بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى:
اللهم لك الحمد بما أنعمت به علينا من نعمك العظيمة وآلائك الجسيمةº حيث أرسلت إلينا أفضل رسلكº وأنزلت علينا خير كتبكº لك الحمد بالإيمان، ولك الحمد بالقرآن، ولك الحمد بالسنة.
لك الحمد بكل نعمة أنعمت بها علينا في قديم أو حديث، أو سر أو علانية، أو عامة أو خاصة، أو شاهد أو غائب.
لك الحمد حتى ترضىº ولك الحمد إذا رضيت، ولا حول ولا قوة إلا بك.
وأشهد ألا إله إلا أنت، وأشهد أن محمداً عبدك ورسولكº وصفيك وخليلك، وخيرتك من خلقك، وأمينك على وحيكº بعثته إلينا بالهدى ودين الحق لتظهره على الدين كله ولو كره المشركونº
أما بعد:
أيها المسلمون:
إنّ من تتبع التاريخ، واستعرض المواقف الحاسمة، والساعات العصيبة في تاريخ الأمة وفي التاريخ العامº فإنه سيرى على رأس كلِّ قضيةٍ, منها، وفي كلِّ أزمةٍ, تهدد كيان هذه الأمة، وتتحدَّى شرفها وكرامتها رجلاً من العصاميين يستولي على قلبه الحزن، والاهتمام بهذه الحالة، فيذهل عن نفسه وأهله، و يهجر راحته ولذّته، وتتلخَّص الحياة عنده في حلِّ هذه الأزمة، وفضِّ هذه المشكلة، فلا يقرٌّ له قرار، ولا يهدأ له بال حتى تنجلي هذه الغمة، ويرى نفسه مكلفاً بذلك، فقد خلق لذلك، وأمر به، ولا يرى لنفسه عذراً في الاعتزال والانصراف إلى الدنيا وشهواتها!.
وقد علمتم ما أصاب المسلمين من المحن في القرن الأول، وذلك على إثر وفاة رسول الله-صلى الله عليه وسلم-!
فقد أصيبوا بما لم تصب به أمَّةٌ أو جماعةٌ في فجر حياتها، وأشرفت الدعوة الإسلامية على الضياع، وحسبكم في بيان ذلك قول عروة بن الزبير: \"إنَّ المسلمين كانوا كالغنم المطيرة في الليلة الشاتية! \".
ولكنَّ الله - سبحانه وتعالى - قد قيَّض لهذه المحنة أبا بكر الصديق - رضي الله عنه -، فقام قيام الأنبياء وليس بنبي، وركّز فكره وهمّه على حراسة التراث العظيم، ورد الأمر إلى نصابه، وأفرغ روحه في ذلك، وملكته هذه الفكرة حتى نسي نفسه وكل ما عدا ذلك.
وكان الصديق رجلاً غير الرجال!.
لقد عُرف - رضي الله عنه - بالرفق الزائد، وإيثار جانب اللين دائماً على جانب الشدة، لكنّه تصلّب وخشن في هذه المرة، حتى فاق في ذلك عمر بن الخطاب، المعروف بالشدة والصلابةº لأن الموقف يتطلب ذلك!.
لقد رأى أبو بكر أنه القائم على هذه الأمانة العظيمة، والمسئول عنها، ففاضت على شفتيه تلك الكلمة البليغة المأثورةº التي تمثل شعوره خير تمثيل: \"أينقض الدين وأنا حي؟! \".
وبهذه الغيرة الملتهبة، والقلب المتألم، والنفس الأبية استطاع أبو بكر - رضي الله عنه - أن يحفظ هذا الدين ويورثه الأجيال القادمة كاملاً غير منقوص!.
قالت عائشة - رضي الله عنها -: \"لما قُبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ارتدت العرب قاطبة واشرأب النفاق!.
والله لقد نزل بأبي ما لو نزل بالجبال الراسيات لهاضها.
وصار أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - كأنهم معزى مطيرة في حش، في ليلة مطيرة بأرض مسبعة!، فو الله، ما اختلفوا في نقطة إلا طار أبي بخطمها وعَنَانِها وفصلها\".
لذلك يقول أبو هريرة - رضي الله عنه -: \"بحق والله الذي لا إله إلا هو، لولا أن أبا بكر استُخلِفَ ما عُبِدَ اللهُ، قالها ثلاثاً\".
وكم نحن بحاجة - جد والله ماسة - إلى أمثال أبي بكر الصديق رضي الله عنهº يستولي على قلبه الهم فيهجر راحته، ولا يقرٌّ له قرار، ولا يهدأ له بال حتى تنجلي هذه الغمة، وتنكشف تلك المحنة.
كم من قضايا المسلمين ومآسيهم.. تحتاج إلى أمثال أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -.. قضايا الإعلام.. قضايا التعليم.. مشاكل الصحة.. مشاكل البطالة.. ومشاكل الشباب والفتيات.. وغيرها من القضايا الكثيرة التي تفتقد إلى الرجال العصاميين.. الذين يحملون الهم.. للإصلاح والتغيير.
أيها الأخوة في الله:
وبينما نحن نقلّب صفحات التاريخ نبحث عن شخصية عصامية أخرى، وقع الاختيار على شخصية فذة، عاشت في زمن تدفقت فيه الجيوش الصليبية من أوربا واكتسحت فلسطين بما فيها من إمارات ومقدسات، وكانت كالجراد المنتشر، ولم يقف في طريقها ملك ولا جيش، وعجزت الحكومات الإسلامية عن مقاومتها، فاستولت على البلاد والعباد، وكان الخطب جسيماً، ووقف العالم الإسلامي على مفترق الطرق!.
وكان الأمر أعظم من أن يقوم له أقوامٌ مصالح المسلمين بعض همومهم، أو من هوامش حياتهم، إنما كان ينبغي أن يتصدى له رجل يكون الأمرُ كلّ همّه، رجلٌ من أمثال السلطان صلاح الدين الأيوبي، الذي اختاره الله لهذه المهمّة، وهيأ هو نفسه لها.
لقد حكى عنه صاحبه القاضي بهاء الدين المعروف بابن شداد: \"أنه تاب عن المحرمات وترك الملذات، ورأى أن الله- سبحانه وتعالى - خلقه لأمر عظيم لا يتفق معه اللهو والترف! \".
قام صلاح الدين للدفاع عن فلسطين وردّ الغارة الصليبية، وركز فكره على ذلك، وتفرغ له، واستولت عليه هذه الفكرة استيلاءاً تاماً، حتى لم تدع لغيرها موضعاً!.
قال ابن شداد: \"كان - رحمه الله - عنده من القدس أمر عظيم لا تحمله الجبال! \".
ومهما حاولتُ - أيها المسلمون - أن أصف هذا الهمّ الذي استولى على صلاح الدين، وأصور ما كان فيه من قلق وإزعاج دائم، وشدة اهتمام باسترداد البلاد وتحرير القدس ورد الأوربيين على أعقابها، فلن أستطيع أن أزيد على وصف ابن شداد له بالوالدة الثكلى!.
ولا أستطيع أن آتي بتعبير أبلغ وأدق من هذا!.
يقول - رحمه الله -: \"في وقعة عكا، وهو السلطان كالوالدة الثكلى، يجول بفرسه من طلب إلى طلب، ويحث الناس على الجهاد، ويطوف بين الجيش بنفسه، وينادي بالإسلام وعيناه تذرفان بالدموع!.
وكلما نظر إلى عكا وما حل بها من البلاء وما يجري على ساكنيها من المصاب العظيم اشتد في الزحف والحث على القتال.
ولم يطعم في ذلك اليوم طعاما البتة! وإنما شرب أقداحَ مشروبٍ, كان يُشير بها الطبيب\"
ويقول: \"في فتح الطريق إلى عكا والسلطان يوالي هذه الأمور بنفسه، ويكافحها بذاته، لا يتخلف عن مقام من هذه المقامات!، وهو من شدة مرضه ووفور همته كالوالدة الثكلى!.
ولقد أخبرني بعض أطبائه أنه بقي من يوم الجمعة إلى يوم الأحد لم يتناول من الغداء إلا شيئاً يسيراً لفرط اهتمامه! \".
وقال في ذكر الواقعة العادلية: \"لقد رأيته - رحمه الله - قد ركب من خيمته وحوله نفر يسير من خواصه، والناس لم يتم ركوبهم، وهو كالفاقدة لولدها، الثاكلة واحدها! \".
أيها المسلمون:
بهذا الهمّ الشاغل، والنفس القلقة، والقلب المنزعج، استطاع صلاح الدين أن يكمل مهمته، ويكتب الفتح المبين في معركة حطين، وما كان اجتماع الجيوش عنده، والتفات الأمراء إلا صدى لقلبه الخفاق، وإيمانه الفياض، وصدره الجائش، وروحه الملتهبة.
ولا ترون انتصاراً باهراً في التاريخ، ومعركة حاسمة إلا من ورائها قلب يخفق، وعرق ينبض، وليث يثور، وشجاع يغضب.
فمن منا سيكون ذاك الرجل؟!.
بارك الله لي ولكم في القرءان العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما تسمعون، واستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، إله الأولين والآخرين، قيوم السموات والأرضين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك الحق المبين.
وأشهد أنّ محمَّداً عبده ورسوله الصادق الأمين، صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين،
أمَّا بعدُ:
أيها المسلمون:
إن الدّراسات العلمية تقول: إن الفضل في إيجاد الشخصية العصامية - بعد الله - تعالى - يرجع إلى الأسرة، فقد كانت مدرسة كاملةº تربي أبناء المسلمين، وتنشئهم على العقيدة الإسلامية، وعلى الخصائص الإسلامية.
وإنّ كثيراً من كبار المجددين، والمصلحين في الإسلام إنما هم غرس الآباء والأمهات!.
فهذا الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله - توفي أبوه، فاعتنت أمّه بتربيته، وكانت توقظه قبل صلاة الفجر وهو صغير، فيصليان معاً ما شاء الله!.
فإذا أذن الفجر أمسكت بيده وذهبت به إلى المسجد، وانتظرت حتى تُقضى الصلاةُ ثم تعود به إلى البيت!.
وحفظ القرآن - رحمه الله - وهو صغير، فلما بلغ اثنتي عشرة سنة قالت: \"يا بني انطلق فاطلب العلم! \".
يقول الإمام أحمد: \"كنت ربما أردت البكور في طلب الحديث فتأخذ أمي بثيابي حتى يؤذن الناس أو حتى يصبحوا\".
بمثل هذه التربية وتوفيق الله - تعالى -خرج أولئك العظماء، وغيروا مجرى التاريخ!.
فرحم الله بطناً أنجب مثل الإمام أحمد بن حنبل.
إننا أمام الواقع المكرر، والواقع الأليم، لا نستطيع أن نواجهه إلا إذا كانت الأسرة المسلمة قائمة بروحها، ورسالتها، وبخصائصها. !
إنّ الطفل والشاب المسلم إنما ينشئان في هذه المدرسة، ويتخرجان منها، قبل أن يتخرجا في مدرسة أو جامعة نظامية.
إذاً يجب أن تبقى هذه المدرسة الداخلية - مدرسة الوالدين - على صفتها الأولى، وأن تحافظ على قوّتها، وعلى روحها إذا أردنا أن نخرج أناساً عصاميين.
ولا يعني ذلك - أخي الشاب الفاضل - إذا ابتلاك الله - تعالى -بأسرة غير محافظة أن تركن إلى الدنيا وشهواتها، والحياة ولذاتها!. فأنت خصيم نفسك، ومحاسب على أعمالك. ولقد عاش أقوام من العصاميين في أسر غير محافظة، ومع ذلك أصبحوا شيئا مذكوراً!
فهذا سلمان الفارسي - رضي الله عنه - كان يعيش في أسرة بالغة الثراء.. والتي وفرت له كافة وسائل الراحة والسعادة.. مع ارتفاع أسهمه في قلب والده.. ولكنهم كانوا يريدونه أن يبقى على دينهم المجوسي.. فهل رضخ لذلك؟!! وهل استسلم لما يريدون؟!! كلا.. بل جاهد حتى فر من أسرته ليبحث عن الدين الحق.. وصبر سلمان على التغرب والأذى.. بل وعلى العبودية ردحاً من الزمان.. كل ذلك من أجل أن يصل إلى الدين الحق.. فكانت له العاقبة الحميدة.. والمنزلة المجيدة.. التي سطرها التاريخ في الدنيا.. وما أعد الله له في الجنة خير وأعظم أجرا.. يقول الله جل الله: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهدِيَنَّهُم سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ المُحسِنِينَ}العنكبوت69 قال صاحب الظلال: \" الذين جاهدوا في الله ليصلوا إليه، ويتصلوا به.
الذين احتملوا في الطريق إليه ما احتملوا، فلم ينكصوا ولم ييأسوا.
الذين صبروا على فتنة النفس، وعلى فتنة الناس.
الذين حملوا أعباءهم، وساروا في ذلك الطريق الطويل الشاق الغريب.. أولئك لن يتركهم الله وحدهم، ولن يضيع إيمانهم ولن ينسى جهادهم.
إنه سينظر إليهم من عليائه فيرضاهم، وسينظر إلى جهادهم إليه فيهديهم.
وسينظر إلى محاولتهم الوصول فيأخذ بأيديهم، وسينظر إلى صبرهم وإحسانهم فيجازيهم خير الجزاء \" أ. هـ.
اللهم أصلح أحوال المسلمين..
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد