الحج يكفر الذنوب ولا يسقط الحقوق


بسم الله الرحمن الرحيم

 الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

هل الحج إلى بيت الله الحرام بمكة المكرمة يكفِّر جميع الذنوب والمعاصي السالفة، ويُسقط ما على الإنسان من حقوق لله - تعالى - والعباد؟

فإن المظالم والتبعات وإن سقط بالحج إثم تأخيرها في الماضي لا تسقط هي، بل لا بد من وفائها، وأنه يتجدد إثمٌ آخر بعد الحج بتأخير الوفاء مع القدرة عليه، فإن عجز عن الوفاء وتاب إلى الله - تعالى - ومات على ذلك يُرجَى أن يسقُط عنه إثم التأخير عن الوفاء.

يقول فضيلة الشيخ حسنين مخلوف - رحمه الله - (مفتي الديار المصرية سابقاً):

روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: (من حج لله فلم يرفُث) الرَّفَث: الفُحش في القول. وقال الأزهري: هو كلمة جامعة لكل ما يريد الرجل من المرأة (ولم يفسُق) لم يأت بسيئة ولا معصية (رجع كيوم ولدته أمه) أي رجع من ذنوبه مشابهاً لنفسه في أنه يخرج بلا ذنب كما خرج يوم الولادة بلا ذنب، والذنوب تشمل الصغائر والكبائر والتَّبِعات فيكفرها جميعاً الحج المبرور المقبول المأجور.

أما الصغائر فلا خلاف في أنه يكفِّرها ويهدمها.

وأما الكبائر والتبعات فليس معنى تكفيره إياها ما يظنه كثير من الناس خطأ من أنه يُسقطها، سواء تعلقت بحق الله - تعالى - أو بحق العبد، فإنه لم يقل أحد بذلك وإنما معناه أنه يسقُط إثم تأخير التوبة منها فقط. أما الحقوق نفسها فإنها لا تسقط مطلقاً، لأنها ليست ذنوباً ومعاصيَ، وإنما الذنب والمعصية تأخيرها، وهو الذي يُسقطه الحج المبرور، ويجب على من عليه هذه الحقوق أداؤها بلا تأخير، وإذا أتم الحج بالوقوف بعرفة واستمر على تأخيرها صار آثماً من جديد بهذا التأخير.

ذكر ذلك العلامة ابن نجيم في (البحر الرائق) وبيَّنه العلامة ابن عابدين في حاشيته عليه بما خلاصته "أن من أخَّر صلاة عن وقتها فقد ارتكب معصية وهي التأخير، ووجب عليه القضاء، وإذا مطَل الدَّينَ فقد ارتكب معصية هي المَطل مع وجوب القضاء، وكذلك من قتل إنساناً فقد ارتكب معصية وهي الجناية على النفس، ووجب عليه شيء آخر وهو تسليم نفسه للقصاص أو تسليم الدية، فإذا أخرها كانت معصية أخرى غير معصية القتل.

وكذا نظائر ذلك مما يكون معصية يترتب عليها واجب، سواء كان هذا الواجب من حقوق الله - تعالى - أم من حقوق العباد. فما ورد في الأحاديث من تكفير الحج للذنوب والتَّبِعات فالمراد تكفيره لما هو ذنب وكبيرة كتأخير الصلاة ونحوها ومَطل الدين والجناية على النفس.

وأما الواجبات المترتبة على ارتكاب تلك الذنوب، من لزوم قضاء الصلاة وأداء الدين وتسليم نفسه للقصاص أو تسليم الدية، فإنها لا تسقط لأنها ليست ذنوباً بل هي واجبات. والتكفير إنما يكون للذنوب، ألا ترى أن التوبة تكفر الذنوب بالاتفاق، ولا يلزم من ذلك سقوط الواجبات المترتبة على تلك الذنوب.

على أن التوبة من ذنب الغصب مثلاً لا تتم إلا بأداء واجب وهو رد المغصوب أو ضمانه، ولا يخرج الغاصب عن عهدة الغصب في الآخرة إلا به، فمن غصب شيئاً ثم تاب لا تتم توبته إلا برده أو ضمانه دون تأخير.

والحج كالتوبة في تكفير الكبائر، سواء تعلقت بحقوق الله - تعالى - أو بحقوق العباد أو لم تتعلق بحق أحد، أعني لم يترتب عليها واجب آخر كشرب الخمر ونحوه، فيكفِّر الحج الذنب ويبقى حق الله - تعالى - وحق العبد في ذمته، إن كان ذنباً يترتب عليه حق الله أو حق العبد، وإلا فلا يبقى عليه شيء.

قال العلامة اللقاني في شرحه الكبير على (جوهرة التوحيد): "إن من حج البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، أي سقط عنه إثم مخالفة الله - تعالى -، ولا يتناول ذلك حقوق الله وحقوق العبادº لأنها في الذمة وليست ذنوباً، وإنما الذنب المَطل في الحق فيتوقف على إسقاط صاحبه"اهـ.

ونقل القسطلاني عن الترمذي أن الحقوق نفسها لا تسقط بالحج، فمن كان عليه صلاة أو كفارة ونحوها من حقوق الله - تعالى - لا تسقط عنه بالحج لأنها حقوق لا ذنوب وإنما الذنب تأخيرها، فالتأخير يسقط بالحج لا هي أنفسها، ولو أخرها بعد الحج تجدد إثم آخر.

وبالجملة فالحج المبرور يُسقط إثم المخالفة لا الحقوق. انتهى.

وظاهر أنه لا فرق في ذلك بين حقوق الله - تعالى - وحقوق العباد، فيسقط في الكل إثم التأخير فقط بالنسبة لما مضى دون الأصل ودون التأخير المستقبل، كما بيَّنه ابن نُجيم وابن عابدين.

وصلى الله على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply