وسائل الإنجاب الاصطناعية.. والحاجة إلى توجيه البحث العلمي فيها بالنظر المقاصدي (2 – 3 )


بسم الله الرحمن الرحيم 

القواعد الضابطة للتلقيح الاصطناعي ومحاذيره.

لما كان التلقيح الاصطناعي من الأمور المستجدة في واقعناº فإننا سنحتكم إلى القواعد المقاصدية والأصولية والفقهية، في غياب نص صريح في المسألة، وهذا حال النوازل والحوادثº فإن تأصيلها التشريعي يرجع في المقام الأول لمقاصد الشارع[1]. على اعتبار أن التلقيح الاصطناعي وسيلة مستحدثة لإيجاد النسل، فإن الأساليب الثلاثة من التلقيح الاصطناعي التي أباحها الفقهاء تعد وسائل مرسلة لم يأت فيها نص، وتأتي إباحتها استنباطا من النصوص التي تجيز التداوي والمعالجة عموما، بشرط عدم مناقضة أي مقصد من مقاصد الشارع الحكيم.

 

القاعدة الأولى: الحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة[2]:

 الزواج واجب في حق العامة، مندوب في حق الفرد الواحد على الأرجح، والنسل يأتي تبعا بعد الزواج، فمن حصل عنده نسل فهو المبتغى، ومن انعدم عنده فهذه إرادة الله تبارك وتعالى.

فالتداوي ومعالجة مشكلة العقم عند النساء أو الرجال \"تستدعي تيسيرا أو تسهيلا لأجل الحصول على المقصود\"[3] وهو الإنجاب، وهو وإن كان لا يرتفع إلى مرتبة الضروري في حق كافة الخلق، بأن لا تجبر كل النساء وكل الرجال على علاج العقم، إلا أنه في حق المرأة الواحدة أو الرجل الواحد ضرورة، فهذا نبي الله زكريا يدعو ربه أن يهبه ولدا في قوله - تعالى -: }و زكريا إذ نادى ربه ربِّ لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين{(الأنبياء: 89). \"فالحاجة في حق الناس كافة تنزل منزلة الضرورة في حق الواحد المضطر\"[4].

 

القاعدة الثانية: من الوسائل ما تكون الحاجة إليه حاجة ضرورية، ومنها ما تكون الحاجة إليه حاجة نافعة[5]:

يعد التلقيح الاصطناعي في صوره الجائزة من الحاجات النافعة، لا الضرورية، خلافا للزواج فهو في حق العامة ضرورة، وأصل لإيجاد النسل. أما التلقيح الاصطناعي فأمر تبعي حال العقم لا أصلي.

كما أن النسل لا ينقطع بعقم بضعة نسوة، بل يتوقف أكثر بالعنوسة المتفشية في المجتمع، ويتوقف باتساع نطاق استعمال الإجهاض، \"حينما نعلم أن الإحصاءات تشير إلى أنه يقتل يوميا في بريطانيا (500) طفل من كاملي الأعضاء، بسبب الإجهاض بالمستشفيات أو العيادات الخاصة\"[6]، ويتوقف بالتعقيم الدائم الجبري الذي تقوم به حكومات بعض الدول مثل (الهند، ومصر)[7]. كذا الأمر في الصين[8].

فالتلقيح الاصطناعي تبعا لهذه القاعدة لا يصل إلى مرتبة الوسيلة الضرورية، بل هو وسيلة حاجية، فالعلاج في حق العقيمين حاجي نافع في تكثير سواد المسلمين، لتتحقق مباهاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بهم الأمم. كما جاء في حديثه - صلى الله عليه وسلم -: {تناكحوا تناسلوا فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة}[9].

 

القاعدة الثالثة: حديث المصطفى - صلى الله عليه وسلم -}الولد للفراش{[10]:

والحديث يرجع معناه إلى اعتبار كل ولادة تحصل في ظل عقد الزواج بين امرأة ورجل يلحق نسب المولود بالزوج، إلا إذا لاعن فلا انتساب حينئذ، وفي حال وفاة الزوج فإن الولد ينسب للزوج المتوفى إذا ولد لأقصى مدة الحمل.

وظاهر الاستدلال على تجويز بعض صور التلقيح الاصطناعي راجع إلى هذا المعنى، كما في الأسلوبين الأول والثالثº أين يتم تلقيح بويضة الزوجة بماء الزوج، فالتلقيح وإن تم خارج الجسم، وبغير الطريق الطبيعي المعروف عادةº فإنه تم في ظل عقد الزوجية.

 

القواعد الضابطة لمحاذير التلقيح الاصطناعي:

في الوقت الذي نؤصل للتلقيح الاصطناعي بالقواعد الثلاث الأولى، بِعَدِّهِ وسيلة مرسلة مشروعة في إيجاد النسل، إلى جنب الوسيلة المباشرة والمتعيّنة نصا والمتمثلة في الزواجº فإن دراسة هذه الوسيلة في ضوء الخصائص والضوابط العامة للوسائل يكون مُهماًّ في الـتأصيل التشريعي \"للتلقيح الاصطناعي\"، وفي الاحتكام إليها، خوفا من تغلب محاذيره على إيجابياته المرجوة، ومن هذه القواعد:

 

القاعدة الأولى: كل ما كان مكملا ومقويا لمقصود شرعي فهو مقصود تبعا[11]:

مقصود الشارع من حفظ النسل إيجاد نسل لا شك في نسبه. كما تؤكده القاعدة الثالثة في قوله - صلى الله عليه وسلم -: }الولد للفراش{، حيث أن \"الإنجاب من الوقاع الطبيعي بين الزوجين أمر مضمون العاقبة وسليم النتيجة لصحة النسب، بخلاف التلقيح الاصطناعي، فمهما عمل له من الاحتياطات فإن الشكوك تكتنفه وتحوم حوله\"[12]، فالحقيقةº أن العلماء والأطباء أنفسهم يشككون في مسألة التيقن من عدم اختلاط البويضات والنطف، ومن ثم اختلاط الأنساب، \"فكلنا يعلم ما يجري في معامل التحليل (دم وبول إلى آخره) من أخطاء شنيعة مهما بلغت شناعتها فإنها لا تبلغ شناعة اختلاط البويضات الملقحة\"[13].

 

فهل مجرد الاحتمال يدعو لأخذ الحيطة والحذر في سلوك طريق التلقيح الاصطناعي؟ لأن حفظ النسب مقصد تبعي إلى جنب المقصد الأصليº \"فحفظ النسل معرض للخطر إذا ضيع حفظ النسب\"[14]، والقاعدة المقاصدية تقول \"إنه ينبغي المحافظة على الحاجي وعلى التحسيني للضروري\"[15]، حتى لا يضيع الولد، ويسقط حقه في الحضانة، ولا يُتعهد به على أحسن وجهº فإن \"الشك في انتساب النسل إلى أصله يزيل من الأصل الميل الجبلي الباعث عن الذب عنه والقيام عليه\"[16].

 

القاعدة الثانية: النظر في مآلات الأفعال معتبرٌ مقصودٌ شرعاً[17]:

تكثر محاذير التلقيح الاصطناعي في الغرب بخاصة، حيث تنتشر بنوك الحيوانات المنوية، ووكالات استئجار الأرحام، ناهيك عن المصير الغامض والمجهول للبويضات الملقحة والفائضة، وكذلك اتجاه بعض الأزواج لترجي الأطباء أن يخصبوا لهم جنينا معين الجنس، حسب رغبتهما في الولد أو البنتº هذه المحاذير التي يمكن تجاوزها في مراكز التلقيح الإسلامية في وجود الوازع الديني عند العاملين، وفهم للمقاصد العامة للشريعة التي تحكم عمليات الإخصاب الخارجي كحفظ النسل بحفظ نسبه، وحفظ عرض الزوجين.

ففي وجود هذه الأخلاقيات إلى جنب الآداب العامة التي يلتزم بها كل طبيب يمكن تجاوز هذه المحاذيرº حيث لا وجود لبنوك حيوانات منوية في إطار تحريم دخول طرف ثالث بين الزوجين، ولا وجود لوكالات استئجار الأرحام، ولا لإجهاض الأجنة غير المرغوب فيها.

غير أنه يبقى محذور واحد، هو مصير البويضات الملقحة الزائدة عن الحاجة، فعند التأكد من حمل المرأة يجب التأكد من إتلاف هذه البويضات الزائدة كما ينصح بذلك الأطباء المسلمون الذين عملوا في مراكز غربية ورأوا ما يُعمل بها. وألا يسمح للأطباء بإجراء التجارب الطبية عليها، في حال جواز إجراء التجارب على الأجنةº فمن باب أولى أن تجرى التجارب على بويضات مخصبة بدلا عن إجرائها على أجنة أجهضت تلقائيا وتعدت مرحلة نفخ الروحº أو أجهضت عمدا لأجل إجراء التجارب عليها والاستفادة منها.

وفي حال استئجار رحم الضرة أو تبرعها بالحمل بدلا عن الضرة العقيم، كما يحلو للبعض تسميتها من باب الملاطفة، في هذه المسـألة رغم أنه لا تثار قضية نسب الولد، فهو منسوب للأب، لكن المشكلة في من التي تعد أماًّ حقيقية، والتي تعد أماًّ رضاعية. وما مآل هذه القضية في حال جوازها؟ لأن من الفقهاء من منعها وذهب للقول بحرمتها، ومن هؤلاء الدكتور هاشم جميل عبد الله[18]، والشيخ علي الطنطاوي[19] عليه رحمة الله، والشيخ عبد العزيز ابن باز[20] - رحمه الله -، والشيخ رجب التميمي[21]، والدكتور يوسف القرضاوي[22] على الأرجح، والأستاذ محمد عطا السيد[23]، والشيخ الصديق الضرير[24].

في حين يتجه علماء آخرون[25] لإباحة هذه الصورة إلا أنهم وفي الوقت نفسه انقسموا إلى فريقين بسبب خلافهم في أي المرأتين تكون أما حقيقية للوليدº فيتجه فريق إلى القول بأن الأم الحقيقية هي التي حملت استنادا للآيات العديدة في هذا المجال من مثل قوله - تعالى -: {إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم} (المجادلة: 2)، وقوله - تعالى -: }لا تضار والدة بولدها{(البقرة: 233)، وقوله - تعالى -: {حملته أمه كرها ووضعته كرها} (الأحقاف: 15)، وقوله - تعالى -أيضا: }ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن{(لقمان: 14)، وغيرها، أخذا بظاهر النص، وعليه فالولد ابن التي حملته وولدته، ويأخذ كل أحكام الولد بالنسبة لأمه، والأم بالنسبة لولدها من حيث الميراث وأحكام المصاهرة.

وفي المقابل فإن الفريق الثاني يرجح كفة الأم صاحبة البويضة، حيث يثبت الطب أن المورثات تحتويها البويضة لا الرحم، والرحم ما هو إلا كالثدي، فحكم المرأة التي حملت كحكم الأم من الرضاع، والاتجاه إلى الأخذ بأحد هذين القولين يؤول إلى إثارة جدل دائم بين الزوجتين (صاحبة البويضة، والمتبرعة بالحمل)، هذا الجدل الذي لن ينتهي بفتوى العلماء[26]، فالمسألة نفسها تثير كثيرا من المصاعب عند محاولة تطبيقها واقعا، فقد تشيع توتراً في حياة المولود قبل أن تُثار مسألة الميراث وغيرها من المسائل المفترضة. والقاعدة الأصولية تقول (درء المفاسد أولى من جلب المصالح)[27].

أليس من باب أولى أن الزوجة العقيم ترضى بقضاء الله وقدره؟ وتتجه واقعا لرعاية أولاد زوجها من ضرتها بدل أن تطلب منها أن تحمل بدلا عنها، وفي النهاية لا تعتبر أمّا حقيقية على رأي غالبية الفقهاءº رغم أن واقع الحال ينافي ذلك، في كون المورثات توجد في البويضة، إضافة إلى أن هذه الفتوى تناقض أصل المسألة في رغبة صاحبة البويضة أن يكون لها ابنا، أما إذا أفتى غالبية الفقهاء بعدّها أما رضاعية، فسيعتبر عملها كله من البداية إلى النهاية هدر لا فائدة من ورائه سوى عدّها من المحرمات من الرضاع، وهو ما لم تطلبهº بل طلبت ولدا!

فظاهر المسألة في الختام أنها لا توصل إلى نتيجةº فهي بالرغم من الإمكان العلمي وتجويز الفقهاء لها، فإنها تعارض مقدماتها الأولى (رغبة صاحبة البويضة في إنجاب ولد ينسب إليها)؟! فالمآل الذي تنتهي إليه مسألة استئجار الضرة لتكون ظئرا ينقض أصل المسألة، وإذا كان الحال كذلك فإن الوسيلة (استئجار رحم الضرة) تنقض مقصد (صاحبة البويضة) فإن الوسيلة تسقط ولا تعتبر.

هذه المسألة (استئجار الأرحام) من مستجدات التلقيح الصناعي في الغرب، أسلمها فقهاؤنا بإباحتها افتراضا أن المتبرعة بالرحم هي ضرّة الراغبة في الولدº احتياطا لعدم اختلاط الأنساب[28]، وحقيقة هذه المسألة أنه بعد إباحة الشذوذ الجنسي، في المجتمعات الغربية والمتمثل في قبولهم لزواج المثليين، وقبول المجتمع للعلاقات الجنسية خارج إطار الزواج الذي أصبح تقليدا قديما، لا يناسب العصر الحالي بزعمهمº فإن غياب مفهومي الزواج والأسرة أمر غير طارئ على المجتمع الغربي، ومن ثم فإن قبول فكرة استئجار أرحام لا تثير أدنى حرج إذا سبقه اتفاق بين الأطراف المشتركة في العملية، مقابل مبلغ مالي محددº وهو ما يتنافى ومفهوم \"الأمومة\"، والمقاييس التي يحتكم إليها، حيث أُريد بمفهوم \"الأمومة\" هنا، أي في الغرب، إحدى الوظائف والمهن التي تتقنها المرأة، فوظيفة \"الأم\" مثلها مثل وظيفة الإدارية، والمضيفة، والنادل في المطعم، والمُدَرِّسة وغيرها.

 

موازنة بين القواعد:

بين القواعد التي تبيح عمليات التلقيح الاصطناعي في صور معينة، وبين القواعد التي يرجع أصلها لضوابط وخصائص الوسائل، والتي تتوقف عن إبداء الرأيº بين هذا وذاك تدافع بين الإباحة والتوقفº فإلى أيهما المصير: التوقف أم الإباحة العامة؟ وأيهما يحقق مقاصد أكثر؟ أم نذهب إلى القول ختاما كما ختم مجلس الفقه الإسلامي كل قراراته في هذه المسألة بقوله: \"هذا، ونظرا لما في التلقيح الاصطناعي بوجه عام من ملابسات حتى في الصور الجائزة شرعا، ومن احتمال اختلاط النطف واللقائح في أوعية الاختبار… فإن مجلس المجمع الفقهي ينصح الحريصين على دينهم أن لا يلجئوا إلى ممارسته إلا في الحالة القصوى، وبمنتهى الاحتياط والحذر من اختلاط النطف أو اللقائح\"[29]. استنادا للقاعدة المقاصدية (الاحتياط في جلب المصالح ودرء المفاسد)[30]. وكما يذكر الدكتور أحمد شوقي الفنجري فإن \"الفتوى بالتحريم والإباحة أمر خطير جدا\"[31].

كما تحكمنا في الموضوع القاعدة الفقهية (يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام)[32]، حيث إن المعالجة والتداوي لغرض الإنجاب في حال عقم أحد الزوجين أو كلاهما من الأمور المشروعة، وهو وسيلة أُريد بها إيجاد النسل، لكن إذا كان مآل هذا العلاج إيجاد نسل مشكوك في نسبه لأبويه (في الصور الجائزة للتلقيح الاصطناعي)، وغموض يحوم حول مصير الأجنة المجمدة، وهو مما لا يمكن دفعه لغياب الالتزام الأدبي والأخلاقي في الأطباء أو مساعديهم بوجه عام، وفي هذا يكمن الضرر العام. فالأمر سيتعدى الزوجين ومشكلتهما المتمثلة في العقم، سيتعدى إلى مصير الذرية بعدها. والقول بالإباحة العامة قول يكتنفه كثير من الشبهات والشكوك. أليس من الأولى أن نتحمل ضررا قليلا (عقم مجموعة من النسوة أو الرجال) مقابل عدم إلحاق الضرر المادي والمعنوي بالنسل في صيانته من دخول الريبة في نسبه، وجهل لمصير الأجنة الفائضة، إلى الرضا بقضاء الله وقدره لقوله - تعالى -: {ويجعل من يشاء عقيما} (الشورى: 50).

 

القواعد الضابطة للتلقيح الاصطناعي ومحاذيره:

لما كان التلقيح الاصطناعي من الأمور المستجدة في واقعناº فإننا سنحتكم إلى القواعد المقاصدية والأصولية والفقهية، في غياب نص صريح في المسألة، وهذا حال النوازل والحوادثº فإن تأصيلها التشريعي يرجع في المقام الأول لمقاصد الشارع[33]. على اعتبار أن التلقيح الاصطناعي وسيلة مستحدثة لإيجاد النسل، فإن الأساليب الثلاثة من التلقيح الاصطناعي التي أباحها الفقهاء تعد وسائل مرسلة لم يأت فيها نص، وتأتي إباحتها استنباطا من النصوص التي تجيز التداوي والمعالجة عموما، بشرط عدم مناقضة أي مقصد من مقاصد الشارع الحكيم.

 

القاعدة الأولى: الحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة[34]:

 الزواج واجب في حق العامة، مندوب في حق الفرد الواحد على الأرجح، والنسل يأتي تبعا بعد الزواج، فمن حصل عنده نسل فهو المبتغى، ومن انعدم عنده فهذه إرادة الله تبارك وتعالى.

فالتداوي ومعالجة مشكلة العقم عند النساء أو الرجال \"تستدعي تيسيرا أو تسهيلا لأجل الحصول على المقصود\"[35] وهو الإنجاب، وهو وإن كان لا يرتفع إلى مرتبة الضروري في حق كافة الخلق، بأن لا تجبر كل النساء وكل الرجال على علاج العقم، إلا أنه في حق المرأة الواحدة أو الرجل الواحد ضرورة، فهذا نبي الله زكريا يدعو ربه أن يهبه ولدا في قوله - تعالى -: }و زكريا إذ نادى ربه ربِّ لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين{(الأنبياء: 89). \"فالحاجة في حق الناس كافة تنزل منزلة الضرورة في حق الواحد المضطر\"[36].

 

القاعدة الثانية: من الوسائل ما تكون الحاجة إليه حاجة ضرورية، ومنها ما تكون الحاجة إليه حاجة نافعة[37]:

يعد التلقيح الاصطناعي في صوره الجائزة من الحاجات النافعة، لا الضرورية، خلافا للزواج فهو في حق العامة ضرورة، وأصل لإيجاد النسل. أما التلقيح الاصطناعي فأمر تبعي حال العقم لا أصلي.

كما أن النسل لا ينقطع بعقم بضعة نسوة، بل يتوقف أكثر بالعنوسة المتفشية في المجتمع، ويتوقف باتساع نطاق استعمال الإجهاض، \"حينما نعلم أن الإحصاءات تشير إلى أنه يقتل يوميا في بريطانيا (500) طفل من كاملي الأعضاء، بسبب الإجهاض بالمستشفيات أو العيادات الخاصة\"[38]، ويتوقف بالتعقيم الدائم الجبري الذي تقوم به حكومات بعض الدول مثل (الهند، ومصر)[39]. كذا الأمر في الصين[40].

فالتلقيح الاصطناعي تبعا لهذه القاعدة لا يصل إلى مرتبة الوسيلة الضرورية، بل هو وسيلة حاجية، فالعلاج في حق العقيمين حاجي نافع في تكثير سواد المسلمين، لتتحقق مباهاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بهم الأمم. كما جاء في حديثه - صلى الله عليه وسلم -: {تناكحوا تناسلوا فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة}[41].

 

القاعدة الثالثة: حديث المصطفى - صلى الله عليه وسلم -}الولد للفراش{[42]:

والحديث يرجع معناه إلى اعتبار كل ولادة تحصل في ظل عقد الزواج بين امرأة ورجل يلحق نسب المولود بالزوج، إلا إذا لاعن فلا انتساب حينئذ، وفي حال وفاة الزوج فإن الولد ينسب للزوج المتوفى إذا ولد لأقصى مدة الحمل.

وظاهر الاستدلال على تجويز بعض صور التلقيح الاصطناعي راجع إلى هذا المعنى، كما في الأسلوبين الأول والثالثº أين يتم تلقيح بويضة الزوجة بماء الزوج، فالتلقيح وإن تم خارج الجسم، وبغير الطريق الطبيعي المعروف عادةº فإنه تم في ظل عقد الزوجية.

 

القواعد الضابطة لمحاذير التلقيح الاصطناعي:

في الوقت الذي نؤصل للتلقيح الاصطناعي بالقواعد الثلاث الأولى، بِعَدِّهِ وسيلة مرسلة مشروعة في إيجاد النسل، إلى جنب الوسيلة المباشرة والمتعيّنة نصا والمتمثلة في الزواجº فإن دراسة هذه الوسيلة في ضوء الخصائص والضوابط العامة للوسائل يكون مُهماًّ في الـتأصيل التشريعي \"للتلقيح الاصطناعي\"، وفي الاحتكام إليها، خوفا من تغلب محاذيره على إيجابياته المرجوة، ومن هذه القواعد:

 

القاعدة الأولى: كل ما كان مكملا ومقويا لمقصود شرعي فهو مقصود تبعا[43]:

مقصود الشارع من حفظ النسل إيجاد نسل لا شك في نسبه. كما تؤكده القاعدة الثالثة في قوله - صلى الله عليه وسلم -: }الولد للفراش{، حيث أن \"الإنجاب من الوقاع الطبيعي بين الزوجين أمر مضمون العاقبة وسليم النتيجة لصحة النسب، بخلاف التلقيح الاصطناعي، فمهما عمل له من الاحتياطات فإن الشكوك تكتنفه وتحوم حوله\"[44]، فالحقيقةº أن العلماء والأطباء أنفسهم يشككون في مسألة التيقن من عدم اختلاط البويضات والنطف، ومن ثم اختلاط الأنساب، \"فكلنا يعلم ما يجري في معامل التحليل (دم وبول إلى آخره) من أخطاء شنيعة مهما بلغت شناعتها فإنها لا تبلغ شناعة اختلاط البويضات الملقحة\"[45].

فهل مجرد الاحتمال يدعو لأخذ الحيطة والحذر في سلوك طريق التلقيح الاصطناعي؟ لأن حفظ النسب مقصد تبعي إلى جنب المقصد الأصليº \"فحفظ النسل معرض للخطر إذا ضيع حفظ النسب\"[46]، والقاعدة المقاصدية تقول \"إنه ينبغي المحافظة على الحاجي وعلى التحسيني للضروري\"[47]، حتى لا يضيع الولد، ويسقط حقه في الحضانة، ولا يُتعهد به على أحسن وجهº فإن \"الشك في انتساب النسل إلى أصله يزيل من الأصل الميل الجبلي الباعث عن الذب عنه والقيام عليه\"

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply