الحجر الأسود ( 1 )


 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

في صحن المطاف تتزاحم أعناق الطائفين وأياديهم حول إطار فضي صقيل يرتفع نحو متر ونصف في الركن الشرقي الجنوبي من الكعبة المهيبة طلباً لتقبيل فص كبير، بيضاوي الشكل، يضرب لونه إلى السواد. حيث يرى المسلمون أن هذا الحجر الكريم هو يمين الله في الأرض يصافح به عباده المؤمنين \" ما يصافح الرجل أخاه \" وأن له لساناً وعينين تشهد لمن قبّله يوم القيامة.

 

يقول الإمام المفسر فخر الدين الرازي (606هـ) في مصنفه تفسير القرآن \" إن آدم - عليه السلام - لما أهبط إلى الأرض شكا الوحشة، فأمره الله - تعالى - ببناء الكعبة، وطاف بها \".

 

وروى أبو الوليد الأزرقي المتوفي سنة 223هـ في تاريخه (أخبار مكة) بسنده إلى وهب بن منبه ـ وكان من أحبار اليهود ثم أسلم ـ قوله \" إن الله - تعالى - لما تاب على آدم - عليه السلام - أره أن يسير إلى مكة فطوى له الأرض وقبض له المفاوز حتى انتهى إليها، وكان قبل ذلك قد اشتد بكاؤه وحزنه لما كان فيه من عظم المصيبة حتى أن الملائكة لتحزن لحزنه ولتبكي لبكائه، فعزاه الله بخيمة من خيام الجنة ووضعها له بمكة في موضع الكعبة قبل أن تكون الكعبة، وتلك الخيمة ياقوته حمراء من يواقيت الجنة فيها ثلاث قناديل من ذهب من تبر الجنة، فيها نور يلتهب من نور الجنة، ونزل معها الركن وهو يومئ ياقوتة بيضاء من ربض (أساس) الجنة، وكان كرسياً لآدم - عليه السلام - يجلس عليه \".

 

يعتبر أقدم الأجرام المادية. وكما قيل فليس من الجنة على الأرض إلا الحجر الأسود ومقام إبراهيم. وقد نزل به جبريل - عليه السلام - \". \" أخبار الحجر الأسود طويلة وآثارها كلها من حيث التاريخ لا تخلو من نظر، وقد جاءت آثار في خصائصه وإن كانت كلها بأسانيد ضعيفة إلا أنها مما في الأخبار. وما يهمنا هنا هو الجانب العملي وهو فضله ومكانته في التشريع. ومما ذكر في فضله أنه يمين الله، وأن من فاتته بيعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واستلمه كأنه قد بايع رسول الله، ومنها أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: \" لقد نزل وله نور ولولا ما مسته أيدي المشركين لكان ما استشفي به مريض إلا شفاه الله \". ومما جاء فيه أيضاً: \" ما قيل أن الله - سبحانه وتعالى- أخرج ذرية آدم من ظهورهم وأشهدهم على أنفسهم: \" ألست بربكم \" قالوا بلى أنه كتب ذلك في كتاب أودعه في الحجر الأسود \". ويزعم المستشرقون أن الحجر الأسود نيزك من النيازك، وشهاب من الشهب استقر على الأرض. فيما يقول آخرون أن الإسلام حطم أصنام مشركي قريش، في فتح مكة، وعظم المسلمون بعدها الحجر الأسود وغيره.

 

 \" أقوال المستشرقين قائمة على الحدس والظن،، وما يعمله المسلمون من الحجر قائم على العلم اليقيني، والقاعدة تقول اليقين لا يزول بالشك \" كما قال الشيخ الخطاط المؤرخ محمد طاهر الكردي في كتابه (مقام إبراهيم) أنه \" مما هو جدير بالذكر والالتفات إليه، أن العرب في جاهليتها مع عبادتهم الأحجار، وبالأخص حجارة مكة والحرم، لم يسمع عنهم أن أحداً عبد الحجر الأسود والمقام مع عظيم احترامهم لهما ومحافظتهم عليهما \"!

 

وزاد (- رحمه الله -) \" لقد تأملنا في سر ذلك وسببه، فظهر لنا أن ذلك من عصمة الله - تعالى -، فإنهما لو عبدا من دون الله في الجاهلية، ثم جاء الإسلام بتعظيمهما باستلام الركن الأسود، والصلاة خلف المقام، لقال المنافقون أعداء الإسلام: إن الإسلام أقر احترام بعض الأصنام، وأنه لم يخلص من شائبة الشرك، ولتمسك بعبادتهما من كان يعبد أحدهما من قبل ولهذا فحفظ الله - تعالى - هذين الحجرين عن عبادة أهل الجاهلية لهما \". وتؤكد صحاح كتب الأحاديث النبوية أن الحجر الأسود ياقوته من يواقيت الجنة، نزل إلى الأرض ولونه أبيض من الثلج ومن اللبن، كما ورد في الأثر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال فيه \" والله ليبعثنه الله يوم القيامة له عينان يبصر بهما، ولسان ينطق به يشهد على من استلمه بحق \". وهو مودع بأمر الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم - في ركن الكعبة المشرفة. وقد سمي الحجر الأسود في الحديث النبوي بـ (الركن) وهو مغروس في عمق بناء الكعبة ولا يظهر منه إلا رأسه الذي أسود من خطايا المشركين. أما ما غرس فلونه أبيض، وجاء عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قوله \" كان الحجر الأسود أبيض من اللبن، وكان طوله كعظم الذراع.

 

وأورد المؤرخ ابن إسحاق المتوفى سنة 151هـ في مصنفه (سيرة إمام أهل السير) في قصة بناء إبراهيم - عليه السلام - للكعبة قوله: \" فلما ارتفع البنيان قرب له إسماعيل المقام، فكان يقوم عليه ويبني، ويحوله إسماعيل في نواحي البيت، حتى انتهى إلى موضع الركن. قال إبراهيم لإسماعيل: أبغني حجراً أضعه هاهنا يكون للناس علماً يبتدئون منه الطواف، فذهب إسماعيل يطلب له حجراً، ورجع وقد جاءه جبريل - عليه السلام - بالحجر الأسود، وكان الله قد استودع الركن جبل أبي قبيس ـ جبل قرب الحرم ومشعر الصفا جزء منه، حين أغرق الله الأرض زمن نوح، وقال: إذا رأيت خليلي يبني بيتي فأخرجه له. قال: فجاءه إسماعيل فقال له: يا أبت من أين لك هذا؟ قال: جاءني به جبريل. فلما وضع حبريل الحجر في مكانه، وبنى عليه إبراهيم وهو حينئذ يتلألأ من شدة بياضه فأضاء نوره شرقاً وغرباً ويميناً وشمالاً، قال: فكان نوره يضيء إلى منتهى أنصاب ـ حدود ـ الحرم من كل ناحية من نواحي الحرم \". وحين هدمت الكعبة المشرفة سنة 1039هـ بسبب سيل جارف، وقام السلطان مراد العثماني بعمارتها، كان ممن حضرها الإمام ابن علان المكي، وقد سجل مراحل عمارتها ووصف ذلك بالتفصيل. ومما قاله عن الحجر وقد شاهده بالمعاينة \" ولون ما يستتر من الحجر الأسود بالعمارة في قدر الكعبة أبيض بياض حجر المقام، وذرع طوله نصف ذراع، وعرضه ثلث ذراع، ونقص منه قيراطاً في بعضه، وسمكه أربعة قراريط، وعليه سيور من فضة. وقال: إن عدة فلق (شطايا) الحجر نحو ثلاثة عشر، أما الكبار منها أربعة، والباقيات صغار بالنسبة إليها، وقد عمل مركب يلصق به ما تفرق عنه من أجزائه.

 

وقال المؤرخ والخطاط محمد طاهر الكردي المتوفي عام 1400هـ موضحاً ما آل إليه الحجر الأسود قبل نحو خمسين سنة فقط من الآن قوله \" والذي يظهر من الحجر الأسود الآن في زماننا ـ منتصف القرن الرابع عشر الهجري ـ ونستلمه ونقبله ثماني قطع صغار مختلفة الحجم، أكبرها بقدر التمرة الواحدة، كانت قد تساقطت منه حين الاعتداءات عليه من بعض الجهال والمعتدين في الأزمان السابقة، وقد كان عدد القطع الظاهرة منه خمس عشرة قطعة، وذلك منذ خمسين سنة، أي أوائل القرن الرابع عشر للهجرة، ثم نقصت هذه القطع بسبب الإصلاحات التي تحدث في إطار الحجر الأسود، فما صغر ورق عجن بالشمع والمسك والعنبر، ووضع أيضاً على الحجر الكريم \" ويؤيد صاحب كتاب (الكعبة المعظمة والحرمان الشريفان) عبيد الهل الكردي (- رحمه الله -) وهو مؤرخ التوسعة للمسجد الحرام والمسجد النبوي الشريف وترميم وتجديد الكعبة المشرفة، ما جاء في وصف المؤرخ الكردي للحجر الأسود. وأكد في كتابه الصادر عام 1419هـ (1999) أن الحجر الأسود لا يمكن وصفه لأننا لا نرى منه الآن إلا ثماني قطع صغار (وساق رواية الكردي).

وللقرامطة تاريخ أسود مع هذا الحجر الكريم الذي وصفه ابن عباس بقوله \" الركن والمقام ياقوتتان من يواقيت الجنة،، إليها يصيران، ولولا ما مس هذا الركن من الأنجاس، لأبرأ الأكمه والأبرص \" فقبل نحو 1107سنة تعرض الحجر الأسود على أيديهم لأبشع حادثة عرفها التاريخ الإسلامي. حين تولى أبو طاهر القرمطي سليمان ابن أبي سعيد العدوان الجائر على بيت الله الحرام سنة 317هـ. والقرامطة أصحاب مذهب باطني، وينسبون إلى رجل من سواد الكوفة اسمه (قرمط) دعا إلى الزندقة والكفر الصريح فقتله الخليفة العباسي (المكتفي بالله) سنة 293هـ.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply