بسم الله الرحمن الرحيم
من أروع الكلمات المعبرة، والمأثورة عن ابن عمر - رضي الله عنه - وشريح، وغيرهما، قولهم حين رأوا ما أحدث الحجاج في زمانهم: \" الراكب كثير، والحاج قليل! \" والفرق بين الراكب والحاج هنا كالفرق بين المصلي ومقيم الصلاة، والمصلي هو من يؤدي الصلاة ظاهرا بحركاتها وأشكالها وقلبه غافل ساه، أما مقيم الصلاة فهو من يؤديها بخشوع وحضور قلب، وهذا الأخير هو الذي تنهاه صلاته عن الفحشاء والمنكر، وهذا ما ألمح الله - تعالى -إليه في قوله: \" وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر \" وهكذا الحج، وإذا كانت تلك العبارة المأثورة قد أطلقها سلفنا الصالح قبل مئات السنين، حيث القرون المفضلة، فما الظن في حجاج عصرنا الحاضر!!
وإذا أردنا أن ندرك الواقع كما هو دون تزويق، فلننظر في واقع سلوك الحجاج أثناء تأديتهم للنسك، ولنرقب سلوكهم بعد رجوعهم من هذه الشعيرة العظيمة، فكم من حاج أدى حج هذا العام، بل كم من حاج يواظب على أداء هذا النسك كل عام، ثم تراه في حجه يشتم هذا، ويلغ في عرض ذاك، وربما يمسك عن كثير من المنكرات أثناء تأديته لنسكه، فإذا فرغ من حجه، ورجع إلى بلده، تراه يعود إلى سابق عهده، حيث قطيعة الرحم، أو سوء معاملة القريب والبعيد، أو أكل أموال الناس بالباطل، أو ما يمارسه من ظلم لهذا أو ذاك، ولو شققت عن قلبه لوجدته كما هو، حيث الكبر والتعالي، أو العجب، أو الحسد والحقد!! فأين حظ هذا من الحج؟ وهل أدى هذا الحاج نسكه عادة أم عبادة؟
فهل تخفف هذا الحاج من ملابسه ولبس لباس الحاج ولم يتخفف من أثقال الذنوب! و هل حلق هذا الحاج رأسه أو خفف منه ولم يتخفف من ظلم الأهل والأقربين أو المستضعفين!
إن من حج تعبداً لله - تعالى -وإخلاصاً له وتقرباً إليه ترى أثر الحج عليه ظاهراً في سلوكه وأخلاقه ولو حج مرة في حياته، أما من حج عادة، أو رياء وسمعة ليقال حاج - وقد قيل - فهذا لا ترى أثراً للحج في سلوكه ومعاملاته مع الله - تعالى -أو مع الناس ولو حج كل عام!! بل تراه يعود إلى سلوكه الأول كما هو قبل الحج! وليت شعري أين الحاج الذي يرجع من حجه فيحاسب نفسه، وينظر في أسلوب حياته، وصلاته بوالديه وزوجه وأولاده، وسلوكه في وظيفته وتجارته، وفي مصادر ثروته، وطرق إنفاقه، فيقيسها بميزان الشرع، لا بميزان الهوى، فكم من حاج يرجع إلى أسلوب حياته - قبل حجه - فيعود إلى التقصير في حقوق والديه مما كان سببا في تنغيص حياتهما كما هو على ذلك كل عام، أو تراه يعود إلى ظلم زوجه وأم أولاده وسوء عشرتها مما كره إليها بسوء معاملته عيشها وحياتها كما هو على ذلك كل عام، أو يعود إلى ما هو عليه من التحايل على أكل أموال الناس بالباطل حتى فاحت رائحته و أزكمت الأنوف، فأين أثر الحج في سلوك هذا وأمثاله؟
لقد تخفف هذا الحاج من ملابسه ولبس لباس الحاج ولم يتخفف من أثقال الذنوب! وحلق هذا الحاج رأسه أو خفف منه ولم يتخفف من ظلم الأهل والأقربين أو المستضعفين! وذبح هذا الحاج نسكه ونحر هديه ولم ينحر هواه الذي زين له سوء عمله! وبات هذا الحاج في مزدلفة ومنى ورمى الجمرات الثلاث ولم يرم شيطانه الذي جرى في دمه وبات في خيشومه وتربع على عرش قلبه وفؤاده! فكيف يعود من هذا حاله بعد حجه كيوم ولدته أمه وهو كهو يوم سافر إلى حجه!!
إن المسلم المخلص في عبادته، والصادق مع ربه، تراه دائم المحاسبة لنفسه، فتظهر أثر العبادة عليه صدقاً لا تصنعاً، وهذا وحده المنتفع بالعبادة دون كل من سواه.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد