مسألة في رمي الجمرات


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

 

فإن شبه المجيزين لرمي جمرات الـيــــوم الحادي عشر في الليلة التالية له، وكذلك رمي جمرات اليوم الثاني عشر في الليلة التالـية له، هي ـ فيما يظهر لي ـ ما يلي:

1-              قولهم: إن الرسول -صلى الله عليه وسلم- رمى نهاراً، ولم يحدد نهاية وقت الرمي.

2-              عموم حديث البخاري: أن رجلاً قـــــال يوم العيد لرسول الله: رميت بعدما أمسيت، فقال: (لا حرج).

3-              قولهم: ليلة العاشر أُتبعت باليوم الذي قـبـلـهــا باعتبارها وقت وقوف بعرفة، فكذلك تتبع الليلة التالية للحادي عشر به باعتبارها وقت رمي، وكذلك التالية للثاني عشر.

4-              حديث: أنه (-عليه الصلاة والسلام-) رخص للرعاء أن يرموا ليلاً.

5-              عمومات نصوص التيسير ورفع الحرج.

والجواب عند من يرى أن الأصل فـي وقـت رمـي جـمـرات أيام التشريق: انتهاؤه بغروب الشمس ـ وهو الحق ـ ما يلي:

1-              الأصل في العبادات التوقف حتى يقوم الدليل، ســواءً في إنشائها أو كيفيتها أو وقتها، فقياس الليلة التالية للحادي عشر ـ وكذلك الليلة التالية للثاني عشر ـ على ليلة العاشر لا يجوزº فلا قياس في العبادات، والكل مجمعون على أن الـلـيـلـــة الـتـالية للثالث عشر لا تتبعه.

2-              الأصل في العبادات الأخذ بالحقائق والمسميات الشرعية، لا بمجــــرد الألفاظ اللغوية فحسب، كمسمى الصلاة، ومسمى الزكاة، ومسمى الوضوء، والتيمم.. ومـسـمى اليوم ـ كما هو معروف في الصيام وغيره ـ: من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.

3-              أفـعــال الرسول -صلى الله عليه وسلم- بيانٌ لواجب مجمل في الحج، وما كان بياناً لواجب مجـمـل فهو واجب إلا ما خرج بدليل، وقد رمى (-عليه الصلاة والسلام-) يوم العيد ضحًى، ورمى أيـــــام التشريق بعد زوال الشمس، وإن ابن عمر (رضي الله عنه) المعروف بتحريه، الذي جاء عنه: (كنا نتحين)، روى عنه البيهقي قوله: (من نسي أيام الجمار -أو قال: رمي الجـمــــار- إلى الليل: فلا يرمِ حتى تزول الشمس)، وقوله: (من غربت له الشمس في أوسط أيام التشريق فلا ينفرن حتى يرمي الجمار من الغد).

4-              حديث (رميت بعــدما أمسيت) جاء في رمي جمرة العقبة يوم العيد لا في جمرات أيام التشريق، على اخـتــلاف في تفسير هذا المساء: أهو ما بعد الزوال، أم ما بعد الغروب إلى غياب الشفق، أم هو إلى نصف الليل، والظاهر: إنه في هذا الحديث ما بعد الزوال لقرائن الحال، وسبق أن لا قياس في العبادات.

5-              حديث (أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- رخص للرعاء أن يرموا بالليل وأية ساعة شاؤوا من النهار) سنده ضعيف، ولفظه فيه إطلاق يستوجب النظر، وهو قوله: أية ساعة، وعلى فرض صحته فهو يدل على أن الرمي نهاراً لا ليلاً لأن الرخصة يقابلها عزيمة.

6-              دعوى أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يحــدد آخر وقت الرمي محل نظر، بل فيها تجاوز في القول والرأي بلا مستند فالصحابة والمـسـلـمـون يعرفون مسمى اليوم، وفي قوله: (.. ثم يرمون ليومين، ثم يرمون يوم النفر)، وقول الله (-سبحانه-): ((فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَومَينِ))[البقرة: 203]، ما يدل على مسمى اليوم الشرعي في الحــج، ثم أيهما أقرب إلى الحق وأحوط في هذا الأمر، أهو الذي يأخذ بالحقائق الشرعية ومـسـمى اليوم لغة وشرعاً، أم الذي يمد وقت الرمي إلى نصف الليل أو إلى الفجر أو إلى غير حـــــدٍ,ّ بدون دليل على التمديد، وذا يلزم من تفوه بمقولته الجريئة: الرسول لم يحدد؟.

أما ما قيل من وجود زحام ومشقة تبيح الرمي ليلاً: فقد أُجيب عنه في النقل الآتي، ولمزيد الفائدة أذكر للقارئ الكريم أن سماحة مفتي المملكة في وقته الشيخ (محمد بن إبراهيم آل الشيخ)، وسماحة والدنا الشيخ (عبد العزيز بن عبد الله بن باز)، وعدداً من المشايخ (رحم الله الجميع أحياءً وأمواتاً) قرروا في مواجهتهم للشيخ (عبد الله المحمود) في فتواه بجواز الرمي ليلاً: أن وقت رمي الجمرات أيام التشريق: ما بين الزوال إلى غروب الشمس(1)، وأن سماحة الشيخ (عبد الله بن محمد بن حميد) رئيس المجلس الأعلى للقضاء في حياته (-رحمه الله-) كتب ـ عندما استفتوه بجواز الرمي ليلاً ـ ما نصه: (لا يجوز رمي الجمرات ليلاً للأمور الآتية:

أولاً: لم يُنقل عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أنه رمى ليلاً، أو أقره، وهو القائل (صلوات الله وسلامه عليه): (خذوا عني مناسككم)، وما عرف الرمي قربة إلا بفعله -صلى الله عليه وسلم-، ولا شيء أحسن من التمسك بهديه، والاقتداء بأفعاله، والأخذ بما عليه سلف هذه الأمة وأئمتها الذين هم القدوة، فقد جرى عمل الصحابة (رضوان الله عليهم) في حجهم أنهم لا يرمون إلا نهاراً، وكثير منهم يحج في كل عام، فما ثبت أن أحداً منهم رمى ليلاً.

ثانياً: ما رواه مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله (رضي الله عنه)، قال: رمى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم النحر ضحى، وأما بعد ذلك: فإذا زالت الشمس، ورميه -صلى الله عليه وسلم- جمرة العقبة يوم النحر ضحى وفي أيام التشريق بعد الزوال: دليل على الوجوب لأنه فعله -صلى الله عليه وسلم- مشرعاً لأمته على وجه الامتثال والتفسير، فكان حكمه حكم الأمر.. وهو داخل في عموم قوله: (خذوا عني مناسككم)، قال شيخ الإسلام (ابن تيمية) -رحمه الله- في شرح العمدة: (والفعل إذا خرج مخرج الامتثال والتفسير كان حكمه حكم الأمر).

ثالثاً: ما رواه البيهقي في سننه عن ابن عمر (رضي الله عنه): (من نسي أيام الجمار -أو قال: رمي الجمار- إلى الليل فلا يرمِ حتى تزول الشمس من الغد، فهذا صريح من ابن عمر (رضي الله عنه) بأن من نسي رمي الجمار إلى الليل أنه لا يرمي حتى تزول الشمس من الغد، ولو لم يكن في معلوم ابن عمر منع الرمي ليلاً لما قال: لا يرم حتى تزول الشمس.

رابعاً: مما يدل على منع الرمــي ليلاً: ما رواه مالك في الموطأ، عن يحيى بن سعيد، عن عطاء ابن أبي رباح: أنه سمعه يذكــــر أنه رخص للرعاء أن يرموا بالليل، يقول في الزمن الأول، والتعبير بالرخصة يقتضي أن مقابلها عزيمة، وأن الإذن وقع للعلة المذكورة، وإذا لم توجد أو ما في معناها لم يحصل.

ومثله ما رواه البيهقي في السنن، والطـحــــاوي في شرح معاني الآثار، عن عطاء ابن أبي رباح، قال: سمعت ابن عباس يقول: قال رســـــول الله: (الراعي يرمي بالليل، ويرعى بالنهار).

خامساً: ما رواه البخاري في صحيحه عن ابن عباس (رضي الله عنهما)، قال: (كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُسأل يوم النحر بمنى، فيقول: لا حرج، فسأله رجل فقال: حلقت قبل أن أذبــح، قـــــــال: اذبح ولا حرج، فقال: رميت بعدما أمسيت، فقال: لا حرج..) فهذا صريـح في وقـوع الرمي نهاراً فالمساء يقصـد به مـا بعـد الزوال، لأن ـ لغة ـ العرب يسمون ما بعده مساءً وعشاءً ورواحاً، كما في الموطأ عن القاسم بن محمد أنه قال: ما أدركت الـنـاس إلا وهم يصلون الظهر بعشي، وإنما يريد تأخيرها عن الوقت الذي في شدة الحـــــر إلى وقت الإبراد، ولوقوع السؤال يوم النحر، إذ لا يكون اليوم إلا قبل مـغـيـــب الشمس، قـــــال الموفق: ولأن القائل: (رميت بعدما أمسيت) أشكل عليه رميه مساء بعد الزوال لعلمه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رمى يوم الـنـحـــــر ضحًى، وأن رميه لم يوافق زمن رمي النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلهذا قال: رميت بعدما أمسيت، فاحتاج إلى أن يسأله بقوله: (رميت بعدما أمسيت)، أي: إن رميه وقع في آخــــــر النهار، ورمي النبي -صلى الله عليه وسلم- كان في أوله، فقال له الرسول: ارمِ ولا حــــرج، ولأن رمي الجمار عبادة نهارية أشبه بالصوم لا يقع ليلاً، وقد استمر عمل الخلفاء الراشدين وغيرهم من الصحابة (رضي الله عنهم) في اختصاص رميهم بالنهار، والخير والبركـــــــة في اتباع سبيلهم والاقتداء بآثارهم وعدم الخروج عما كانوا عليه (رضوان الله عليهم أجمعين)، وهذا القول هو مذهب الإمام أحمد، ومذهب أهل الحديث، وقول طائفة من أصحاب أبي حنيفة، ومالك، والشافعي.

ودعوى وقوع المشقة وكثرة الزحام في الرمي لكثرة الـوافدين يبيح الرمي ليلاً، مردودة بأن المشقة وكثرة الزحام موجود في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومع هذا لم يرخص لهم في الرمي ليلاً ولا في أيام التشريق قبل الـــــزوال كما في حديث أم جندب (رضي الله عنها) أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (يا أيها الناس لا يقتل بعضكم بعضاً، فإذا رميت الجمرة، فارموا بمثل حصى الخذف) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة)(2)، والله اعلم.

وبالله التوفيق.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

الهوامش:

1)    فتاوى الشيخ (محمد بن إبراهيم)، جـ6، ص 69.

2)    حاشية منسك الشيخ عبد الله بن حميد.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply

التعليقات ( 1 )

جواز رمي الجمار قبل الزوال للشيخ عبدالله بن زيد آل محمود

-

ابو عبدالله

18:23:04 2021-06-09

جواز رمي الجمار قبل الزوال للشيخ عبدالله بن زيد آل محمود رحمه الله والنبي ﷺ رمى الجمرة يوم العيد قبل الزوال، ثم رمى بقية أيام التشريق بعد الزوال، ففعْلُه في هذا وهذا هو مشروع منه بسعة وقته لأمته، تأجل العمل بالرمي به إلى وقت الحاجة إليه، فمن قال باختصاصه قبل الزوال بيوم العيد دون أيام التشريق استدلالاً واستنادًا منه إلى فعل النبي ﷺ لزمه أن يقول بوجوب طواف الإفاضة يوم العيد، كما فعل رسول الله ﷺ، ولزمه أن يقول بوجوب الحلق يوم العيد ضحى، ووجوب النحر يوم العيد ضحى، كما فعل رسول الله ولم يقل بذلك أحد، بل جعله العلماء موسعًا يفعل في أي ساعة من أيام التشريق ليلاً ونهارًا، وكذلك الرمي إذ هو نظيرها في الحكم والوجوب، إذ ليس عندنا أن رميها فيما بين الزوال إلى الغروب كان على المؤمنين كتابًا موقوتًا، كيف والنبي ﷺ خطب الناس يوم العيد وخطبهم في أوسط أيام التشريق، وجعل الناس يسألونه فما سئل عن شيء من التقديم والتأخير إلا قال: «افعل ولا حرج» وهذا النص قاطع للنزاع ودافع للخلاف إلى مواقع الإجماع... وبالجملة، فإن القول بجواز الرمي أيام التشريق قبل الزوال مطلقًا هو مذهب طاوس وعطاء، ونقل في التحفة عن الرافعي أحد شيخي مذهب الشافعي الجزم بجوازه، قال: وحققه الأسنوي وزعم أنه المعروف مذهبًا.وذهب الإمام أبو حنيفة إلى أنه يجوز الرمي قبل الزوال للمستعجل مطلقًا، وهي رواية عن الإمام أحمد، ساقها في الفروع بصيغة الجزم بقوله: وعنه يجوز رمْيُ متعجل قبل الزوال، قال في الإنصاف: وجوز ابن الجوزي الرمي قبل الزوال، وقال في الواضح: ويجوز الرمي بعد طلوع الشمس في الأيام الثلاثة، وجزم به الزركشي، ونقل في بداية المجتهد عن أبي جعفر محمد بن علي، أنه قال: رمي الجمار من طلوع الشمس، وروى الدارقطني عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله ﷺ أرخص للرعاة أن يرموا جمارهم بالليل أو أية ساعة من النهار، قال الموفق في كتابه الكافي: وكل ذي عذر من مرض أو خوف على نفسه أو ماله كالرعاة في هذا؛ لأنهم في معناهم، قال: فيرمون كل يوم في الليلة المستقبلة، قال في الإنصاف: وهذا هو الصواب، وقاله في الإقناع والمنتهى وهو المذهب. فعلم من هذه الأقوال أن للعلماء المتقدمين مجالاً في الاجتهاد في القضية وأنهم قد استباحوا الإفتاء بالتوسعة، فمنهم من قال بجواز الرمي قبل الزوال مطلقًا، أي سواء كان لعذر أو لغير العذر، ومنهم من قال بجوازه لحاجة التعجل، ومنهم قال بجوازه لكل ذي عذر، كما هو الظاهر من المذهب، فمتى أجيز لذوي الأعذار في صريح المذهب أن يرموا جمارهم في أية ساعة شاؤوا من ليل أو نهار، فلا شك أن العذر الحاصل للناس في هذا الزمان من مشقة الزحام والخوف من السقوط تحت الأقدام أنه أشد وآكدُ من كل عذر، فيدخل فيه جميع الناس في الجواز بنصوص القرآن والسنة وصريح المذهب، والنبي ﷺ ما سئل يوم العيد ولا في أيام التشريق عن شيء من التقديم والتأخير إلا قال: «افعل ولا حرج» فلو وجد وقت نهي غير قابل للرمي أمام السائلين لحذرهم منه، إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه، فسكوته عن تحديد وقته هو من الدليل الواضح على سعته، والحمد لله الذي جعل هذا التحديد من قول من ليسوا بمعصومين عن الخطأ ولم يكن من كلام من لا ينطق عن الهوى. فإن الحلال ما أحله الله ورسوله، والحرام ما حرمه الله ورسوله، والدين ما شرعه الله ورسوله، وما سكت عنه فهو عفو، فاقبلوا من الله عفوه واحمدوا الله على عافيته ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة، ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيمًا، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا. حرر في 5 شعبان عام 1393هـ.(٤ سبتمبر ١٩٧٣ م) (من رسالة "يسر الإسلام في أحكام حج بيت الله الحرام" للشيخ عبدالله بن زيد آل محمود رحمه الله)