الحج والدعوة


 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحج ذلكم الركن العظيم لستم بحاجة إلى بيان مكانه، ومنزلته في الإسلام، فيكفي أنه الركن الخامس من أركان الإسلام، وقد جعل الله له مكانة في قلوب عامة الناس.

وقد خصَّ الله - جل وعلا - هذا البلد بوجود البيت الحرام فيه، فصار مهوى أفئدة المسلمين، يأتيه الناس من مشارق الأرض ومغاربها، ربما انتظر أحدهم هذه الساعة السنين، وللأسف لعل بعضنا من أهل هذه الديار المباركة قد لا يحس بمكانة هذا الحج، كما يحس به إخواننا في مشارق الأرض ومغاربها.

 

هناك أناس أمنيته طول حياته أن يحج يجمع الدرهم والدينار والقرش و الملليم من أجل أن يحج، حجة واحدة في عمره، وقد يبلغ الخمسين أو الستين أو السبعين، ولم يتمكن، وقد يموت، ولم تتحقق له هذه الرغبة.

 

وإن عجبت، فلا أزال أعجب من قصة رجل حكها بعضهم وقد سجن في أمريكا، قال وقد سئل سؤال فقيل له: ماذا لفت نظرك في السجن؟

قال: سجن معي رجل أصله من نيجيريا، وهو رجل مسلم، فوجدته مهموما مغموما.

فتصورت أن عنده ظروفا مادية، أو أن عائلته تعيش في محنة، أو أنه قد حكم عليه بالإعدام، تصورت تصورات كثيرة بعيدة من عظم ما أراه بالرجل من الهم.

فجلست معه، وقلت له: إنني أراك مهموما، فما الذي يشغل بالك؟ قال: يشغل بالي قضية واحدة، قال: ما هي؟ قال: أنا رجل مسلم، وقد حكم على بالسجن قرابة خمسين سنة، وأنا عمري الآن ذكر أنه فوق الثلاثين أو الأربعين، ومعنى هذا أنني إن بقيت في السجن مدة المحكومية، فمعناه أنني سأموت في السجن، وهذا سيفوت على فرصة الحج لن أتمكن من الحج في حياتي.

هذه أكبر مشكلة كانت تواجه هذا الرجل في سجنه مع أنه معذور شرعا.

والشاهد من هذه القصة الإشارة إلى مكانة الحج في قلوب عامة المسلمين.

 

بل بلغ من مكانة الحج أن الفاسق من المسلمين مع فسوقه والفاجر مع فجوره يحن إلى البيت العتيق ويرى أن قصده حتماً عليه يشتاق إليه، ومما يذكر: أن بعضهم عاتب رجلاً من الشعراء عرف بالفسق وشرب الخمر، فناصحه يوماً، فلما ضجر به الشاعر قال:

إذا صليت خمساً كل يوم ***فإن الله يغفر لي فسوقي

ولم أشرك برب الناس شيئاً ***فقد أمسكت بالدين الوثيق

وجاهدت العدو ونلت مالاً ***يبلغني إلى البيت العتيق

فهذا الدين ليس به خفاء ***دعوني من بنيات الطريق

 

فانظر إلى هذا مع فسقه كيف بقيت مكانة الحج عنده، وبماذا تبلغ لذلك الركن.

إذاً فالناس يأتون إلينا من هنا وهناك، على اختلاف ألسنتهم وألوانهم، ومذاهبهم وأفكارهم، فيهم التقي الصالح، والعالم العامل، ومنهم دون ذلك كانوا طرائق قدداً، وهنا ينبغي أن نتساءل أيها الإخوة، ماذا قدمنا لهؤلاء الحجاج؟ ماذا قدمنا لأولئك الذين يأتون من مشارق الأرض ومغاربها؟ ماذا فعلنا؟ ماذا فعل الدعاة؟ ماذا فعل طلاب العلم؟ ماذا فعل العلماء؟ ماذا قدموا لإخوانهم؟

 

سل نفسك هذا السؤال وتأمل الجواب من واقع الحال ثم اعرضه على هذا الخبر الذي ترويه كتب السنة، وفيه أنه بعد عام من بيعة العقبة الأولى وفي الموسم - موسم الحج تمت بيعة العقبة الثانية قال جابر بن عبد الله لبث رسول الله ? عشر سنين يتبع الحاج في منازلهم في المواسم، مجنة وعكاظ ومنى، يقول: من يؤويني وينصرني حتى أبلغ رسالات ربي وله الجنة، فلا يجد، حتى إن الرجل يرحل صاحبه من مضر أو اليمن، فيأتيه قومه أو ذووا رحمة فيقولون: احذر فتى قريش لا يفتنك، يمشي بين رحالهم يدعوهم إلى الله، يشيرون إليه بأصابعهم، حتى بعثنا الله له من يثرب، فيأتيه الرجل منا فيؤمن به ويقرئه القرآن، فينقلب إلى أهله فيسلمون بإسلامه حتى لم يبق دار من يثر إلا وفيها رهط يظهرون الإسلام ثم ائتمرنا واجتمعنا سبعين رجلا منا، فقلنا: حتى متى نذر رسول الله ? يطوف في جبال مكة ويخاف، فرحلنا حتى قدمنا عليه في الموسم، فواعدنا شعب العقبة، فاجتمعنا فيه من رجل ورجلين، حتى توافينا عنده، فقلنا يا رسول الله: علام نبايعك؟ قال: على السمع والطاعة في النشاط والكسل، وعلى النفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أن تقولوا في الله، لا تأخذكم فيه لومة لائم، وعلى أن تنصروني إذا قدمت عليكم يثرب، تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنة.

 

فقلنا نبايعه، فأخذ بيده أسعد بن زرارة، وهو أصغر السبعين إلا أنا فقال: رويدًا يا أهل يثرب، إنا لم نضرب إليه أكباد المطي إلا ونحن نعلم أنه رسول الله إن إخراجه اليوم مفارقة العرب كافة، وقتل خياركم، وأن تعضكم السيوف، فإمّا أنتم قوم تصبرون على عض السيوف إذا مستكم، وعلى قتل خياركم، وعلى مفارقة العرب كافة فخذوه وأجركم على الله، وإما أن تخافون من أنفسكم خيفة فذروه فهو أعذر لكم عند الله، فقلنا: أمط يدك يا سعد، فوالله لا نذر هذه البيعة ولا نستقيلها، فقمنا إليه نبايعه رجلا رجلا، يأخذ علينا شرطة ويعطينا على ذلك الجنة. رواه أحمد والبيهقي والحاكم.

 

وللخبر بقية وفي هذا القدر شاهد للمراد، فانظر أيها الحاج، يا من أزمعت المسير من الشقة البعيدة والفج العميق، إلى هدي نبيك - صلى الله عليه وسلم -، كيف كان يغتنم هذا الموسم، ثم انظر ماذا أثمر؟

أليست البشرية اليوم في المشارق والمغارب ظمأى؟

أليست تجيء إلى هذا البيت العتيق راغبة خاشعة؟

ألم يأخذ الله الميثاق على أهل العلم؟

ألم يأمر الله بالدعوة؟

فماذا قدمت؟ وماذا أعددت للحَجة؟

 

يا قاصد البيت الذي فتح الله عليه احرص على ما كان عليه نبيك - صلى الله عليه وسلم -، احرص على الدعوة إلى دين الحق الوسط، ولو بكتاب أو شريط، وشاور في ذلك أهل العلم والنظر، ولاتكن في حجك مغبون بتضييع مثل هذا الاجتماع الذي قد لا يتاح لبعض الناس بل لكثير من الناس إلاّ في العمر مرة. استفيدوا ممن كان أهلاً للفائدة، وأفيدوا من جاء راغباً خاشعاً، بينوا للجاهل، وعظوا العاصي، وافعلوا الخير لعلكم تفلحون.

 

وأذكركم: الكيس الكيس، الحكمة الحكمة، فـ(ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة)، وإن عجزت عن البذل فكف شرك عن الناس وأعن الحجيج وأبسط لهم البشر، وأرهم حسن الخلق، وحسبك بهذا الفعل دعوة.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) للنظر في حال هذا الخبر انظر العهد والميثاق في القرآن، فقد بحث هناك.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply