بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى:
أمّا بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله - تعالى - حقَّ التقوى، اتقوا ربَّكم ـ يا عباد الله ـ تقوًى تكون سببًا لامتثال أوامر ربِّكم واجتناب نواهيه، اتقوا ربَّكم تقوًى تنالون بها السعادةَ في الدنيا والآخرة.
أيّها المسلم، إنَّ الله - جل جلاله - خلق الجنَّ والإنس لغايةٍ, عظيمة وحِكمةٍ, جليلة ألا وهي عبادتُه - جل وعلا -، {وَمَا خَلَقتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعبُدُونِ} [الذاريات: 56]. ما خَلَقَنا عبثًا ولا باطلاً ولعِبًا، {ذَلِكَ ظَنٌّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِن النَّارِ} [ص: 27]، {وَمَا خَلَقنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرضَ وَمَا بَينَهُمَا لاعِبِينَ مَا خَلَقنَاهُمَا إِلاَّ بِالحَقِّ وَلَكِنَّ أَكثَرَهُم لا يَعلَمُونَ} [الدخان: 38، 39].
أيّها المسلم، إنَّ الله - جل وعلا - لمّا أهبط أبانا آدم إلى الأرض قال له: {وَلَكُم فِي الأَرضِ مُستَقَرُّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ,} [البقرة: 36]، فأخبره ربٌّه أن بقاءه في الدنيا ليس إلى الأبد، ولكن لوقتٍ, محدَّد قدّره ربّنا - جل وعلا -.
كتب - جل وعلا - الفناءَ على كلِّ الخلق، {كُلٌّ مَن عَلَيهَا فَانٍ, وَيَبقَى وَجهُ رَبِّكَ ذُو الجَلالِ وَالإِكرَامِ} [الرحمن: 26، 27]، وقال لنبيه: {وَمَا جَعَلنَا لِبَشَرٍ, مِن قَبلِكَ الخُلدَ أَفَإِين مِتَّ فَهُم الخَالِدُونَ [الأنبياء: 34]، كُلٌّ نَفسٍ, ذَائِقَةُ المَوتِ وَنَبلُوكُم بِالشَّرِّ وَالخَيرِ فِتنَةً وَإِلَينَا تُرجَعُونَ} [الأنبياء: 35].
أيها المسلم، أنت في هذه الدنيا لم تُخلَق عبثًا ولم تُترك سُدىً، {أَيَحسَبُ الإِنسَانُ أَن يُترَكَ سُدًى} [القيامة: 36]، أُرسل إلينا رسول ليقيمَ علينا حجةَ الله، وليهديَنا إلى طريق الله المستقيم، ويحذِّرنا من طريق المغضوب عليهم والضّالين، {إِنَّا أَرسَلنَا إِلَيكُم رَسُولاً شَاهِدًا عَلَيكُم كَمَا أَرسَلنَا إِلَى فِرعَونَ رَسُولاً} [المزمل: 15].
بلَّغ هذا الرسولُ رسالةَ ربِّه، وأدَّى الأمانةَ التي ائتمنه الله عليها بأمر الله له: {يَا أَيٌّهَا الرَّسُولُ بَلِّغ مَا أُنزِلَ إِلَيكَ مِن رَبِّكَ وَإِن لَم تَفعَل فَمَا بَلَّغتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة: 67].
هذا النبيّ الكريم أرسله الله رحمةً للعالمين، {وَمَا أَرسَلنَاكَ إِلاَّ رَحمَةً لِلعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]. لا طريق يقرِّبنا إلى الله إلا بينه لنا وأمرنا بسلوكه، ولا طريقَ يباعدنا عن الله إلاَّ بينه لنا وحذَّرنا من سلوكه، يقول: ((ما بَعث الله من نبيٍّ, إلاَّ كان حقًّا عليه أن يدلَّ أمّتَه على ما يعلمه لهم من خير، ويحذِّرهم عمّا يعلمه لهم من الشرّ))[1]. وحقًّا إنّ محمّدًا دلَّنا على الخير كلِّه، وحذَّرنا من الشرّ كلِّه، تركنا على المحجّة البيضاء، ليلُها كنهارها، لا يزيغ عنها بعده إلا هالك.
أيها المسلم، نحن في هذه الدنيا مُحصًى علينا أقوالنا وأعمالُنا، فأعمالنا مكتوبة وأقوالنا مسجَّلة، {وَإِنَّ عَلَيكُم لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعلَمُونَ مَا تَفعَلُونَ} [الإنفطار: 10-12]، {مَا يَلفِظُ مِن قَولٍ, إِلاَّ لَدَيهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18]. أعمالنا في هذه الدنيا محصاةٌ علينا وسنقف عليها يوم القيامة، {يَومَ يَبعَثُهُم اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا أَحصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} [المجادلة: 6]. أعمالٌ نعملها، وبطول الزمان ننساها وتغيب عنَّا، ولكنَّ الله عالم بها ومحصيها علينا، وسنقف جميعًا يوم القيامة على كلِّ أعمالنا، {وَكُلَّ إِنسَانٍ, أَلزَمنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخرِجُ لَهُ يَومَ القِيَامَةِ كِتَابًا يَلقَاهُ مَنشُورًا اقرَأ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفسِكَ اليَومَ عَلَيكَ حَسِيبًا} [الإسراء: 13، 14]، كتابٌ مسجَّلٌ فيه كلٌّ الأعمال قليلِها وجليلها.
أيّها المسلم، إنه كتابٌ لا تستطيع إنكارَه ولا جحودَ ما فيه، ولو حاولتَ أنطقَ الله الجوارحَ فشهدت عليك بكلِّ الأعمال، {اليَومَ نَختِمُ عَلَى أَفوَاهِهِم وَتُكَلِّمُنَا أَيدِيهِم وَتَشهَدُ أَرجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكسِبُونَ} [يس: 65]، يعودُ الإنسان إلى أعضائه ليعاتبها: لِم شهِدتم علينا؟ {قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيءٍ, وَهُوَ خَلَقَكُم أَوَّلَ مَرَّةٍ, وَإِلَيهِ تُرجَعُونَ} [فصلت: 21].
أيها المسلم، سنُسأل عن شبابنا: فيم أبليناه؟ عن هذه القوّة قوّة الشباب: أين مضت؟ هل مضت في خير أم دونه؟ وسنسأل عن الأعمار عمومًا: كيف أفنيناها؟ وسنسأَل عن أموالنا التي بأيدينا: أين جمعناها؟ وكيف أنفقناها؟ وسنسأل عن عِلمنا: ماذا عملنا فيه؟
أيها المسلم، سؤالٌ من العليم الخبير، يسألك عن شبابك: فيم أمضيت هذا الشباب؟ هل مضى في خير وعمل صالح، أم مضى في سفَه وباطل ولغوٍ, وانحراف عن الهدى؟ وعن هذا العُمُر كلّه: ماذا قضيته فيه؟ عن المال طرُق اكتسابِه ووسائل إنفاقه، وعن العلم: ماذا عملتَ فيه؟ إنَّها أسئلة لا بدَّ من جوابها، فأعدَّ لهذا السؤال جوابًا.
أيّها المسلم، إنَّ اغتنامَ الشباب قبل الهرم واغتنامَ الحياة قبل الموت واغتنامَ الفراغ قبل الشٌّغل أمرٌ مطلوب من العبد، ليتزوَّد من حياته أعمالاً صالحة تكونُ زادًا له يومَ قدومه على الله، {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيرَ الزَّادِ التَّقوَى} [البقرة: 197]. إنّ الإفلاسَ حقًّا من خسِر نفسه يوم القيامة،{ إِنَّ الخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُم وَأَهلِيهِم يَومَ القِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الخُسرَانُ المُبِينُ} [الزمر: 15].
أيها المسلم، تمرٌّ بك الأعوامُ عامًا بعد عام، والشهور شهرًا بعد شهر، والأيامُ يومًا بعد يوم، وكلٌّ هذه تقترض من عُمُرك، وتبعدك من الدنيا مرحلة، وتقرِّبك إلى الآخرة مرحلة، فالسعيدُ من اغتنمَ مرورَ الأعوام والشهور والأيام في الطاعة، ونافسَ في صالح العمل، وحاسَب نفسه في الدنيا حسابًا دقيقًا، ليهونَ الحساب عليه يوم القيامة، في الأثر: (حاسِبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، وتأهَّبوا ليوم العرض الأكبر على الله)[2]، ((الكيس من دانَ نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجزُ من أعطى نفسَه مُناها وتمنّى على الله الأماني))[3].
أيّها المسلم، فاحرص على إنقاذ نفسك، وحاسِبها في الدنيا حسابًا عظيمًاº لتنجوَ يوم القيامة، ولا تكون نادمًا في ذلك اليوم حين ترى فوزَ الفائزين وسعادة السعداء ونجاةَ الناجين، وتذكر قول الله:{ أَن تَقُولَ نَفسٌ يَا حَسرَتَا عَلَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِن السَّاخِرِينَ أَو تَقُولَ لَو أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِن المُتَّقِينَ أَو تَقُولَ حِينَ تَرَى العَذَابَ لَو أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِن المُحسِنِينَ} [الزمر: 56-58]. هكذا حال المفرِّطº إذا رأى حقيقةَ الأمر يومَ القيامة قال: يَا حَسرَتَا عَلَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِن السَّاخِرِينَ، لم يكن موقنًا بذلك اليوم حقَّ اليقين، كما قال - جل وعلا -: {هَل يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأوِيلَهُ يَومَ يَأتِي تَأوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبلُ قَد جَاءَت رُسُلُ رَبِّنَا بِالحَقِّ} [الأعراف: 53]، والمؤمنون إذا رأوا وعدَ الله لهم وتحقٌّقَ ذلك قالوا: {الحَمدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعدَهُ وَأَورَثَنَا الأَرضَ نَتَبَوَّأُ مِن الجَنَّةِ حَيثُ نَشَاءُ فَنِعمَ أَجرُ العَامِلِينَ} [الزمر: 74].
أيّها المسلم، هذه دار الدنيا دار العمل، وغدًا دار الجزاء، {لِيَجزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجزِيَ الَّذِينَ أَحسَنُوا بِالحُسنَى} [النجم: 31]. هي دار العمل، فاعمَل فيها صالحًا لغدِك، وتزوَّد فيها من صالح العمل قبل أن تندمَ على ذلك التفريط وذلك الإهمال.
أيها المسلم، بلَّغك الله رشدَك، وأبقاك لأعوام عديدة، حقّ لك أن تديمَ التفكر والاعتبار، ((أعذَر الله لعبدٍ, بلَّغه الستين))[4]، أي: ما جعل له بعد بلوغها من غُدر، فقد مضى الشباب ومضت القوّة، ودخل عهد الكبر، فليتَّق الله وليحسِن العملَ قبل أن يلقى الله.
أيّها المسلم، إنّ محاسبةَ النفس أمرٌ مطلوب منَّا، كلُّ يحاسب نفسَه، فإنّه لن ينضَرَّ سواك ولن ينفعَك غيرك، فحاسب نفسك في الدنيا حسابَ من يوقن بلقاء الله، حاسِب نفسَك في أحوالك كلِّها: ماذا قدّمت لدين الإسلام؟ هل قدَّمت للأمّة خيرًا؟ وهل كنت داعيًا إلى الخير؟ وهل فيك غَيرة على دين الله؟ وهل فيك تعظيم لمحارم الله وتعظيم لأوامر الله وقيامٌ بالواجب؟ حاسِب نفسَك عن هذه الفرائض الخمسº الصلوات الخمس ما حالك وشأنك معها؟ هل كنتَ من المحافظين لها المؤدِّين لها في أوقاتها الحريصين على إكمالها وإتمامها بإتمام وضوئها وإقامة أركانها وواجباتها وتكميل ذلك بالإتيان بمستحبّاتها؟ فالصلاةُ مكيالٌ، فمَن وفّى وُفِّي له، ومن طفَّف فقد علِمتم ما قال الله في المطفِّفين. حاسب نفسك على هذه الصلوات: هل كنت محافظًا عليها حقًّا أو كنت مضيِّعًا ومفرِّطًا؟ فتدارك النفسَ قبل يوم القيامة. حاسب نفسَك عن زكاةِ مالك: هل أديتَ الزكاة حقَّ الأداء، أم كنت مفرِّطًا ومهمِلاً ومتكاسلاً؟ حاسب نفسك عن صيامك وحجِّك.
حاسب نفسك وقِف مع نفسك: هل أنت بارُّ بالوالدين؟ هل الوالدان راضيان عنك؟ هل قمتَ بحقِّهما خيرَ قيام؟ هل أحسنتَ صحبتهما؟ وهل قمت بخدمتهما؟ وهل رعيتَ حقَّهما عند كبرهما، أم كنت من المضيِّعين والمهملين؟
حاسب نفسك في بيعك وشرائك: هل أنت من الصادقين في ذلك، أم أنت من الغاشّين الخائنين؟ حاسب نفسَك عن مسؤوليّتك التي أنيطت بك: هل أدّيتها على الوجه المرضيّ، أم كنت من الخائنين لأمانتك؟ حاسِب نفسك في الأموال التي أودِعت عندك والأموال التي لك التصرٌّف فيها: ما موقفك؟ هل كان حسابك نزيهًا، أو كان حسابك غِشًّا وخيانة؟ هل أديتَ إلى الناس حقوقهم المطلوبةَ وضبطتَها وقمتَ بها أم كنت من المهملين؟
شباب الإسلام، إننا يجب أن نتفكَّر ونعتبر، وهذا اليوم آخرُ عام أربع وعشرين وأربع مائة وألف، وغدًا أول العام الهجري الخامس والعشرين بعد الأربع مائة وألف.
شبابَ الإسلام، هل فكَّرنا وتدبَّرنا في هذا العام المنصرِم، وكم حمل في طيَّاته من أحداثٍ, وأمور، وكيفَ جرى في هذه المدّة من أحداثٍ, وأمور وتحدِّيات للإسلام وأهله؟ هل فكَّرنا سويًّا في واقع أمرنا؟ وهل عُدنا إلى رشدنا؟ وهل تبصَّرنا في واقع أمرنا، وعلمنا أن الأمور التي انخدع بها من انخَدع بها من بعض شباب الأمة أنها أمور مخالفة للشرع؟ فهل استيقظ أبناؤنا؟ وهل عاد الجميع إلى رشدهم، وسلكوا الطريقَ المستقيم، ورأوا ماذا سبَّبت الفتنة والاضطرابات والقلاقل في الأمم حتى ضاعت مصالح الأمم وضاعت مصالحُ الأفراد، وأصبحت البلاد نهبًا لكلّ قويّ؟ هل فكَّر الشبابُ المسلم وهو يغترّ وينخدع بما يخدع به بعض ضعفاء البصائر وضعفاء العِلم والبصيرة ومن لُبِّس الأمر عليهم فسَعوا إلى إضلال بعض شبابِ الأمة، وزيّنوا لهم الباطل وحسَّنوا لهم الشر، حتى ظنوا أن انطلاقهم إسلاميّ، والله يعلم أن ذلك خلافٌ للحق والهدى.
فيا شباب المسلمين، تبصَّروا في واقعكم، وعودوا إلى رُشدكم، وخذوا عبرةً وعِظة عن واقع كثير من عالمنا الإسلاميّ، كيف أحدثت لهم تلك الفتنُ مصائبَ في أنفسهم واضطرابًا في أحوالهم ونقصًا في مواردهم وحصول البلاء والفتن، وتدخٌّل الأيدي الخبيثة لتدمِّر الأمة وتقضي على كيانها.
إنّ الواجبَ على كلِّ مسلم أن يحاسبَ نفسَه، ويعودَ إلى عقله، ويفكِّر قليلاً ليعلم أن هذه التصرٌّفات السيئة لا تخدم الإسلامَ ومصلحة الأمة، ولكنها تخدم أعداءَ الإسلام وأهدافَهم القريبة والبعيدة.
فليعُد شبابنا إلى رشدهم، وليفكِّروا في واقع أمرهم، وليحاسبوا أنفسَهم، وعلى كلّ إنسان أن لا ينخَدع ويغترّ، وعلى كلِّ من يحاول الشرَّ أن يعودَ إلى عقله ورشده، وينظر: هل سبيلُه الذي هو يسعى فيه سبيلُ خير أم سبيل شر؟ كم ينخدع الإنسان، وكم يغرَّر به، وكم يغيبُ عنه فكره حتى يظنَّ السبيلَ السيّئ سبيلَ خير، وتلك عقوبة من الله لمن خرج عن الطريق المستقيم، {سَأَصرِفُ عَن آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرضِ بِغَيرِ الحَقِّ وَإِن يَرَوا كُلَّ آيَةٍ, لا يُؤمِنُوا بِهَا وَإِن يَرَوا سَبِيلَ الرٌّشدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً} [الأعراف: 146]. هكذا حال من ضلَّ عن الهدى، يرى سبيلَ الخير والهدى سبيلَ غواية، ويرى سبيلَ الضلال والبعد عن الهدى يراه سبيلَ رُشد، هذا عملٌ سيّئ، {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلٌّ مَن يَشَاءُ وَيَهدِي مَن يَشَاءُ} [فاطر: 8].
لنأخذ عبرةً وعِظة، ولنستقبل عامَنا الجديدَ إن شاء الله بعملٍ, صالح وتَوبة صادقة وتعاوُن وتكاتُف واتحاد على الخير ونبذ أسباب الفرقة والاختلاف وعدم الانصياع إلى دعاة الفتنة والتضليل، الذين لا غَرضَ لهم سِوى أن يُحدثوا في الأمة زعازِعَ وقلاقل، وإلى أن يحدِثوا بين صفوفها بلبلةً واضطرابًا، وإلى أن يحدثوا في الأمة خوفًا ورعبًا.
فالأمة إذا عادت إلى رُشدها وتفكَّرت في واقعها وأن هذا المجتمعَ المسلم إذ يعيش في أمن ورغدٍ, واستقرار ونعمة إنما أسبابه التمسٌّك بهذه الشريعة والعملُ بها والثباتُ عليها، فلنستقِم على طاعةِ ربنا، ولننبذ كلَّ الآراء المضلِّلة، وليكن موقفُنا وموقفَ التعاون وشدِّ الأزر والارتباط الوثيق، حتى يسلَم مجتمعُنا المسلم من هذه البلابل وهذه الفتن والأضرار.
إن هذه الفتنَ لا تحقِّق هدفًا، ولا تخدم الأمةَ في الحاضر والمستقبل، لكنها شرّ وبلاء لمن تدبَّر وتعقَّل.
فلنتَّقِ الله في عامنا الجديد، ولنستقبله بتوبةٍ, نصوح وجدٍّ, في الطاعة وإقبال على الخير، ونسيان كلِّ الأمور السيئة والإعراض عنها، والأخذ بما يُسبِّب أمنَ الأمة واطمئنانها، ولنأخذ عبرةً من الآخرين، ولا نكن شماتةً لأعدائنا، فالأمة مطلوبٌ منها أن تكونَ يدًا واحدة وقلبًا واحدًا في التعاون على الخير، {وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثمِ وَالعُدوَانِ} [المائدة: 2]، {يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيتُم فَلا تَتَنَاجَوا بِالإِثمِ وَالعُدوَانِ وَمَعصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوا بِالبِرِّ وَالتَّقوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيهِ تُحشَرُونَ} [المجادلة: 9].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله - تعالى -حقَّ التقوى.
عباد الله، يقول نبيٌّكم: ((كلٌّ الناس يغدو، فبائع نفسَه فمعتقها أو موبقها))[5].
كلُّ يسعى، ولكن أحد يسعى في خلاصِ نفسه وفكاكها من عذاب الله والصعودِ بها إلى أعلى الدرجات، وآخر يسعَى في إذلال نفسِه وإيباقها في عذاب الله، {قَد أَفلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَد خَابَ مَن دَسَّاهَا} [الشمس: 9، 10].
فيا أخي، كن ممَّن يسعى في فكاك نفسهº بطاعة ربِّك والاستقامة على هذا الدين والثبات عليه، وتنفيذ الأوامر واجتناب النواهي والقيام بذلك خيرَ قيام، بالتناصُح والتعاون على الخير والقيام بالواجب ونصيحةِ المسلمين وتوجيههم والأخذ على أيدي سفهائهم وتبصيرهم بالحقّ وتحذيرهم من سُبُل الردى، فإن هذا أمرٌ مطلوب من المسلمين، فإنّ المسلمين جميعًا مطالبون بأن يكونوا دعاةً إلى الخير، يحذِّرون من الشرّ وينهون عنه، ويأخذون على أيدي سفهائهم، ويحذِّرونهم من دعاةِ الضلال وممّن يحاولون تفتيتَ شمل الأمة وتفريقَ كلمتها، ويبيّنوا أن هذه أخطار عظيمة وجرائم كبيرة، نسأل الله أن يجمعَ القلوب على طاعته، وأن يعيذنا جميعًا من نزغات الشيطان.
واعملوا ـ رحمكم الله ـ أن أحسنَ الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على نبّي الله ورسوله محمّد كما أمركم بذلك ربكم، قال - تعالى -: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلٌّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلٌّوا عَلَيهِ وَسَلِّمُوا تَسلِيمًا} [الأحزاب: 56].
اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، الأئمة المهديين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر أصحاب نبيك أجمعين، وعن التابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمِك وجودك وإحسانك يا أرحمَ الراحمين.
اللهمّ أعزّ الإسلام والمسلمين، وأذلَّ الشرك والمشركين، ودمّر أعداء الدين، وانصر عبادك الموحِّدين، واجعل اللهمّ هذا البلد آمنًا مطمئنًّا وسائر بلاد المسلمين يا رب العالمين.
اللهمّ آمنا في أوطاننا، وأصلِح أئمتنا وولاةَ أمرنا، اللهم وفقهم لما فيه صلاحُ الإسلام والمسلمين، اللهم وفّق ولاةَ أمر المسلمين لما يرضيك إنك على كلّ شيء قدير.
اللهمّ وفِّق إمامنا لما يرضيك، اللهمّ انصر به دينك وأعلِ به كلمتك، وأره الحق حقًّا وارزقه اتباعه، وأره الباطل باطلاً وارزقه اجتنابه، اللهمّ دُلَّه على كلّ عمل تحبه وترضاه، اللهم بارك له في عمره وعمله، وألبسه لباسَ الصحة والسلامة والعافية، اللهمّ وفق وليَّ عهده لما يرضيك، وسدّده في أقواله وأعماله، ووفّق النائب الثاني، واجعلهم جميعًا أعوانًا على البر والتقوى، إنك على كل شيء قدير.
اللهم أهلّ علينا هذا العامَ بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام، وأعذنا فيه من مضلاّت الفتن، ما ظهر منها وما بطن، اللهمّ وفقنا فيه لصالح الأعمال، اللهمّ وفقنا للتوبة النصوح والاستقامة على الخير وتبديل السيئات بالحسنات، إنك على كل شيء قدير.
{رَبَّنَا اغفِر لَنَا وَلإِخوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجعَل فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10].
{رَبَّنَا ظَلَمنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَم تَغفِر لَنَا وَتَرحَمنَا لَنَكُونَنَّ مِن الخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23].
{رَبَّنَا آتِنَا فِي الدٌّنيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 201].
عباد الله، {إِنَّ اللَّهَ يَأمُرُ بِالعَدلِ وَالإِحسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي القُربَى وَيَنهَى عَن الفَحشَاءِ وَالمُنكَرِ وَالبَغيِ يَعِظُكُم لَعَلَّكُم تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90]، فاذكروا الله العظيمَ الجليل يذكركم، واشكروه على عموم نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
----------------------------------------
[1] أخرجه مسلم في الإمارة (1844) عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - بنحوه.
[2] روي هذا الأثر عن عمر - رضي الله عنه - من طرق لا تثبت: فأخرجه ابن أبي الدنيا في محاسبة النفس (ص2930)، وأحمد في الزهد (ص120)، وأبو نعيم في الحلية (1/52) من طريق جعفر بن برقان، عن ثابت بن الحجاج، عنه - رضي الله عنه -، وثابت لم يدرك عمر. وعند ابن أبي شيبة في المصنف (13/270): عن جعفر بن برقان، عن رجل لم يسم، عن عمر. وأخرجه ابن المبارك في الزهد (ص103) عن مالك بن مغول بلاغا عن عمر. وأخرجه مالك في الموطأ (2/111 ـ رواية أبي مصعب ـ) بسند منقطع بين يحيى بن سعيد وعمر. وعلقه الترمذي في صفة القيامة (2459) بصيغة التمريض. وقد ضعف الأثر الألباني في السلسلة الضعيفة (1201).
[3] أخرجه أحمد (4/124)، والترمذي في صفة القيامة والرقائق والورع (2459)، وابن ماجه في الزهد، باب: ذكر الموت والاستعداد له (4260)، والبزار (3489)، والطبراني في الكبير (7/281، 284)، وأبو نعيم في الحلية (1/267، 8/174)، والبيهقي في الكبرى (3/369) من حديث شداد بن أوس - رضي الله عنه - نحوه، قال الترمذي: \"هذا حديث حسن\"، وصححه الحاكم (191، 7639)، وتعقبه الذهبي في الموضع الأول بأن فيه أبا بكر بن أبي مريم وهو ضعيف، ولذا ضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (5319).
[4] أخرجه البخاري في الرقاق (6419) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، ولفظه: ((أعذر الله إلى امرئ أخّر أجله حتى بلغه ستين سنة)).
[5] أخرجه مسلم في الطهارة (223) عن أبي مالك الأشعري - رضي الله عنه -.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد