بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى:
أما بعد معاشر الأخوة المؤمنون:
لن نبرح على أرض الإسراء عاكفين، وقد كان حديث الجمعة الماضية عن بعض صور القوة والعزة والبطولة والتآلف في أرض الإسراء، وقد جاءني من قال إن في ما ذكرت شيئا عظيما تثقل به الكواهل، وتنأى به أجسادنا الضعيفة معنوياً وربما حسياًº ولعلي هنا في هذا المقام أنقلكم لننتفع ونستفيد، أنقلكم إلى مواجهة بين العدوان والإيمان، ليست مجرد مواجهة نظرية فحسب بل سنصورها في صورها العملية، مرة أخرى من أكناف بيت المقدس من الأرض التي بارك الله - عز وجل - فيها وحولها، لننظر من بعد التصديق العملي اليقيني الواقعي، لحقائق الآيات الربانية، ولصدق الوعود الإلهية، ولتمثل حقيقة الآيات القرآنية، كم نحن اليوم في حاجة إلى أن نربط بين تلك الآيات ومعانيها وبين حقائقها ليس في مجرد التفسير والمعاني بل بالصور العملية الحية بما فيها من كل المعاناة المريرة ومن كل الدماء الغزيرة ومن كل المواقف الجليلة التي نعكس اليوم بعضا من صورها، ولعلي كذلك في بدئ حديثي أشير إلى أن هذه الصور، صور مؤلمة محزنة ستصيبكم بمزيد من ثقل المسئولية على كواهلكم، وبمزيد من الذم لتقصيري وتقصيركم، ومزيد من الشعور بالتخلف عن الواجب الشرعي في واقع حياتنا، أنقل لكم بعض صور المآسي، وأتدرج أيضا فيها، أتدرج من عموم إلى خصوص، ومن يسير إلى عظيم وكثير، ومن أمر قد ترون له نظائر إلى أمور قد لا يكون لها مثيل، صور من معاناة الأسرى والمسجونين في سجون الاحتلال الصهيوني الغاصب المجرم، صور ربما تسمعون عنها، السجين رهن الاعتقال وتحت السيطرة ومع ذلك تأتي حملات التفتيش الفجائية المداهمة التي يقصد منها الإذلال والتي يمر فيها ويقع فيها التعرية الكاملة من جميع الملابس، ومع ذلك ورغم السجن تستخدم الغازات المسيلة للدموع والرصاص المطاطي والحارق، وكأننا في ميادين معركة ولسنا في سجن قد سلب المسجونون فيه حرياتهم وقدراتهم وكل ما يملكون في دنياهم، فضلا عن الضغوط النفسية المتكررة ويضاف إلى ذلك انعدام الرعاية الصحية والإهمال الطبي، إضافة إلى الحرمان من النوم أوقاتا طويلة، ثم تجدون صورا من هذه الصور المؤلمة التي أعطيكم نتيجتها من خلال هذه الانتفاضة الجهادية المباركة الأخيرة استشهد داخل السجون تحت هذه الأوضاع 187، ويرزح في قهر الأسر إلى يومنا هذا نحو عشرة آلاف، وتم اعتقال أربعة آلاف طفل دون سن الثامنة عشر كما هو التصنيف الدولي، يقبع منهم تحت نير السجن والأسر إلى يومنا هذا نحو خمسمائة، وانظروا إلى هذه الحقائق، هل فتت من عضدهم، هل نالت من يقينهم، هل زعزت من ثباتهم، بحمد الله في الجملة نرى غير ذلك، مع أن الذين في الخارج الذين يجيبون الدول والعواصم ويسكنون الفنادق لا الخنادق يقولون إن المعاناة تفرض التنازل وتطلب التغيير والتبديل في المواقف، والله - سبحانه وتعالى - يكشف لنا في آياته التي ربما لا نقرؤها أو إذا قرأناها لا نتدبرها أو إذا تدبرناها وعرفنا معانيها لا نتصورها حية ماثلة في الواقع والحق - جل وعلا - يقول مخبرا عن حقائق العدوان والمعتدين من الكافرين الظالمين: {كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة}.
لا قسماً ولا عهداً ولا ميثاقاً ولا اتفاقية جنيف ولا غيرها كل ذلك يخبرنا القرآن منذ أن نزل على سيد الخلق - عليه الصلاة والسلام - بحقائقه ومازال المغرورون ينتظرون قرارا من هنا أو إشارة من هناك أو اتفاقية قديمة أو حديثة، والحق - جل وعلا - يكرر المعنى ذاته بوضوح وجلاء وقوة في سياق الآيات نفسها بقوله: {لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة وأولئك هم المعتدون}.
واسم الإشارة هنا للبعيد للمبالغة والتعريف بالوصف المبتدأ والخبر {هم المعتدون} للدليل على تمكن العدوان والظلم منهم، لأن كل كافر بعيد عن حقيقة الإيمان فهو بعيد كذلك عن حقيقة وصف وقيم وخلق ومبادئ الإنسان.
وأنقلكم من صورة عامة إلى خاصة، لأنني أريد أن أضغط على نفسي وعليكم مرارا وتكراراً لنعيش المأساة حقيقة، بدلاً من أن ننام ملئ عيوننا ونضحك ملئ أشداقنا ونأكل ملئ بطوننا، وكأن شيئا لا يعنينا، بطل من الأبطال، انظروا قصته اعتقل في عام 1992م وكانت تهمته أنه يؤيد المقاومة أو ينتمي إليها، و بعد شهرين من التحقيق الذي مورست فيه كل أنواع التعذيب بما فيها الضرب في الأماكن الحساسة وبما فيها اعتقال الزوجة والأخ والأقارب للتحقيق معهم والضغط عليه بهم، ثم يحكم بالسجن 37 شهرا أي سنة ونصف، وبعد الخروج بعشرة أشهر يعاد الاعتقال مرة أخرى للتهمة نفسها التي لم تثبت، ويحكم بتسع سنوات كان موعد انتهائها قبل نحو أسبوعين، وكانت ابنته ساجدة وعمرها ثلاثة عشرة عاما وكان عمرها ثلاثة أعوام عند اعتقاله، وابنته الأخرى واسمها سجى عمرها ست سنوات، ولدت وقد كان في السجن ينتظرون اليوم الذي يخرج فيه، وقبله بيوم واحد جدد اعتقاله للمرة الرابعة، وقيل لزوجته بضرورة مراجعة الجهات الأمنية وإلا سوف تعتقل خلال 24 ساعة، وعندما راجعت بلغت بهذا الخبر وقيل لن يطلق سراحه مطلقاً، وهذه المعاناة كان في أثناءها أنه تعرض للغازات المسيلة للدموع، حتى تضررت عينه وأوشكت على العمى، دون علاج، وبعد تدخل أطباء بلا حدود نقل للعلاج فأخبر بضرورة العملية الجراحية الفورية، فآثر أن ينتظر حتى يخرج من السجن، وقد كان بقي من المدة أياما معدودات إلا أنها تبخرت اليوم، وتقول زوجته إنها ممنوعة من زيارته منذ أربع سنوات وأنه في آخر الأمر طلب أذن لزيارة والده الذي عمره ثمانين عاما فرفض الطلب، والعجيب أنه كتب في أسفله لعدم وجود صلة القرابة، وليست هذه طرفة ولكنها حقائق هذا الاحتلال الإجرامي الصهيوني الذي يراد من أهلنا في أرض فلسطين أن يرحبوا به أن يفتحوا أذعهم له، أن يبتسموا في وجه، أن يطأطئوا رؤوسهم تعظيما له، وللأسف هم رفعوا رؤوسهم، ومن لم يتعرض لشيء من ذلك طأطأ رأسه، هم بسطوا وشرعوا صدورهم لرصاصه وسياطه، وغيرهم ممن لم يتعرض لشيء من الأذى ولى دبرها وأعطى ظهره فارا وهاربا في صور من الذل عجيبة.
ولست أريد أن أفيض فإن الحقائق كثيرة والعجب أنك ترى مثل هذه المرأة الصابرة الصامدة وهي تقول لن يخرج إلا بمعجزة ولن يكون الفرج إلا من الله - سبحانه وتعالى -.
وبعد أن أذكر هذه الحادثة في كلماتها الموجزة وهي تختصر معاناة عشر سنوات وأكثر، وهي توجز ألم أسرة من أم وبنيات وأهل وأقارب، أنقلكم الآن لنقرأ بعض الآيات وننظر أن كتاب ربنا العظيم يخبرنا بالحق ويكشف لنا الواقع، وحينما نقول هذه الآيات بعد ذكر قصة واحدة، سنرى كيف تكون قناعتنا بها وحماستنا لها، فكيف إذا نظرنا إلى الصورة الكاملة من الجرائم العظيمة ليس من هذا الكيان الغاصب بل من أعوانه الذين يمدونه بكل قوة مادية وعسكرية وسياسية واقتصادية، بل لنرى الجريمة الكبرى في صورة بعض المسلمين والعرب الذين يؤيدونه ويغضون الطرف عنه بل ويطلبون الوقوف إلى جانبه: {ألا تقاتلون قواماً نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدءوكم أول مرة أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين * قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشفي صدور قوم مؤمنين، ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب الله على من يشاء والله عليم حكيم}.
ثم تأتينا الآيات التي تبين لنا سنة الله الماضية وحكمته البالغة: {أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة}.
يقول ابن كثير - رحمه الله - في تفسير هذه الآيات: \"{أم حسبتم أن تتركوا} أي أن تتركوا دون أن نختبركم ولا يظهر فيكم أهل العزم الصادق والكاذب، {ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة} قال: بطانة ودخيلة، بل هم في الظاهر والباطن على النصح لله ولرسوله \".
ثم يسوق ابن كثير كعادته آيات أخرى في المعنى ذاته: {آلم * أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم ولا يفتنون}
ويسوق قوله - عز وجل -: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين}
يريدون أن يحققوا نصرا بلا معركة، وأن يستردوا حقا بلا عرق وتعب، وأن يواجهوا ظلماً وعدواناً بلا جرح ولا دماء، أي عقول يمكن أن تتصور ذلك، بل كيف نتصوره وآيات القرآن تكشف لنا الحقائق ضده، وتبين لنا دواخل النفوس وتوجهات العقول، بل وتخبرنا عن ممارسات السلوك والأعمال، قال القرطبي في تفسيره: \" {أم حسبتم أن تتركوا} قال: أن تبتلوا بما يظهر به المؤمن والمنافق الظهور الذي يستحق به الثواب والعقاب \"
قال والمعنى في {وليجة}: \" دخيلة ومودة من دون الله ورسوله \".
ونقل عن الفراء قوله: \" بطانة من المشركين يتخذونهم ويفشون إليهم أسرارهم ويعلمونهم أمورهم \".
ولا أدري أليس لهذه الصورة أمثلة ظاهرة معلنة بل إن أصحابها يتبجحون بها، ويظهرون على شاشات القنوات وهم يمارسون هذه الأعمال على أنها دفاع عن أهل فلسطين وعن أرض فلسطين.
وأنقلكم إلى صورة أخرى أشد إيلاماً، وأكثر لي ولكم إحراجاً، لأننا نريد ذلك ونقصده حتى نوقد الجمرة والجذوة في قلوبنا، حتى نحدث اليقظة والانتباه في عقولنا، حتى نحرك الساكن الخامل الميت من أحوالنا وأوضاعنا، أنقلكم إلى صورة أخرى، صورة فتاة خرجت تواً من السجن في ذلك الكيان الصهيوني، أتعرفون كم تبلغ من العمر، إنها في الثامنة عشر من عمرها، تخرج بعد أن قضت سنة وثلاثة أشهر، وتخبر أن سجنها الذي كانت فيه، يضم 38 امرأة من السجينات، وأن منهن من دون الثامنة عشرة، خمسة على الأقل، وأن منهن أمهات منهن أم لخمسة من الأطفال، وأنهن في ذلك السجن يعشن في ظروف في غاية السوء، فالغرف مغطاة بالصاج الذي يحجب الشمس والهواء، والقذارة متكاثرة دون نظافة، والإهمال الصحي الذي لا يسعف إلا بالماء وحبة دواء مكررة لتسكين الألم، وفوق ذلك يتعرضن عند الممانعة والعزة لأنواع من الضرب والتعذيب، بل وتعرية الأجساد والسجن في الزنزانات الانفرادية، وتخرج هذه الفتاة في عمرها الغض لتقول لنا نحن معاشر المسلمين في شرق الأرض وغربها، إن إيمانها وعزتها وصبرها وثباتها فضلا عن شموخها وافتخارها يهدد أحوالنا التي نحيا فيها وصورنا التي نظهر بها لتبين لنا أننا نحن المقصرون المفرطون المتراجعون الذين لم تتحرك فينا الغيرة الإيمانية والحمية الإسلامية والأخوة المنجدة كما ينبغي أن تكون وكما ينبغي أن نقوم بها.
وأنقلكم مرة أخرى إلى صور أعظم وأعظم، وأشد ألما وأقسى على قلوبنا لمن كان له قلب أو ألق السمع وهو شهيد، أتعرفون السيرة وقد ذكرنا شيئا من خبرها في الجمعة الماضية، أتعرفون أن تلك الأرض أسري فيها أو سرى إليها محمد سيد الخلق - صلى الله عليه وسلم -، أتعلمون أنه صلى بالأنبياء إماماً فيها، أتعرفون أن الفاروق عمر تسلّم مفاتيحها ودخل إلى مسجدها، وحفظ ما فيها من الكنائس وتورع أن يصلي في بعضها لئلا تتحول إلى مسجد، أنقلكم اليوم وأنتم تقرؤون صباح مساء {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا}.
أنقلكم وأنتم تقرؤون هذه الآيات، لأذكر لكم طرفا يسيرا من جرائم كبرى متتالية لا تستهدف امرأة ولا رجلا ولا عشرة آلاف أسير، ولا عدة ملايين من إخواننا في فلسطين بل تستهدف ما هو أعظم من ذلك، إنها تستهدف بيت المقدس، المسجد الأقصى، مسرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبلة المسلمين الأولى، تاريخهم العظيم، ليس ذلك بخافي عن كثير منكم، لكن شريط الأحداث إذا سلسلناه، لكن التذكير إذا أعدناه وكررناه، وقفنا أمام جريمة كبرى كأن أعيننا عمياء لا ترى، كأن آذاننا صماء لا تسمع، كأن قلوبنا ميتة لا تنبض، كأن ألسنتنا عجماء لا تنطق، كأن أيدينا شلاء لا تتحرك، المسجد الأقصى تعلمون منذ عدة عقود كانت الجريمة الأولى في إحراق جزء منه وإحراق المنبر العظيم الذي صنعه نور الدين ومات قبل أن يضعه فوضعه صلاح الدين، وفرطت فيه أمة الإسلام حتى أحرقه بنو صهيون، ثم ماذا الجرائم متوالية، يقرر مجلس برلمانهم الغاصب في قرار رسمي جعل بيت المقدس ملكا عاما للدولة الصهيونية ويقرر بعد ذلك عمليا الاستيلاء على الجدار الغربي الذي هو عند المسلمين حائط البراق، وعند أولئك حائط المبكى، يزعمونه مكان عبادتهم فسلخوه من المسلمين، وعلى إثر ذلك هدم الحي المجاور له في بيت المقدس وهو حي المغاربة، ثم بعد ذلك صودرت أراضيه، ثم تعلمون جميعا أن هناك حفريات متوالية، مذكورة في تقارير مفصلة بأبعادها وعمقاها ومواقعها تستهدف زعزة أسسه تمهيدا لهدمه وإقامة الهيكل المزعوم مكانه، وذلك يجري على سمع ومرأى من العالم كله.
ثم انظروا أن بعض هذه الحفريات تسببت في تصدع المحكمة الشرعية القديمة في بيت المقدس، وأخذ إثر ذلك جزء منها وحول إلى كنيس للعبادة اليهودية، ثم توالى الأمر وتصدعت البوابة الرئيسة لإدارة الأوقاف المقدسية التاريخية الإسلامية القديمة، ثم زاد الأمر فأخذت بعض الأراضي من قبور صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وضمت لتكون جزءا من المنتزه الوطني، ولو سرت أحدثكم أكثر فأكثر لما استطعت أن أوفي الحديث حقه، ولكني أنقلكم إلى تقرير مختصر لجمعية بيت المقدس في أم الفحم في داخل الأراضي المحتلة، تقول هذه الإحصائية:
\"أن 19 مسجدا حولت إلى غير الصلاة، -ولا أريد أن أذكر التحويل الذي أشير إليه في التحويل، فابحثوا عنه وارجعوا إليه- وأن هناك 14 مسجدا حولت إلى معابد يهودية، وأن هناك 50 مسجداً ومقاماً أي في مكان من المآثر التي دفن فيها أعلام الإسلام مغلقة معطلة مهملة \".
ولست أدري بعد كل هذا، ماذا نرى هناك؟ وماذا نرى هنا؟ ماذا نرى في الداخل وماذا نرى في الخارج؟ وأترككم لتفكروا قليلا ما الذي نراه في داخل تلك الأرض المباركة؟ قد نقلت لكم اليوم شيئا وبالجمعة الماضية أشياء أخرى، نقلت لكم إيمانا عظيما ويقينا راسخا وثباتا قويا، واعتزازا عظيما وشموخا واعتزازا بالحق وثباتا عليه، لأن القوم علموا أن لا ملجأ من الله إلا إليه، وأنه لا يمكن لقوى الأرض أن تقدم لهم عونا فأوكلوا أمرهم وفوضوا حالهم وألجئوا قلوبهم ونفوسهم إلى قوة الله - سبحانه وتعالى - رب الأرباب ملك الملوك جبار السماوات والأرض.
خذوا هذه المقابلات والمفارقات العجيبة، ماذا يقول أو تقول الغالبية في داخل أرض فلسطين، خيارنا الوحيد للخروج من المأزق ولاستعادة حقوقنا هو خيار المقاومة والصمود والجهاد، ويقال عنهم حينئذ منغلقون وإرهابيون، لكن الخيار الآخر للذين يعيشون بلا احتلال بلا معاناة بلا أسر بلا سجون بلا كل هذه المعاناة، يقولون خيارنا الاستراتيجي الوحيد هو السلام، أي أننا مهما فعلوا بنا ومهما نقضوا من عهودنا ومهما خالفوا من اتفاقياتنا سنظل كذلك، وإن قتلونا سنظل نسالم حتى إن زهقت أرواحنا فسنكتب بدمائنا مرة أخرى مواثيق السلام، حتى إن شلت أيدينا فسنمد عضدنا لنقول إننا مع السلام.
وأنقلكم إلى صورة أخرى عجيبة وفريدة، تناقلت وسائل الإعلام أخبارها قريبا، المجلس الممثل لشعب القوة العظمى، أتعرفون القانون الذي يبحثه ويجيزه، إنه قانون مكافحة الإرهاب الفلسطيني، ولقد كان قبل يومين قانون آخر أقرته الدولة العظمى من خلال المجلس الممثل لشعبها، إنه قانون يؤكد ويطلب الحصار التام لكل صوره الاقتصادية والمالية وغيرها لهذا الشعب المسلم البطل، ولكننا في جهة أخرى نرى صورا أخرى للأسف أنها كذلك ليست من المسلمين، تقرير أعده باحثان أمريكيان صار له دوي كبير يقرر أن القوى الصهيونية تتحكم في قرار بلادهم، وأن كل المزاعم التي تقال عن هذا الإرهاب ومحاربته باطلة زائفة وتؤكد تلك الدراسة بالبحث الميداني والحقائق الواقعية غير ذلك الذي تزعمه السياسة ونسمعه صباح مساء، وتردده وسائل إعلامنا العربية والإسلامية.
وأنقلكم إلى صورة أخرى قبل نحو عام وشيء عندما أصدر أحد الزعماء المسلمين المشهورين في الفتوى على رأس هيئة إسلامية كبرى، الفتوى التي تقول بجواز التطبيع مع كل أحد ومع اليهود المحتلين كذلك، فيأتي الجواب من الداخل ومن هيئة علماء فلسطين، ليقول له إن هذه الفتوى غير صائبة وإن التطبيع من جهة شرعية غير صحيح، لأنه:
أولا: يعطي إقرارا للمغتصب المحتل على ما احتله من أرض وديار المسلمين التي يجب عليهم شرعا تحريرها.
والأمر الثاني: أنه يترك أهل البلاد في مواجهة عدوهم لتمكينه وتسليطه عليهم وإقراره على ما لا حق له فيه، وذلك من باب ترك التعاون على البر والتقوى وترك النصرة للمسلم الواجب نصرته، ثم إنه يعد بصورة أو بأخرى موالاة للكافر المعتدي لأنه يرضى بفعله ويقره عليه.
وهكذا نجد الصور مختلفة وأقول لكم أخيرا في هذا المقام انظروا إلى حالكم، ولينظر كل منا إلى نفسه، وليقارن مواقفه الشخصية مع مواقف إخواننا وأبطالنا، وبطلاتنا في أرض فلسطين، قد نكون نحن أيضا صورا من هذه المفارقة، قد نتجاوز في مجلسنا لم لا يستسلمون، لم لا يهاونون، لم لا يراجعون، لما لا يغيرون، وقد نكون كذلك أحيانا نقول إن هذا الفعل منهم نوع من الانتحار وإن هذا نوع من التصلب في غير مكانه، راجع نفسك وكلماتك ومواقفك لا لتقارنها بفعل أولئك، بل لتقارنها بحقائق القرآن الذي أوجزت لكم بعضا من آياته في تلك المواقف وأتم بعضها، نسأل الله - عز وجل - أن يثبت إخواننا في أرض الإسراء، وأن يفرغ في قلوبهم الصبر واليقين، وأن يثبتهم في مواجهة المعتدين، وأن يفك أسرهم، وأن يبطل حصارهم وأن يفرج عنهم، وأن يجعل النصر قريبا عزيزا مكينا عندهم، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أقول هذا القول واستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم
الخطبة الثانية
وإن من تقوى الله - عز وجل - العناية والاهتمام بأمر المسلمين، والوقوف معهم والنصر لهم، وأختم مقامي هذا بهذه المقابلات لكن من خلال مواقف السيرة وآيات القرآن في ومضات سريعة.
طاف محمد - صلى الله عليه وسلم - بالبيت في عمرة القضاء في العام السابع من الهجرة، وحول الكعبة ستون وثلاثمائة صنم، لم يثبت أنه عابها أو بصق عليها، لكنه جاء في العام الثاني، أي بعد عام وأقل من عام، ودخل - صلى الله عليه وسلم - إلى البيت الحرام، وفي يده محجن أي عصا وجعل يطوف بالكعبة ويطعن بها في هذه الأصنام وهي تتهاوى والمصطفى - صلى الله عليه وسلم - يصدع بالحق يتلو آيات ربه، يؤكد صدق وعد الله - عز وجل - له، يثبت حقائق ثبوت واطراد سنة الله - عز وجل - فيقول: {وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا}.
ويقول: {جاء الحق وما يبدئ الباطل ما يعيد}.
كما روى البخاري في صحيحه من رواية ابن مسعود - رضي الله عنه -.
صورة عظيمة تبين لنا الحقائق القرآنية الثابتة {وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا}.
هذه حقيقة قرآنية لا تتغير مهما تغير الزمان والمكان والظرف ومهما اختلف الباطل، شيوعيا كان أو اشتراكيا أو رأسمالي، ومهما كان العدوان من هذه الجهة أو من تلك الجهة {إن الباطل كان زهوقا}، {قل إن ربي يقذف بالحق علام الغيوب، قل جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد}.
ويقول الحق: {بل نقذف بالحق على البطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون}.
يقول ابن كثير - رحمه الله -: \" تقريرا لما قرر الحق - عز وجل - إن الباطل لا ثبات له مع الحق ولا بقاء \"
غير أن التدبر في هذه الآية يكشف كما قال السعدي في تفسيره: \" إنما يزهق الباطل إذا جاء الحق \"
يوم يأتي الحق سيزهق الباطل، ليس في ذلك أدنى شك، وكما نرى الحق جليا تبدأ صورته تظهر في أمر الإسراء، نرى زهوق الباطل شيئا فشيئا، ويوم تكون الأمة كلها على الحق سنرى الباطل وهو يدوي صريعا، لأن التفسير قد قال: نقل القرطبي في تفسيره لهذه الآية {وقل جاء الحق}، قال: \" هو الإسلام، وقيل القرآن وقيل الجهاد \".
وكلها مجتمعة وكلها واحدة، وكلها متتطابقة، لو أن أهل الإسلام عادوا لإسلامهم، لو ساروا وراء قرآنهم لو رفعوا راية جهادهم، لجاء الحق ولزهق الباطل من يومه وساعته حق لا مرية فيه، يقين لا شك فيه، ظاهر لا خفاء له مطلقا بحال من الأحوال، جلاه لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم خرج من مكة مهاجرا خفيا مطاردا ملاحقا ويوم عاد إليها منتصرا عزيزا عظيما يحطم الأصنام ويبطل الجاهلية ويزهق الباطل وينهي صفحة الكفر والبغي والعدوان، ويعلن سماحة وقوة وعزة الإسلام والإيمان، وذلك ما ينبغي أن نوقن به، لأنه كما قال السعدي: \" هذا وصف الباطل ولكنه قد يكون له صولة وروجان إذا لما يقابله الحق، فعند مجيء الحق يضمحل الباطل فلا يبقى له حراك \".
كأني لبعضنا ويقينه في هذا ليس قويا كما ينبغي، وليس كاملا كما يجب وليس ملموسا كما كان الصحابة يقول أحدهم: \" واها لريح الجنة والله إني لأجد ريحها دون أحد \"
وكما أثر في روية أخرى وإن كان فيها ضعف: \"والله لكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها وإلى أهل النار يتضاغون فيها \".
اجعلوا الحقائق الغيبية كأنما هي مشاهدة مرئية، لأن اليقين يوجب ذلك، ولأن الإيمان يلزم بذلك، ولأن سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - تؤكد ذلك، ولأن وقائع التاريخ تثبت ذلك، ولأن حقائق الواقع تنطق بذلك، فهل نحن بعد هذا كله في شك من ديننا والله - سبحانه وتعالى - يقول: {ويريد الله ان يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين}.
هذه صيغ بالمضارع الذي يدل على الاستمرار..{يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون * هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون}.
فهل لقوة الله - عز وجل - ممانع؟ وهل لمشيئته معترض؟ وهل ثمة قوة في الأرض تمنع قضاء الله وقدره أن يمضي وسنته التي وعد بها أن تنجز؟ كلا بل وعده نافذ وسنته ماضية {ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين، إنهم لهم المنصورون، وإن جندنا هم الغالبون}.. {إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار}.
ولو مضيت لوجدتم معي الآيات متكاثرة متعددة متنوعة في مواضعها تؤكد هذه الحقيقة، وإننا لعلى يقين منها كما نحن على يقين من أن قلوبنا في صدورنا ما زالت تنبض، وكما نرى كل شيء بأعيننا واضحاً جلياً ينبغي أن يكون اليقين بهذا قوياً راسخاً لكن وفي آخر الأمر أقول ينبغي أن يكون العمل لتحقيقه عظيما قويا مستمرا دائما لا يضعفه شيء ولا يزعزعه تلك القوى الظالمة من قوى الباطل التي يوشك إذا جاء الحق أن تزهق عاجلا غير آجل بإذن الله - عز وجل -.
نسأل الله - عز وجل - أن يعز الإسلام والمسلمين وأن يذل الشرك والمشركين وأن يرفع بفضله كلمة الحق والدين وأن ينكس رايات الكفرة المعتدين.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد