تابع الجميع الصورة الحية والساكنة، التي بثتها وسائل الإعلام، في الأيام الماضية، لذبح جماعة ملثمة غير معروفة، للأسير الأمريكي نك بيرج، في العراق المحتل، ذبح النعاج، وقد انتقد أمين عام هيئة علماء المسلمين في العراق، حارث الضاري، هذا الأسلوب في التعامل مع الأسير.
والحق أنه لا اعتراض على جهاد المحتل لبلاد المسلمين، بل هو الواجب، والأمة آثمة إن سكنت أو سلمت. وفي الجهاد يكون القتل والقتال، والأسر والأسارى، وقد يكون من مصلحة الإسلام:
- قتل الأسير.
- أو الإبقاء عليه.
- أو المنّ عليه.
فهذه الأحوال الثلاثة دل عليه الكتاب والسنة، قال - تعالى -: {فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منّا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها}.
فقد ذكرت الآية حالين: حال المنّ، وهو العفو. وحال الفداء، وهو دفع مقابل لإطلاق الأسير.
وفي قوله - تعالى -: {ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة}، ذكر الحال الثالثة: حال القتل.
فإن الله - تعالى - عاتب نبيه - صلى الله عليه وسلم - أخذه الفداء من أسرى المشركين في بدر، وكان - عليه الصلاة والسلام - قد استشار أصحابه، فأشار إليه أبو بكر - رضي الله عنه - بأخذ الفداء، وأما عمر - رضي الله عنه - فأشار إليه قتلهم، فنزل الوحي مؤيدا رأي عمر، كما هو معروف.
وقد طبق المسلمون هذه الوصايا عمليا، فقد أسروا في جهادهم وغزواتهم مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فمنهم من منّ عليه، ومنهم من افتدى نفسه، ومنهم من قتلهم، كما حدث في أعقاب بدر وفتح مكة.
فقد أسر المسلمون في بدر سبعين من المشركين، فمنهم افتدى نفسه بالمال أو بتعليم أولاد الأنصار الكتابة، وأوصى النبي - صلى الله عليه وسلم - بهم خيرا، لكن منهم من أمر بقتلهم، ولم يقبل لهم عذرا، لما بلغ من أذاهم لله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين، وهما النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط، وكان هو الذي ألقى سلا شاة على رأس النبي - صلى الله عليه وسلم -، حتى جاءت فاطمة - رضي الله عنها - فأزالته.
وفي فتح مكة أعلن الأمان لأهل مكة، وعفا عنهم، في الحادثة المعروفة، لما جمعهم في فناء الكعبة، إلا أربعة رجال وامرأتين، أباح دماءهم، ولو كانوا متعلقين بأستار الكعبة، هم: عكرمة بن أبي جهل، وعبد الله بن خطل، ومقيس بن صبابة، وعبد الله بن سعد بن أبي السرح.
فقتل ابن خطل، وهو متعلق بأستار الكعبة، وابن صبابة في سوق مكة، ونجا عكرمة وابن أبي السرح بوصولهم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وحصولهم على الأمان، ثم الإسلام.
فهذه سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - مع الأسرى، يختلف بحسب الأحوال والأشخاص..
فمن اشتدت عداوته، فللمسلمين قتله، كما قتل عقبة وابن خطل وغيرهم.
ومن لم يكن كعقبة ومن مثله، جاز للمسلمين المنّ عليه، والإحسان له.
حتى هذا المشتد في عداوته، إن سلك طريقا يسلم به من القتل، فللسلمين المن عليه بالعفو، كما منّ النبي - صلى الله عليه وسلم - على عكرمة لما أسلم بين يديه.
وإذا كان الأمر كذلك، فما الرأي في ذبح الأسير بالسكين ونشر صوره حية، في كافة وسائل الإعلام؟.
اختلف الناس بين مؤيد ومعارض..
فالمؤيد يرى في قتل الأسير بهذه الطريقة مسوغات شرعية، منها:
1- أن هذا من الجهاد، الذي أمر الله - تعالى - به، فالقصد قتل العدو المحارب، وليس له صورة محددة.
2- أن فيه إرهاب العدو، وتشريد من خلفهم، فبه يضطر المحتل للرحيل، والحليف كذلك.
3- أن فيه شفاء لما في صدور المؤمنين من الألم، مما حصل من عدوان العدو على الأنفس والأعراض.
أما المعارض فقال: لا اعتراض على قتل العدو المحارب، حتى إن كان أسيرا، فهو أمر مشروع، بحسب الأحوال، كما تقدم من فعل النبي صلى الله على وسلم، ولا اعتراض على جهاد المحتل، بكل وسيلة ممكنة جائزة شرعا، والمرجو أن يكون هذا مفهوما، حتى لا يُحمل المعارض ما لم يقله.
إنما الاعتراض على شيء محدد، يتصور في أمرين:
- الأول: في ذبح الأسير بالسكين، كما تذبح البهائم.
- الثاني: في نشر صور عملية الذبح، حية وساكنة، عبر وسائل الإعلام كافة.
فلو كانت المصلحة في قتل الأسير، لما عرفوا عنه من شدته في حرب لله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، فقتلوه برصاصة ونحوها، لم يكن ثمة اعتراض، لكن المشكلة في قتله بصورة كهذه.
قال المعارض: وسبب الاعتراض على هذه الطريقة، أنها تجر مفاسد على الإسلام والمسلمين، منها:
- أولا: تصوير الإسلام دينا متعطشا للدماء: ففي العالم أناس لم يسمعوا بالإسلام إلا مشوّهاً، ولم يعرفوا حقيقته، فعندما يرون ذبح الأسير بالسكين، أفلا يؤثر ذلك سلبا في نظرتهم إلى الإسلام، فيظنوه دينا متعطش للدماء؟.. ولا ريب أنهم سينفرون منه، ويعادونه، ظنا منهم أنه شر وتخلف وهمجية.
- ثانيا: خسارة التعاطف العالمي مع قضايا المسلمين: فالعالم يراقب ويرى، وفيه كثير من المتعاطفين مع قضايا المسلمين، الذين نددوا باحتلال العراق، في مظاهرات خرجت في عقر دار المحتل والدول الحليفة. وهؤلاء إذا رأوا هذا الأسلوب في الانتقام، ربما انقلبوا ضد المسلمين، وصدقوا الدعايات الكاذبة في وصف الإسلام بالوحشية.. ولا يقولن قائل: وما لنا نحن بهؤلاء، وهل نحن مطالبون باسترضائهم؟. فإن على المسلم العمل هداية الناس إلى الإسلام، وبذل كل وسيلة نافعة، وهؤلاء قريبون من الإسلام، بحبهم العدل، الذي حملهم على التنديد بالاحتلال والغزو، والعدل كله في الإسلام، فمثل هؤلاء العقل والمنطق يقول: ينبغي تبشيرهم لا تنفيرهم، والحذر من صدهم عن الإسلام، بأفعال لا داعي لها، يمكن الاستغناء عنها، والإسلام منصور بغيرها، وليس النصر متوقف عليها.
- ثالثا: إعطاء المبرر للأعداء للمعاملة بالمثل: فهذه الطريقة تعطي الأعداء المبرر لمعاملة المسلمين بالمثل، وتسويغ ذبحهم، ظنا منهم أنهم لا يستحقون الرحمة، ولا ريب أن المسلم وإن كان يحب الموت مجاهدا، لكنه يكره أن يذبح، لما فيه من البشاعة.
أما المبررات التي استند إليها المؤيدون، فقد أجاب عنها المعارض بما يلي:
- فأما المبرر الأول فيقال فيه:
نعم. قتل العدو المحارب مشروع، لكن ليس الكلام في مشروعية قتل المعتدي، إنما الكلام في صورة وطريقة القتل، ونشر صوره، فهذا خطأ، ولو كان فعل في حال الحرب، فكم من أشياء تقع في الحروب، وتكون خطأ، وهؤلاء لم يستفتوا العلماء في الإقدام على هذا الفعل، ويقينا لو استفتوا أهل العلم لأمروهم بغير هذه الطريقة، وهاكم هيئة علماء المسلمين في العراق، فقد اعترض أمينهم على هذا التصرف، ولم يصدر عن الهيئة تأييد.
- وأما المبرر الثاني فيقال فيه:
إرهاب العدو ليس منحصرا في هذه الطريقة، فمجرد المقاومة وجهاد المحتل، عدم التسليم له، وضربه في كل مكان، واستهداف مواقعه، وآلياته وجنوده، يفي بالغرض ويحقق المقصود، وهذا ظاهر، وأية طريقة في التعامل مع العدو، من القتل ونحوه، ينبغي ألا تؤخذ بعين واحدة، بل ينظر فيها بعينين:
- الأول: إرهاب العدو، كي يضطر إلى الرحيل، والجلاء عن بلاد المسلمين.
- الثاني: مصلحة الإسلام، في دعوة الناس إليه وتبشيرهم وإقناعهم به.
إذن لا بد للمجاهدين وهم في جهادهم، أن يراعوا هذين الأمرين:
- إرهاب العدو.
- والدعوة إلى الإسلام.
لا ينبغي أن يطغى إرهاب العدو على إظهار سماحة الإسلام وسموه، وأنه فوق الحظوظ النفسية، وأنه رحمة للعالمين، والظن أن الذين ذبحوا الأسير نظروا بعين واحدة، عين إرهاب العدو، وما نظروا بالعين الأخرى، عين الدعوة إلى الإسلام، التي تستلزم التسامح والعفو، أو عدم الإسراف في القتل والانتقام.
فالمسلم يدعو إلى الله - تعالى - في كل حال، حتى حال جهاده يدعو إلى الإسلام، في صور كثيرة، مثل: إحسانه معاملة الأسير، ومنّه عليه بالعفو، وفي اجتناب قتل الضعفاء، من شيوخ، ونساء، وصبية، ورهبان، وعباد، وفي امتناعه من التخريب، والحرق، والهدم، والوفاء بالعهود.
فليس القتال غرض في ذاته، بل هو وسيلة لا بد منها في بعض الأحيان، فإذا احتاج المسلمون إليها، فيأخذون منها بقدر، دون إسراف، وتكون أعينهم على مصلحة الإسلام، فإن كانت المصلحة في العفو، فلهم ذلك، وإن كان في القتل، فلهم ذلك، والمعروف أن حالات قتل الأسرى في الإسلام قليلة، كانت في حق من اشتد أذاه على المسلمين، أما غيرهم فالأقرب العفو عنهم، فهو الأحسن في الدعاية للإسلام.
وفي حق مثل هذا الأسير الأمريكي، كان من الممكن عرض الإسلام عليه، ببيان محاسنه ومزاياه، وحاجة الناس إليه، فإن أسلم صار أخا في الدين، ويفهم أن الإسلام لا يكون إلا عن طواعية وقناعة ورضا، وأنه ليس مجبرا، وأنه سيطلق سراحه سواء أسلم أو لم يسلم، حتى يعلم هو وغيره، أن المسلمين يحسنون إلى من يسيء إليهم، ويعفون عمن ظلمهم إذا صار تحت حكمهم، كما قال الشاعر مفتخرا بالعفو:
ملكنا فكان العفو منا سجية *** فلما ملكتم سال بالدم أبطح
فحسبكم هذا التفاوت بيننا *** وكل إنـــاء بما فيه ينضح
فكيف الحال لو خرج هذا الأسير من أسره، ثم عاد إلى أهله.. كيف يكون نظرته هو، وأهله، والعالم، للمسلمين؟.. قوم مظلومون، احتل العدو أرضهم، تمكنوا من أسرى، فمنوا عليهم بالعفو.
إن ذلك له أثر كبير على هذه الأمم التي ترقب الحدث عن قرب، لا ريب في ذلك.
وقد سعى هيئة علماء المسلمين في العراق في إطلاق بعض الأسرى، ونجحوا في ذلك، وكسبوا المسلمون إعلاميا، وهذا المكسب إنما هو للإسلام، ودعاية له، ليتعرف الناس إليه، ويدخلوا فيه.
وهذه المصلحة الكبرى لن تتحقق مع قتل الأسير ذبحا بالسكين، ونشر صوره، بل تأتي عكس ذلك. وفي كل حال: إذا كان ولا بد من قتله، فكان يمكن ذلك برصاصة، وكفى، حتى دون الحاجة إلى تصويره، فإرهاب العدو متحقق بمجرد موته، وظهور جثته، كما هو معلوم.
- أما عن المبرر الثالث فيقال:
لم تضييق المسألة بهذه الصورة، وكأن الإسلام لن ينتصر، والعدو لن يرهب، وصدور المؤمنين لن تشفى إلا بذبح هذا الأسير؟!!.
فالعفو عن هذا الأسير، لن يعني أبدا قهر المؤمنين، وذلهم، وانتصار العدو، فهؤلاء المحتلون يجوبون أرض العراق في كل مكان، بعتادهم وآلياتهم، وهم مرمى كل مجاهد، وصيد لكل من أراد تطهير أرض المسلمين من المحتل، فليكن النيل منهم شفاء لصدور المؤمنين، فإذا كان الانتقام للمؤمنين له صور عدة، فالحكمة والذكاء يقول: احرص على الصورة التي تحقق غرضك بأقل الخسائر المادية والمعنوية، واترك الصورة التي تؤلب عليك الناس، ويخالفك فيه حتى أهل العلم والمحبون للجهاد، خاصة إذا لم تكن حاجتك إليها ماسة.
فكل هذه المفاسد المسلمون في غنى عنها، وديننا دين الرحمة، ولنا أخلاق وقواعد خاصة متميزة، وهؤلاء الذين تحدث منهم مثل هذه التجاوزات، يلاحظ عليهم أنهم لا يرجعون إلى العلماء فيما يأتون ويذرون، ومن أراد إصابة الحق، فعليه أن لا يهمل أهل العلم، فإنهم الأمنة للأمة، وتعطيلهم على قيادة الجهاد يفتح على المسلمين شرا كبيرا.
وأخيرا: إن قيل: إن المجاهدين أدرى بالمصلحة، وطريق إرهاب العدو، لأنهم أهل ميدان الجهاد، وليس للبعيد أن يتكلم فيما لا يعانيه أو يشارك فيه.
فالجواب: هؤلاء هيئة علماء المسلمين، هم معهم، ومشاركون في الميدان، وهاهم قد استنكروا، ولم يقروا هذا الفعل.. ثم إن الحكم في هذه المسألة لا يلزم فيها الحضور في ميدان المعركة.
وبعد هذا: فينبغي معرفة أمر مهم، يختلط على كثير من الناس، هو:
أن نقد هذا الفعل لا يعني معارضة جهاد المحتل، ولا أن الناقد موال للكافر محب، أو في دينه دخن، أو من المخذلين، كلا، فمن الظلم الحكم على من اعترض على هذه الصورة أو نحوها بمثل هذا. فليس كل من اعترض على شيء من تصرفات المجاهدين، فبالضرورة يكون رافضا للجهاد، أو مواليا للأعداء.
ومن ظن هذا الظن، فقد ارتكب إثما عظيما، باتهام الناس بأمر خطير يمس دينهم، وأبان عن عجلة وتهور وعدم ضبط ومعرفة بالأحكام الشرعية، والمصالح التي يجب أن تراعى.
إنما الذي في دينه دخن، فذاك الذي يطلب من المسلمين عدم المقاومة والجهاد مطلقا، وأبدا في كل حال، والذي يزين مذاهب العدو وأخلاقهم، ويدعوا الأمة إليها.. أما الذي يدعو إلى الجهاد، مع شروطه، ومراعاة المصالح والمفاسد، ويتبرء من الكافر، فلا يمكن أن يكون مخذلاً ولا مواليا للأعداء إذا ما دعا لإصلاح أخطاء المجاهدين، فالمجاهدون بشر يصيبون ويخطئون، فلا يظن بهم أنهم معصومون.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد