله - عز وجل - من جميع الذنوب والآثام. قال الله - تعالى -: {يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبةً نصوحاً}. وقال سبحانه: {وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون}.
وفي \"صحيح مسلم\" من حديث الأغرّ بن يسار المزني - رضي الله عنه - قال: قال النَّبيٌّ - صلى الله عليه وسلم -: [يا أيها الناس! توبوا إلى الله واستغفروه، فإني أتوب في اليوم مائة مرة]. وإذا كانت التوبة واجبة في كلّ وقت، فهي في رمضان أوجبº لأنه فرصة عظيمة لمحو السيئات، ومغفرة الزلاتº فإنَّ مردة الشياطين تُصفَّد بالسلاسل والأغلال فلا يصلون إلى ما يريدون.
ومما يجعل المسلم يبادر إلى التوبة - أيضاً - أنَّ الله يغفر لأُمة محمد - صلى الله عليه وسلم - في آخر ليلة من هذا الشهرº فلعلَّه إن تاب من أوله دَخَلَ - برحمة الله - فيمن يغفر الله له في آخره.
يا ذا الذي ما كفـاه الذنب في رجبٍ, *** حتى عصى ربَّه في شهر شعبان
لقد أظلك شهر الصوم بعدهمـــا *** فلا تُصيِّره أيضاً شهر عصيـان
واتل القرآن وسبِّح فيه مجتهـــداً *** فإنه شهر تسبيح وقــــرآن
كم كنت تعرف ممن صام في سَلَفٍ, *** من بين أهل وجيرانٍ, وإخــوان
أفناهم الموت واستبقاك بعدهمــو *** حيًّا فما أقرب القاصي من الدَّاني
تفكَّر في أحوال الدٌّنيا وتقلٌّباتها:
إنَّ المتأمّل في حوادث الليل والنهار ليرى بعين اليقين تقلٌّبات الأيام وسرعة تحوّلها.. سنوات تمضي.. وأيام تنقضي.. وساعات تتصرَّم.. وصدق الله إذ يقول: {وتلك الأيام نداولها بين الناس]. كم من الناس تمنّوا إدراك الشهر ولم يدركوه!! وكم منهم كان يترقّب دخول الشهر فلم يُمهل!! تخطفتهم المنايا، فلم يستطيعوا زيادةً من صالح الأعمال، ولا هُم أُمهلوا ليستدركوا ما سلف وكان!!
إنَّ أصحاب القبور - الآن - مرتهنون بأعمالهم، لو سئل أحدهم ماذا تتمنّى؟ لقال وبسرعة: أتمنّى أن أرجع إلى الدنيا وأُصلي لله ركعتين.. أتمنّى أن أقول: أستغفر الله.. أن أقول: لا حول ولا قوة إلا بالله.. ولكن كما قال الحق - تبارك وتعالى -: {كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون}.
فالبدار البدار إلى صالح الأعمال، والتزود بزاد الآخرة في رمضان.
اشغل أوقاتك بالصالحات وبخاصةٍ, تلاوة الآيات:
رمضان شهر القرآن، فيه أُنزل على قلب النبي - صلى الله عليه وسلم -. {شهر رمضان الذي أُنزل فيه القرآن هدى للناس وبيّنات من الهُدى والفرقان}.
ثبت في \"الصحيحين\" من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجودَ الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فلرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجود بالخير من الريح المرسلة.
وفي العام الذي تُوفّي فيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - عارضه جبريل القرآن مرتين.
حريُّ بالمسلم في هذا الشهر أن يُفرِّغ وقتاً ليس بالقليل لتلاوة القرآن وتدبٌّره، فلا يليق به في هذا الشهر وأيامُهُ قليلة، وساعاتُهُ غالية أن يُضيِّعها فيما لا يليق. وعليه أن يتلوَ تلاوةَ متدبرٍ, متَّعظٍ, بما يقرأ.. فما أنزل الله القرآن إلا ليتدبَّره الناس. {كتابٌ أنزلناه إليك مباركٌ ليدّبّروا آياته وليتذكَّر أولوا الألباب}. {أفلا يتدبَّرون القرآن أم على قلوبٍ, أقفالهُا}.
ولا تجعل همَّك - أيها المسلم - ختم القرآن في هذا الشهر وهذٌّه هذَّ الشِّعرº وليكن همك التَّدبّر والتَّعقٌّل.
ورحم الله سلف هذه الأُمة الصالح، الذين كانوا لا يشتغلون في رمضان إلا بالقرآن، فهذا الإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة - رحمه الله تعالى - كان لا يتشاغل في رمضان إلا بالقرآن، وكان يعتزل التدريسَ والفتيا والجلوسَ للناس.
وجاء نحوه عن جماعة من السلف كإبراهيم النخعي، والأسود، والإمام أحمد - رحمهم الله تعالى -.
رمضان شهر القيام فاجعل لك فيه سهم:
حاول قيام ليالي الشهر في كل ليلة بما تستطيع من الركعات، ولو صلّيتها كاملة فهو الأحسن والأكملº فإنك إذا فعلتَ ذلك كُتب لك قيامُ الليلة كلّها، كما روى أصحاب السنن من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: [من قام مع الإمام حتى ينصرفَ كُتب له قيام ليلة]، وهو حديث صحيح.
ولذا ينبغي على أئمة المساجد - وفقهم الله - مراعاة أحوال الناس في شأن صلاة التراويح، وألا يشقٌّوا عليهم بطول القيام، ودعاء القنوت والتّكلٌّف فيهº حتى يرغبوا في الصلاة والقيام، ويتردّدوا إلى بيوت الله، ويتلذذوا بسماع كلام الله.
عليك بصدقة السِّرِّ في رمضان:
اجتهد - يا من صمتَ رمضان - في أن يكون لك في كلِّ يوم صدقة، ولو ريالاً واحداًº فإنَّ فضل الصدقة عظيم، وثوابها عند الله جزيل، فاحرص على الإكثار منها دائماً، وخصوصاً في هذا الشهر المبارك. اقتداءً بنبيّك - صلى الله عليه وسلم -، كما تقدم في حديث ابن عباس: أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان.
واحرص أن تكون هذه الصدقة سرًّا بقدر ما تستطيع، فقد جاء في حديثٍ, أخرجه الطبراني عن أبي أُمامة - رضي الله عنه -: [صنائع المعروف تقي مصارع السٌّوء، وصدقة السِّر تُطفيء غضب الرّب، وصلة الرَّحم تزيد في العمر]. وإسناده حسن.
وكن على ثقةٍ, أنَّ الله عز وجل سيخلِفُك على ما أنفقتَ خيراً، ولا يغيب عن ذهنك حديث \"الصحيحين\": [اللهم أعط منفقاً خَلَفاً، وأعط مُمسكاً تلفاً].
صِل رحمك التي قطعتها:
عليك بصلة أقاربك وأرحامك الذين هجرتهم، وخصوصاً مَن بينك وبينه خلاف أو منازعة. {فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطِّعوا أرحامكم أولئك الذين لعنَّهم الله فأصمَّهم وأعمى أبصارهم}. فرمضان فرصة ذهبية لكي تجتمع القلوب، وتأتلِفَ الأرواح، وتُقلع المنازعات بلا عودة!! وإذا لم تتيسر لك تلك الزيارة فلا يفوتك رفع سمَّاعة الهاتف، وليكن الوَصل عبر هذه الوسيلة المختصرة.
أكثِر من الدٌّعاء في رمضان فإنه شهره:
للصائم دعوة لا تردّ، وقد جاء ذلك في الحديث. ويظهر ذلك جليًّا من حال الصائم، فهو منكسر القلب، ضعيف النفس.. ذلّ جموحه، وانكسر طموحه، واقترب من ربه، وأطاع مولاه. قال - تعالى -: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أُجيبُ دعوة الدَّاعي إذا دعاني فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلَّهم يرشدون}.
فأنت - أيها الصائم - يا من جفَّت شفته من الصيام.. يا من ظمئت كبده من الظمأ.. يا من جاع بطنه! - وإن كان الصيام بحمد الله في السنوات الأخيرة من أسهل الأمور، فهو يأتي في فصل الشتاء، وإن كان لا يخلو من مشقة، فمجرد ترك الطعام والشراب عند بعض الناس مشقة لا يصبرون عليها - º أَكثِر من الدعاء، وكن عبداً مِلحاحاً في الطلبº فإنَّ الله يحبّ العبد المِلحاح. واعلم أنَّ لك ساعتين للدعاء فَجُد على نفسك بسؤال ربِّك ومولاك، فإنه مجيبك.
الساعة الأولى: قبل إفطارك. الثانية: في وقت السَّحر.
فاغتنم هذين الوقتين في سؤال الله، وادعُه دعاء المسألة، ودعاء العبادة. ولتختر جوامع الدعاءº ما كان يدعو به النبي - صلى الله عليه وسلم -، وما جاء في القرآن على لسان بعض الأنبياء الكرام عليهم الصلاة والسلام، وما ذكره الله - تعالى - في كتابه العزيز على لسان (عباد الرحمن).
ولتدعُ الله بصدقٍ, وإخلاصٍ, بأن يعزّ الإسلام وينصر المسلمين، وأن يجمع المسلمين على الحقّ والدين، وأن يصلح قادتهم ويُؤلّف بين قلوبهم.
واحرص على الالتزام بآداب الدعاء، من وضوءٍ,، واستقبالٍ, للقبلة، ورفعٍ, لليدين، وتكريرٍ, للدعاء ثلاثاً، وإطابةٍ, للمطعم.
اعتمر في رمضان فإنها تعدل حجَّة مع النبي - صلى الله عليه وسلم -:
احرص على ألا ينسلخ رمضان إلا وقد أتيتَ بعمرة من بلدك. فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: [العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما]. وهذا الفضل العظيم للعمرة عامُّ في كل وقت وحين، وأما في رمضان فلا شك أنَّ فضلها يتضاعف.
عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لما رجع من حجة الوداع قال لامرأة من الأنصار اسمها (أم سنان): [ما منعك أن تحجّي معنا؟!]. قالت: أبو فلان - زوجها - له ناضحان، حجَّ على أحدهما والآخر نسقي عليه. فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: [فإذا جاء رمضان فاعتمريº فإنَّ عمرة في رمضان تعدل حجة]. أو قال: [حجَّة معي]. أخرجاه في \"الصحيحين\".
ويا له من فوز - وأيّ فوز - أن تكون كمن حجّ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فوقف معه بعرفة، وبات معه بمزدلفة، وأفاض بصحبته إلى منى، وطاف بجواره وسعى، كما هو المفهوم من ظاهر الحديث.
التَّوجيه والنٌّصح من أعمال البر في رمضان:
ليكن لك نصيبٌ من توجيه أبنائك وجيرانك، وأبناء حيِّك إلى الخير، وحثّهم على مضاعفة الأعمال في هذا الشهر المبارك، ولا تفوتك عبادة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ودعوة الناسº بالكلمة الطيبة، والنصيحة الهادئة، والهدية المتواضعة، فرمضان فرصة لكلِّ ذلك.
إنَّ قلوب الناس تكون في الشهر مقبلة على الطاعة، مسرعة إليهاº فاغتنم ذلك ودلَّهم دلالة الإرشاد، لعلَّ الله يكتب لك أجره، ويجعل جميع ما عمل من الصالحات بعد استقامته في موازين حسناتك.
وبَعدُ:
فإني أسأل الله - تعالى - أن يبارك لنا في أيام هذا الشهر، وأن يمنّ علينا جميعاً بالتوبة النصوح، وأن يعتق رقابنا ورقاب آبائنا وأمهاتنا ومشايخنا من النارº هو ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله على سيِّدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد