نحن والاختبارات


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الخطبة الأولى:

أما بعد:

في هذه الأيام يغرق الطلاب إلى آذانهم في زحمة الاختبارات، وخضم الامتحانات، ويعيشون أياما لو سألتهم عنها لزعموا أنها أبغض أيامهم إليهم، ولصارحوك بأنهم ودوا لو لم تكن من أعمارهم!

نعم، وإنهم ليستبطئون أيامها، ويستطيلون ساعاتها، حتى لكأن ساعتها يوم، ولكأن يومها شهر!

ولهم في ذلك شيء من العذر، فإن ما يقاسيه الطالب ويجده من شدة المذاكرة والاعتكاف على الكتب والانهماك وسط الأوراق ليس بالشيء القليل، فكيف إذا أضفت إلى ذلك النفسية القلقة، والخوف الدائم من ألا يوفق الإنسان في إجابته؟

فنسأل الله أن يعينهم ويسددهم ويرشد خطاهم ويحقق مأمولهم.

بيد أني أحب دائما ألا يمر بالإنسان شيئ دون أن ينفذ فيه ببصره وبصيرته ليرى ما وراءه، وليستنبط درسه وعبرته، وإنك بمثل هذا النفاذ بالبصر قد تجني من الشوك العنب، وقد تستنبط الماء العذب من الصحراء الموحشة، وقد تفوز بالنبتة الخضراء في صم الجبال.

والاختبارات برغم عنائها وجهدها مدرسة حقيقة لو تأملنا فيها، وفهمنا ما ترشدنا إليه بلسان صامت يفوق فصاحة المتكلمين.

رويدك قد يكون الصمت شعرا *** يعبر عن أحاسيسي وفكري

فهل لكم في وقفات عاجلات مع دروس الاختبارات؟

لا: الاختبارات وكشف الحقيقة.

كثيرا ما تطلب من إنسان أن ينجز بعض الأعمال ويقوم ببعض المهمات فيعتذر إليك بأن هذا فوق طاقته، وبأن هذا من المستحيل الذي لا يمكن تحقيقه، \" ولاَ يُكَلّفُ اللَّهُ نَفسًا إِلاَّ وُسعَهَا \" [البقرة: 286].

فحين ترجو منه أن يقرأ كتابا يزعم أنه لا يستطيع أن يقرأ أكثر من عشر صفحات، وحين تريده أن يسهر قليلا لعمل خير يقول: لا يمكن أن أجاوز العاشرة، وحين ترغب منه أن يبذل جهدا في صلاة أو عبادة أو عمل صالح يحتج بأن قوته وإمكاناته تقعد به عن ذلك، وحين ترغبه في حفظ القرآن يشكو إليك أنه لا يكاد يحفظ.

نعم، وتجيء الامتحانات وإذا بهذا الشخص عينه يقرأ في اليوم الواحد مئات الصفحات، ويسهر إلى الفجر، ويحفظ عشرات المعلومــات، وينجز أشق المهمات.

فهل يتغير الإنسان؟ وتزداد طاقاته وتعظم مواهبه في أيام الاختبارات؟

لا والله، كل ما في الأمر أنه في أيام الاختبارات يستثير همته الكامنة، ويبرز مواهبه المدفونة، ويخرج طاقاته التي غطاها ركام الكسل والفتور والتواني.

نعم يا أخي...إن عند من الطاقات والمواهب والملكات والقدرات مالا يمكن الاستهانة به، وما تستطيع به لو استثمرته أن تحقق أقصى درجات النجاح، ولكن المشكلة أننا نكسل ونتوانى ونفتر.

لقد كشفت بعض الدراسات الحديثة أن الإنسان لا يستغل أكثر من 30 من طاقته، وأن نحوا من ثلث عمره يذهب في النوم، أي أنه لو عاش ستين عاما لكان نصيب النوم منها عشرون عاما.

وتصور يا أخي لو أنك بذلت في حياتك كلها مثل الجهد الذي تبذله في الاختبارات أو حتى نصفه، إلى أين كنت ستصل؟ أما كنت سترتقي ذرى المجد وتحقق من الطموحات ما لعلك تعده الآن من قبيل الخيال؟

إننا نعرف أناسا تفوقوا في أعمالهم، وتميزوا في عباداتهم، ونجحوا في حياتهم، وبرعوا في العلم، وبرزوا في العمل، وحازوا أطراف الخير، وجمعوا خلال البر، فمن أين لهم هذا؟ هل هم مخلوقون من طينة غير طينتنا؟ أم أن الله خلقهم خلقا خاصا؟ لا والله ما هو إلا استثمار الطاقات، وإحياء المواهب.

 

ثانيا: الاختبارات وصعوبة العلم.

وقديما قالوا: العلم لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كلك، وقال يحيى بن أبي كثير لا يستطاع العلم براحة الجسد. [صفحات من صبر العلماء: 111].

إن كثيرين يتمنون أن يكونوا علماء، وأن يطلبوا العلم، ولكنهم للأسف ينسون أحيانا أو يتناسون أن العلم صعب، بحاجة إلى بذل واجتهاد وتعب، وأظن أن ما يعانيه الطالب من المشقة والنصب لتحصيل قدر محدود من العلم ولمدة محدودة لا تتجاوز الاختبار، أظن أن هذا يشعرنا ويذكرنا أن طلب العلم ليس أماني وأحلام وإنما هو بذل واجتهـاد، والراغب فيه لا بد له أن يتنازل عن كثير من مرغوباته ومحبوباته.

ـ ذكر أبو محمد اللباد أن محمد بن عبدوس صلى الصبح بوضوء العتمة ثلاثين سنة، خمس عشرة سنة من دراسة، وخمس عشرة سنة من عبادة. [صفحات: 124].

ـ قال ابن أبي حاتم: كنا بمصر سبعة أشهر لم نأكل فيها مرقة، نهارنا ندور على الشيوخ، وبالليل ننسخ ونقابل، فأتينا يوما أنا ورفيق لي شيخا فقالوا: هو عليل، فرأيت سمكة أعجبتنا فاشترناها، فلما صرنا إلى البيت حضر وقت مجلس بعض الشيوخ فمضينا، فلم تزل السمكة ثلاثة أيام وكادت أن تنتن فأكلناها نيئة لم نتفرغ نشويها، ثم قال: لا يستطاع العلم براحة الجسد. [صفحات: 127].

دببت للمجد والساعون قد بلغوا *** جهـد النفوس وألقوا دونه الأزرا

 

وكابدوا المجد حتى مل أكثرهم ***  وعانق المجد من أوفى ومن صبرا

 

لا تحسب المجد تمرا أنت آكله *** لن تبلغ المجد حتى تلعق الصـبرا

 

ولئن كان هذا هو شأن العلم، فإنه شأن كل شيء سام في الحياة، نعم لا تحقق الأهداف والآمال إلا بالبذل والجهد والنصب، ومن يظن أنه يحقق ما يريد بدون أن يقدم ثمنه فهو واهم.

 

قال - صلى الله عليه وسلم -: ((من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل ألا إن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله الجنة)).

وفي هذا يقول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لمن رآه يلعب بالحصى ويقول: الله زوجني من الحور العين،: يا هذا لقد أعظمت الخطبة وأسأت المهر.

 

فيا أيها الراغبون في الجنة، ويا أيها الراغبون في العلم، ويا أيها الراغبون في النجاح... لن تبلغوا آمالكم إلا بالجد والنصب، فهل أنتم باذلون؟.

 

ثالثاً: الاختبارات ونسيان العلم:

من الملاحظ دائما أن الطلبة ما يكادون يخرجون من قاعة الامتحان حتى ينسوا كل ما درسوه ولا يكاد يبقى في أذهانهم منه شيء البتة، فما سر هذا؟

لعل مرد هذا إلى أن هذه المعلومات جاءت جملة وبسرعة، فهي كلها من محفوظات ليلة الامتحان.

 

وهكذا كل ما لم ينل حظه من الإتقان والوقت يذهب هباء.

وحين لا يعطي الإنسان العلم حظه من المراجعة والإعادة فإنه سرعان ما يتفلت منه.

ـ قال الإمام إلكياالهراسي: كانت في مدرسة سرهنك بنيسابور قناة لها سبعون درجة، وكنت إذا حفظت الدرس أنزل القناة وأعيد الدرس في كل درجة مرة في الصعود والنزول، وهكذا أفعل في كل درس حفظته. [صفحات: 198].

وبهذا صاروا أئمة يقتدى بهم.

 

الخطبة الثانية:

رابعاً: الامتحانات والاهتمام:

من الملاحظ أنه ما تكاد تقترب الامتحانات حتى يتأهب الناس، ويسود القلق والتوتر، وتغدو هذه الامتحانات هم الناس وشاغلهم، فعنها يتحدثون، وعن أخبارها يسألون، وتجد الأب والأم يلزمان أبناءهما بالمذاكرة، ويشددان عليهم في ذلك، وتضبط الساعات حتى لا تأخذ الطالب نومة فيفوته الامتحان، فتكون الطامة.

وهذا كله حسن لا بأس به، ولكن أين مثل هذا الاهتمام بامتحان الآخرة؟

ألا تستحق صلاة الفجر مثلا أن نضبط لها الساعة ونتواصى بالاستيقاظ لها؟

ألا تستحق العبادات والطاعات أن يهتم بها الأبوان، ويربيا أبناءهما عليها؟

ألا تستحق الآخرة أن تشغل نصيبا من اهتمامنا وحيزا من تفكيرنـــا؟

ألا يستحق امتحان الآخرة أن يهتم له بأكثر من امتحان الدنيا؟

لماذا نقدم هم الدنيا على هم الآخرة؟

 

خامسا: الامتحانات واللجوء إلى الله

من الظواهر الواضحة التي تكون في هذه الأيام حرص الطلاب على الصلاة في المسجد، وأداء النوافل، وربما قراءة شيء من القرآن.

إنهم يريدون بذلك التقرب إلى الله - سبحانه -، عله أن يأخذ بأيديهم فيما هم مقبلون عليه.

وهذا بلا شك أمر حسن، فليس كاشفا للكرب، ولا قائدا للنجاح إلا الله - سبحانه -.

ولكن المشكلة أن بعض هؤلاء المصلين الذاكرين أيام الاختبارات لا يعرفون المسجد قبلها ولا بعدها!

ولا أدري كيف غفل هؤلاء عن قوله - عليه الصلاة والسلام -: ((تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة)).

وكيف غفلوا أن دعاء الله ورجاءه عند الشدة، والغفلة عن ذلك في الرخاء، إنما هو من سمة المشركين هُوَ الَّذِي يُسَيّرُكُم فِي البَرّ وَالبَحرِ حَتَّى إِذَا كُنتُم فِي الفُلكِ وَجَرَينَ بِهِم بِرِيحٍ, طَيّبَةٍ, وَفَرِحُوا بِهَا جَاءتهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ المَوجُ مِن كُلّ مَكَانٍ, وَظَنٌّوا أَنَّهُم أُحِيطَ بِهِم دَعَوُا اللَّهَ مُخلِصِينَ لَهُ الدّينَ لَئِن أَنجَيتَنَا مِن هَـذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّـاكِرِينَ فَلَمَّا أَنجَاهُم إِذَا هُم يَبغُونَ فِي الأرضِ بِغَيرِ الحَقّ يا أَيٌّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغيُكُم عَلَى أَنفُسِكُم مَّتَاعَ الحَيَاةِ الدٌّنيَا ثُمَّ إِلَينَا مَرجِعُكُم فَنُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُم تَعمَلُونَ \" [يونس: 22-23].

يقول ابن مسعود - رضي الله عنه -: إن العبد إذا كان يدعو الله في الرخاء ثم نزلت به شدة فدعا الله قالت الملائكة: يا رب هذا صوت معروف فيشفعون فيه، فإذا كان لا يدعو من قبل ودعا زمن الشدة قالت الملائكة: يا رب هذا صوت غير معروف، فلا يشفعون فيه!

فاحذر أخي أن تكون ممن بدعو الله عند شدته وينساه عند رخائه. وكن كما قال الله: \"وَيَدعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً \" [الأنبياء: 90].

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply