صمام الأمان


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الخطبة الأولى:

أما بعد أيها الأخوة المؤمنون:

موضوعنا خطير، وأثره كبير، ونفعه إن تحقق عظيم، وضرره إن تخلف جسيم، انتبهوا جيدا، وأصغوا بقلوبكم قبل آذانكم، مقالات أبتدئ بها هذا الحديث لأؤكد على أهمية والعظمة، قال الغزالي - رحمه الله - عن موضوعنا-: \"هو القطب الأعظم في الدين، وهو المهم الذي ابتعث الله له النبيين أجمعين، ولو طوي بساطه، وأهمل عمله، لتعطلت النبوة، واضمحلت الديانة وعمت الفتنة وفشت الضلالة وشاعت الجهالة واستشرى الفساد واتسع الخرق وخربت البلاد وهلك العباد \".نسأل الله - عز وجل - السلامة.

ويقول أبو بكر بن العربي أيضاً في موضوعنا: \"هو ابتداء الدين والإسلام وهو انتهاءه \".

ويقول القرطبي: \"هو فائدة الرسالة وخلافة النبوة \".

ويقول النووي - رحمه الله - كذلك: \"هو باب عظيم به قوام الأمر وهلاكه \".

 

فهل جال بخاطركم ما هو هذا الأمر؟ هل هو التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، كل ذلك يصدق عليها لكن هذا لا يخفى على أحد! هل هو فرائض العبادات كالصلاة أو غيرها، كذلك الأمر فيها عظيم! غير أن العلم بها وافر، إنه أمر له كل هذه العظمة، ومع ذلك لا يكاد يلتفت الناس إلى أهميته، وزمنا بعد زمن، وعصراً بعد عصر تنحلٌّ عراه، وتغيب شمسه، وتذوي جذوته، والأمر يشتد خطراً ويعظم ضرراً، وكثيرون ما زالوا عنه غافلين وبه غير عارفين، وعنه غير سائلين.. هل أدركتم ما هو؟

أحسب أن بعضا قد أدرك وربما كثيرون لم يدركوا.. إنه قطب الرحى صمام الأمان، خصيصة هذه الأمة، سمة الدين والعبودية الحقة.. إنه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

هل نُدرك أن له هذه العظمة؟ هل ندرك لما قال أولئك العلماء الأفذاذ هذه المقالات؟ لم يأتوا بها من عقولهم ولا من بنات أفكارهم، جاءوا بها من نور قرآنهم ومن هدي نبيهم - صلى الله عليه وسلم -.

 

ومضات سريعة ننظر فيها إلى هذه الشعيرة في إسلامنا وقرآننا وهدي نبينا - صلى الله عليه وسلم -، وإن ما أذكره ما هو إلا غيظ من فيض وقليل من كثير.

أولاً: حقيقة العبودية:

أكثر الناس يظنها في حفظ الصلاة والمواظبة على الصيام ومتابعة الحج والعمرة وإخراج الزكاة وليس وراء ذلك شيء، استمع لقول الحق - سبحانه وتعالى -: {الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور}.

انظر إلى الأوصاف المتعلقة بأهل الإيمان: {التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين}

الصفة ملازمة لحقيقة العبودية وأداء الأركان والفرائض، قال ابن كثير في تعليقه وتفسيره لهذه الآية قال: \"ينفعون خلق الله ويرشدونهم إلى طاعة الله بأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر مع العلم بما ينبغي فعله ويجب تركه وهو حفظ حدود الله في تحليله وتحريمه علماً وعملاً، فقاموا بعبادة الحق ونصح الخلق \".

أمران متلازمان في دين الإسلام، لا تكمل العبودية إلا بهما، عبودية الحق ونصح الخلق.

 

واستمع كذلك إلى الوصية العظيمة التي جاءت بها آيات القرآن تعليماً وتوجيهاً وتذكيراً وتربية لنا، وصية لقمان: {يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور}.

تأمل هذا التتابع في سائر الآيات بعد ذكر الصلوات بعد سرد العبادات تأتي هذه الشعيرة ظاهرة واضحة.

 

قال الرازي في تفسيره: \"إذا أكملت نفسك بعبادة فكمل غيرك، فإن شغل الأنبياء وورثتهم من العلماء هو أن يكملوا في أنفسهم ويكملوا غيرهم \"

فهل نفقه ذلك من سمت عبوديتنا وحقيقة ربانيتنا؟

 

ثانيا: سبب الخيرية:

وكلنا يحفظ الآية وكلنا يرددها {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون}

تأمل هذا المعنى أيضا خيرية واضح نصها وسببها وتقديم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالاحتفاء به وبيان أهميته وتوكيده بتعقيبه بالأمر الذي لا خلاف فيه وهو الإيمان بالله - عز وجل -، روى ابن جرير في تفسيره عن قتادة قال: بلغنا أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في حجة حجها رأى من الناس رعة أي نوعا من سوء الأدب والطيش والسفه- قال رأى من الناس رعة فقرأ الآية: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله}، ثم قال: \"من سره أن يكون من هذه الأمة فليؤدي شرط الله فيها \".

قال ابن كثير: \" ومن لم يتصف بذلك أشبه أهل الكتاب الذين ذمهم الله - جل وعلا - بقوله: {كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه} ثم قال: ولما مدح الله في هذه الآية الأمة بهذه الصفات شرع بعد ذلك في ذم أهل الكتاب وتأنيبهم فقال: {ولو آمن أهل الكتاب}\"

فهل نفقه أيضا أن سر خيريتنا وتشريفنا وتفضيلنا وتقديمنا مربطه وأساسه وقطب رحاه هو هذه الشعيرة، ومتى فقدناها فقدنا من الخيرية بقدر ما نفقد منها أو نفرط فيها.

وهل نكاد اليوم نضع الأصبع على الداء ونكشف بالنور موضع الخلل، فندرك أن كثيرا مما أصابنا من هواننا وضعفنا وخلافنا وفرقتنا سببه تفريطنا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

 

ثالثا: سمة الإيمان

شعيرة تفرق بين الإيمان والنفاق جدير أن يعض عليها المؤمن بالنواجذ، وأن يقبض عليها بكلتا يديه ولو كانت كجمر متقدº لئلا يخرج من سمة الإيمان إلى وصف النفاق والعياذ بالله، الله - جل وعلا - يقول: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر}

تلك سمتهم بصيغة المضارع الدال على الاستمرار، ولاء يقتضي ذلك الأمر والنهي، يقتضي النصح والتقويم والتكميل، وفي جهة مقابلة: {والمنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف}

كم نرى من صورة لهذا في واقع أمتنا، كم نرى به من لسان ناطق، كم نرى فيه من مشهد حي عبر القنوات، وصور فاتنة آثمة على الصفحات، كم نرى له من رواج قد غضت عنه العيون فكأنها لا ترى، وخرست عن إنكاره الألسن فكأنها لا تنطق، وربما لم تشمئز منه القلوب ولم تنقبض منه النفوس، فكأنما قد غاب عنها هذا الشعور حتى في داخلها، في سويداء قلوبها وأعماق نفوسها.

 

تأمل هذا وتأمل ما رواه الإمام أحمد في مسنده عن درة بنت أبي لهب قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - على المنبر فقام رجل فقال: يا رسول الله من خير الناس، قال: (خير الناس أتقاهم لله وآمرهم بالمعروف وأنكرهم للمنكر وأوصلهم للرحم) أو كما قال - صلى الله عليه وسلم -.

قال البيهقي - رحمه الله - في شعب الإيمان: \"إن الله جعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرق ما بين المؤمنين والمنافقين ثم قال - رحمه الله - وثبت بذلك أن أخص أوصاف المؤمنين وأقواها دلالة على صحة عقيدتهم وسلامة سريرتهم هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر \".

والبرهان الصادق على الإيمان الراسخ واليقين العظيم، والإيمان الصادق الدال على الغيرة والحمية الإيمانية، هو الكاشف عن حقيقة ما يستقر في النفس والقلب من حب الله وحب أوامره وبغض من يبغض الله أو يعاديه أو يعادي أوليائه وأحبابه ودعاته، تلك هي السمة الفارقة، فهل نزن أنفسنا، وهل نعرف المعيار الذي قد نخرج به والعياذ بالله من سمة الإيمان إلى وصف النفاق.

 

رابعاً: أمر مهم ضابط الصلاح والأمان

إنه لا سلامة للمجتمعات ولا استقامة لها، ولا دوام لحسن وصلاح أحوالها إلا بهذه الشعيرة {فلولا كان من القرون من قبلكم أول بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم}

آية عظيمة تخبرنا عن سر وسبب الفساد والانحلال الذي جرى عبر القرون المتتابعة كيف انحلت واضمحلت الديانة؟ كيف ضعفت أنوار النبوة عبر التاريخ رسولا إثر رسول وأمة إثر أمة؟

{فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض}

لو كان في كل أمة بقية صالحة مصلحة لا تكتفي بصلاح نفسها وعبادة ربها بل تتجاوز ذلك إلى إصلاح غيرها أمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر لكان الحال على غير الحال، ولكان الخير أوسع دائرة والصلاح أظهر وضوحا مما هو الأمر عليه.

وجاء الاستثناء للبقية {إلا قليلاً ممن أنجينا منهم} تلك القلة التي تقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يصرف الله بها ما شاء من البلاء، ويكون لها ذلك السبب السعادة والنجاة في الدنيا والآخرة بإذن الله - عز وجل -.

قال السعدي في تفسير هذه الاية: \" في هذا حث للأمة أن يكون فيهم بقايا مصلحون لما أفسد الناس، قائمون بدين الله يدعون من ضل إلى الهدى ويصبرون منهم على الأذى ويبصرونهم من العمى، وهذه الحالة أفضل حالة يرغب فيها الراغبون وصاحبها يكون إماما في الدين إذا جعل عمله خالصا لرب العالمين \"

أتدرون ما شر انتشار أو كثرة الفساد، ألسنا نشكو اليوم أكثر شكوى مما كنا نشكو منه بالأمس، أتسمعون الحديث الصحيح المتفق عليه من قول أم المؤمنين تسأل المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: أنهلك وفينا الصالحون؟! فأجاب بلسان النبوة الصادق الذي لا ينطق عن الهوى، قال: (نعم، إذا كثر الخبث)

وكلنا أو معظمنا يحفظ حديث السفينة، قوم في أعلاها وقوم في أسفلها، إن تركوا من في الأسفل يخرق غرقوا وهلكوا وهلكوا جميعا، وإن أخذوا على يده نجوا ونجوا جميعا، ليس ثمة تصوير أبلغ من أثر ترك النهي عن المنكر والأمر بالمعروف ومآله الوخيم وعاقبته الجسيمة وضرره العميم من مثل هذا الحديث النبوي العظيم.

وروى الإمام أحمد والطحاوي بسند صحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (إن الناس إذا رأوا المنكر ولا يغيرونه أوشك الله أن يعمهم بعقابه).

وذلك أمر واضح ذكره العلماء وبينوه، قال ابن العربي - رحمه الله - في هذا المعنى: \" الذنوب منها ما يعجل الله عقوبته، ومنها ما يمهل الله به إلى الآخرة، والسكوت عن المنكر تتعجل عقوبته في الدنيا بنقص الأموال والأنفس والثمرات وركوب الذل من الظلمة للخلق \".

وقال بلال بن سعد - رحمه الله -: \"إن المعصية إذا خفيت لم تضر إلا صاحبها، وإذا أعلنت فلم تغير ضرت العامة \"

وعن عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - قال: \" إن الله لا يعذب العامة بذنب الخاصة لكن إذا عمل المنكر جهارا استحقوا كلهم العقوبة \".

هل نمضي ونزيد؟!

أحسب في هذا كفاية لندرك عظمة هذا الأمر، هو قطب الرحى هو صمام الأمان، هو سمت العبودية والإيمان، هو مناط الخيرية والتقدم، هو الذي به يكون لنا تقويم كل اعوجاج وتصويب كل خطأ واستدراك كل نقص، به نضيق دائرة الفساد ونردم منابعها، به نجعل القلوب حية مشرقة مفرقة بين الحق والباطل، يبقى لها ذلك السمت الإيماني الذي ذكره النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه الترمذي من حديث وابصة بن معبد - رضي الله عنه - يوم قال له سيد الخلق - صلى الله عليه وسلم -: (استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك).

وبين له الإثم فقال: (الإثم ما حك في القلب وتردد في الصدر وكرهت أن يطلع عليه الناس)

أين هذه القلوب التي تشمئز وتنفر وتضيق وتتبرم بالمنكر إذا رأته أو سمعت عنه، هل هي صاحبة الفرقان المذكور في قول الحق - جل وعلا -: {يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم}.

يجعل في قلوبكم من الإيمان وشفافيته ونورانيته ما تميزون به بين الحق والباطل والخير والشر، وإن لم يكن لكم عندكم فيه برهان أو دليل واضح أو علم سابقº لأن النفس المؤمنة والقلب المشرق بالإيمان ينفر بطبعه بما وقر فيه من كل معصية ومنكر، يضيق الصدر إذا فقد بعض الناس أموالهم كما أسلفنا في الأسهم، تنزل الدمعة من أعين الناس إذا فقدوا حبيبا أو قريبا أو حلت بهم نكبة، يعظم الهم ويتعاظم الغم إذا حصل كذا وكذا، فأين مثل هذا أو شبهه إذا وقعت المنكرات وعمت ولم تجد لسانا بالمنكر ناطقا، ولا يدا له كاتبة أو مانعة، أين هذا من قلوبنا ونفوسنا، أليس ذلك جديرا بأن نقف عنده وقفات، وإن ملأنا المساجد بالصلوات، وإن أكثرنا من الصيام والتلاوات والدعواتº فإن دين الله - عز وجل - شامل كامل، وإن هدي المصطفى - صلى الله عليه وسلم - قد بين لنا أن من وقر الإيمان في قلبه وتحقق بالعبادة في حياته لا يملك إلا أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، لا يستقيم له حال لا يطمئن له قلب، لا يلين له جنب إلى أن يرى الحق ظاهرا والمنكر متواريا، فإذا تغير الأمر كان الحال على غير الحال، كلنا يدرك هذا المعنى وكلنا مخاطب به وأول من يخاطب به ولاة أمورنا من حكامنا وعلمائنا، وإن كان ذلك لا يعفي آحادنا من المسئولية بأي حال من الأحوال.

يقول الحق - سبحانه وتعالى -: {لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون}

قال الضحاك - رحمه الله - في هذه الآية: \"ما في القرآن آية أخوف عندي منها أننا لا ننهى\"

{لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون}

قال: إنها تخيفني، أولئك أحبار وربانيون وفي أمتنا علماء وأهل علم بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - عليهم مسؤولية عظيمة.

نقل ابن جرير في تفسيره قوله بعدما ساق من أقوال السلف في هذه الآية قال:

\"وكان العلماء يقولون ما في القرآن آية أشد توبيخا للعلماء من هذه الآية ولا أخوف عليهم منها\"

فإلى علمائنا وإلى دعاتنا نبض قلوبنا ونظرة عيوننا، وتعلق أبصارنا بدوركم بقولكم بوقفاتكم بإحقاقكم للحق، بإعلائكم رايته، بثباتكم على الحق والمبدأ، باستنصاركم بالله وعزتكم به وعدم خوفكم من الباطل وأهله مهما كانت سطوتهم وقوتهم.

وإلينا جميعا كذلك، فإن النصوص الشرعية تخاطبنا فردا فردا، هل نريد بالعبادات والطاعات أجرا وتكثيرا لحسناتنا ونريد تكفيرا لسيئاتنا ذلكم كذلك في هذه الشعيرة العظيمة (من دل على خير فله أجره وأجر من عمله إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا).

(لئن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم).

 

ثم في المقابل في التكفير يأتي الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي قال فيه: (فتنة الرجل في أهله وماله ونفسه وولده وجاره يكفرها الصيام والصلاة والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر).

وكلنا يعلم كذلك الدوائر المهمة التي نحتاج أن ننتبه لها، لعل قائلا يقول: مالك جئتنا بهذا الموضوع ولم تعظمه علينا وتجعله كعبء وحمل ثقيل بل كجبال عظيمة فوق رؤوسنا أقول هذا سؤال تعرفون جوابه، فإننا نرى المنكر يجوس خلال الديار، ويدخل إلى عقر بيوتنا، ويشيع بيننا، وفي هذه البلاد بلاد الحرمين الشريفين التي لها كرامة عظيمة بما فيها من هذين البيتين العظيمين والمدينتين المقدستين وما فيها من دستور ونظام حكم يدل في كل حرف من حروفه وكلمة من كلماته على الاستمساك بالشرع والكتاب والسنة، وتنص أنظمتها كلها من حيث دلالتها وصياغتها على التزام الإسلام وعدم ارتكاب ما يخالفه، نرى في الواقع صورا كثيرة تزداد دوائرها وتتسع وتتنوع صورها، وقد آلمني الكثير والكثير مما يرى ثم يزداد ثم يتعاظم، ثم يتكرر ثم يستسلم الناس له، ولا يرون بأسا به، ولا يرون قدرة على إنكاره وكأنه أمر لا مفر منه، وكأنه شيء قد عذر الناس بتركه وترك الأمر والنهي عنه.

 

جد ذلك لي مجلة جديدة عجيبة غريبة أن تصدر من ديارنا ولا أقول هذا إثارة وتعلمون أني لا أحب ولا أجيد هذا الفن، ولا أقوله تهجما على من وراءها أو من يقوم بها، ولكنها مهمة وواجب الأمر بالمعروف والنهي على المنكر، مجلة كل صورها على غلافها نساء كاشفات الشعر مزينات الوجوه بالألوان المختلفة وعنوانها الرئيس الموجود على صفحة غلافها [النساء يغتصبن الرجال]، وداخل العدد، أبحث عما يقولونه عن عقل المرأة وفكرها ودورها وقدرتها على القيادة وغير ذلك مما يرددونه صباح مساء، فلا أرى إلا موضوعات سخيفة وبعض القضايا التي فيها كثير وكثير من التهجم على مجتمع هذه البلاد، والتهجم ضمنا قد يكون واردا، أو يفهم عند من قد يفهمه أنه يشتمل على ما يقوم به المجتمع من أسس الدين ودعائم الأخلاق وركائز القيم، تصف لنا كاتبة أم فلان، وهي امرأة في بيتها وعندها خادمة وعندها تسعة من الأبناء وعندها وعندها وعندها، وتصور تصويرا قبيحا لبيت كأنه من بيوتنا وترى أن كثرة الأبناء وأن بعض الصور كلها من الأمور المذمومة المرذولة.

أقول ألا يصدق ألا يصح ألا يسهل على كل أحد منا أن يكتب كلمات ويرسلها إلى أولئك، علّ الله - عز وجل - أن يشرح بها صدورهم علهم وكلهم من أهل الإسلام وفيهم بذرة الخير، علهم يرجعون إلى أنفسهم فيحاسبونها علنا على أقل تقدير نقيم حجتنا ونبرئ ذمتنا، وليس في هذا الباب فحسب بل الأبواب كثيرة، وقد اتسع الخرق على الراقع.. نسأل الله السلامة.

نسأله - سبحانه وتعالى - أن يحفظ علينا ديننا وإسلامنا وأخلاقنا وقيمنا وأن لا يؤاخذنا بفعل السفهاء منا إنه ولي ذلك والقادر عليه، أقول هذا القول واستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية

أما بعد معاشر الأخوة المؤمنون:

وأعملوا أن من أعظم دلائل التقوى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولنفسي ولكم أبعث هذه الرسائل الثلاث حتى لا تظنوا أن الأمر ليس متعلقا بنا وأن المهمة ليست مرتبطة بأعناقنا بل أزيد الأمر عبئا على عبء وثقلا على ثقل، عل ذلك يدفعنا جميعا إلى أن نسعى إلى إبراء ذمتنا وعتق رقابنا والقيام بواجبنا.

احذر الأعذار، الكثيرة هي الأعذار التي يمكن أن نقولها لنبرر لأنفسنا ترك هذه الشعيرة العظيمة، ما عسى أن ينفع قولي وما فائدة كتابتي، وما الأمر الذي يمكن أن يحصل لو قلت أو سكت، كلاهما سيان، ليس الأمر كذلك، لا تعذر بهذه الأعذار، لأن الله - عز وجل - قد بين لنا ذلك، فقال في شأن قصة أهل القرية وحيل أصحاب السبت {قالوا لم تعظون قوما الله مهلكم أو معذبهم عذاباً شديداً قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم ينتهون}

لا تدري رُبَّ كلمة تقع موقعا من قلب مرتكب لمعصية ومقترف لإثم فيتذكر بها ويتعظ ويرجع، قال النووي - رحمه الله -: \"قال العلماء - رضي الله عنهم -: ولا يسقط عن المكلف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكونه لا يفيد في ظنه بل يجب فعله فإن الذكرى تنفع المؤمنين والذي عليه الأمر والنهي لا القبول، قال الله - تعالى -: {ما على الرسول إلا البلاغ}\".

 

وثانية أرسلها وأحذر منها، مداهنة الأشرار، كم نبتسم في وجوه الناس الذين يرتكبون المنكرات وقد يكون ذلك حال ارتكابهم لها، وإن كنا مصدرين في الناس أو مسموعي الكلمة، فإن ذلك تلبيس للحق بالباطل، كيف أرى مع من يرتكب المنكر حال ارتكابه، دون أن يسمع قول في الإنكار ولا فعل بهذا الإنكار، ولا مقاطعة على أقل تقدير لهذا المنكر، إنه أمر غير مقبول بحال، لأن الله - سبحانه وتعالى - قال: {وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم}.

قال القرطبي: \"دل بهذا على وجوب اجتناب أصحاب المعاصي إذا صدر منهم منكر لأن من لم يحدث منه ذلك فقد رضي فعلهم \"

ثم قال في قوله: {إنكم إذا مثلهم} \"كل من جلس في مجلس معصية ولم ينكر عليهم يكون معهم في الوزر سواء وينبغي أن ينكر عليهم إذا تكلموا بالمعصية وقالوا بها فإن لم يقدر على النكير عليهم فينبغي أن يقوم عنهم حتى لا يكون من أهل هذه الآية\".

 

وآخر هذه الإنذارات احذروا هدم آخر الأسوار، سور إنكار القلب وكلكم يعلم حديث أبي سعيد الخدري عن رسول الهدى - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال: (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان).

كلنا يحفظ كذلك حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -، عن حذيفة - رضي الله عنه -: (تُعرض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً، فأيما قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء، وأيما قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء حتى تكون القلوب على قلبين قلب أبيض لا تضره فتنة وقلب أسود مرباداً كالكوز مجخياً لا يعرف معروف ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه).

 

وكذلكم نعرف حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي قال فيه وهو حديث طويل من حديث حذيفة: (ثم تخلف من بعدهم خلوف يقولون مالا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل).

فهل نريد أن نفقد حبة الخردل الأخيرة من إيماننا، نسأل الله - عز وجل - السلامة.

 

صور كثيرة وحديثنا في هذه الشعيرة وفي صمام الإيمان موصول، نسأل الله - عز وجل - أن يحفظ بلادنا من المنكرات، وأن يشيع فيها الخيرات، وأن يجعلنا من الناطقين الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر والآخذين بهذه الشعيرة العظيمة..

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply