حق الراعي


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الخطبة الأولى:

أما بعد: فاتقوا الله ـ عباد الله ـ حق التقوى، واستقيموا على أمره سرًا وجهرًا.

أيها المسلمون، بعث الله نبينا محمدًا لتقصد قلوبُ الأفراد والجماعة الإلهَ وحده، وشعائر الإسلام تعلوا بِأُلفة واجتماع أفراد المجتمع على هذا الدِّين. بعثه ربه والناس أشد تقاطعًا وتعاديًا، وأكثر اختلافًا وتماديًا، فأتى بأمر روابط أواصر المودّة بين أفراده، ليفردوا خالقهم بالعبادة، وجعل ذلك من أوليات قواعد الدين. يقول عمرو بن عَبَسَة: دخلت على النبي بمكة فقلت له: من أنت؟ قال: ((أنا نبي))، فقلت: وما نبي؟ قال: ((أرسلني الله))، فقلت: وبأي شيء أرسلك؟ قال: ((أرسلني بصلة الأرحام وكسر الأوثان، وأن يوحد الله ولا يُشرك به شيء)) رواه مسلم[1]. ودعا إلى لُحمَة الائتلاف بين المسلمين وحرّم ضدها، فقال: ((لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا ولا تقاطعوا، وكونوا عباد الله إخوانًا)) متفق عليه[2].

ولتبقى القلوب سليمة نهى عن الهجر فوق ثلاث ليال، فقال: ((لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث)) متفق عليه[3].

ولما هاجر - عليه الصلاة والسلام - إلى المدينة، كان من أول أعماله تأليف القلوب على طاعة الله، وأَلَّّف بين الأوس والخزرج بعد حروب طاحنة بينهم، فزالت محنهم، وانقطعت عداوتهم، وصاروا بالإسلام إخوانًا متحابّين، وبألفة الدين أعوانًا مُتناصرين، {وَاذكُرُوا نِعمَةَ اللَّهِ عَلَيكُم إِذ كُنتُم أَعدَاءً فَأَلَّفَ بَينَ قُلُوبِكُم فَأَصبَحتُم بِنِعمَتِهِ إِخوَانًا} [آل عمران: 103]، فكانت تلك نعمة سابغة امتنّ بها على الأنصار، فقال - عليه الصلاة والسلام -: ((يا معشر الأنصار، ألم أجدكم ضُلاّلاً فهداكم الله بي؟! وكنتم متفرّقين فألّفكم الله بي!)) متفق عليه[4].

والمجتمع المتآلف ينتصر على أعاديه، ويؤدي الإسلامُ رسالته، وتقوم الشريعة كما أمر الله. ومن القواعد التي استقرت عليها الملة، وجاءت بها الفطرة، ضرورة إقامة والٍ, على الرعية يسوس الدنيا بالدينº ليصدر التدبير عن دين مشروع، وتجتمع الكلمة على رأي متبوع، فلا دين ينتشر إلا بجماعة، ولا جماعة إلا بإمامة. قال الماوردي - رحمه الله -: \"ولولا الولاة لكانوا فوضى مهملين\".

 الوالي يحفظ الله به الدين ليكون محروسًا من الخلل، وينفذ الأحكام بين الأخصام، فلا يتعدى ظالم ولا يضعف مظلوم، ويذبّ عن الحرمات ليأمن الناس في المعاش، يحفظ الحقوق، ويقيم الحدودº لتصان محارم الله عن الانتهاك، يرفع راية الدعوة إلى الله، ويظهر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكرº ليذوق الناس حلاوة الدين، به تقام شرائع الملة وأعلام الإسلام.

 

وعبء أمانة الولاية ثقيل، يعين على حمله النصيحة الصادقة المخلصة من الرعية للراعي، يقول - عليه الصلاة والسلام -: ((الدين النصيحة))، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: ((لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم)) متفق عليه[5]. قال ابن رجب - رحمه الله -: \"النصيحة لأئمة المسلمين معونتهم على الحق وطاعتهم فيه، وتذكيرهم به وتنبيههم برفق ولطف، والدعاء لهم بالتوفيق وحث الأغيار على ذلك\"[6].

ونصح الولاة من الأعمال الفاضلة التي يحبها الله ويرتضيها، قال النبي: ((إن الله يرضى لكم ثلاثًا: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا، وأن تنصحوا من ولاّه الله أمركم)) رواه أحمد[7].

والنصيحة تكون سرًا بين الناصح الصادق وبين الواليº لتكون أخلص عند الله، وعلى هذا سار السلف الصالح. سُئل ابن عباس - رضي الله عنهما - عن أمر السلطان بالمعروف ونهيه عن المنكر؟ قال: \"إن كنت فاعلاً ففيما بينك وبينه\"[8]. قال الشيخ محمد بن إبراهيم - رحمه الله -: \"الواجب مناصحتهم على الوجه الشرعي برفق، واتباع ما كان عليه السلف الصالح من عدم التشنيع عليهم في المجالس ومجامع الناس\"، قال: \"أما مخالفة ذلك واعتقاد أنه من إنكار المنكر الواجب إنكاره على العباد فإنه غلط فاحش وجهل ظاهر، لا يعلم صاحبه ما يترتب عليه من المفاسد العظام في الدين والدنيا، كما يعرف ذلك من نَّور الله قلبه، وعرف طريقة السلف الصالح وأئمة الدِّين\".

وتوقير الولاة مع النصح لهم من الفقه في الدين، يقول سهل بن عبد الله - رحمه الله -: \"لا يزال الناس بخير ما عظموا السلطان والعلماء، فإن عظموا هذين أصلح الله دنياهم وأخراهم، وإن استخفوا بهذين فسدت دنياهم وأخراهم\". ونصحهم يكون بتلطّف في العبارة وحكمة ولين. قال ابن القيم - رحمه الله -: \"مخاطبة الرؤساء بالقول الليّن أمرٌ مطلوب شرعًا وعقلاً وعرفًا، ولذلك تجد الناس كالمفطورين عليه، وهكذا كان النبي يخاطب رؤساء العشائر والقبائل\"[9].

ومن تمام النصح دعوة صادقة خفية لولي الأمر ابتغاء ثواب الله، وكان الإمام أحمد والفضيل بن عياض - رحمهما الله - يقولان: \"لو كانت لنا دعوة مستجابة لدعونا بها للسلطان\".

وواجب على الرعية مع النصيحة السمع والطاعة له في غير معصية الله، قال النبي: ((تسمع وتطيع للأمير وإن ضرب ظهرك، وأخذ مالك فاسمع وأطع)) رواه مسلم[10]. قال ابن رجب - رحمه الله -: \"السمع والطاعة لولاة أمور المسلمين فيها سعادة الدنيا، وبها تنتظم مصالح العباد في معاشهم، وبها يستعينون على إظهار دينهم وطاعة ربهم\"[11].

وبالألفة بين الراعي والرعية يظهر الدين، ويهنأ العيش، ويطاع الرب بالعمل بنصوص الشريعة في ذلك، فترتفع منزلة العبد عند الله في الآخرة، وتتحقق له الرفعة. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:{يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمرِ مِنكُم فَإِن تَنَازَعتُم فِي شَيءٍ, فَرُدٌّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُم تُؤمِنُونَ بِاللَّهِ وَاليَومِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيرٌ وَأَحسَنُ تَأوِيلاً} [النساء: 59].

 بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا مزيدًا.

أيها المسلمون، الموفق من اغتنم عمره بالطاعة، وعَمَرَ حياته بأعمال من البِرِّ متنوعة، ممتثلاً أمر الله: {فَاستَبِقُوا الخَيرَاتِ} [المائدة: 48]. وقد كان لخادم الحرمين - رحمه الله - يدٌ طولى في ذلك، وتمتد الرفعة بعد العجز عن العمل بانقطاع الحياة بالدعاء والصدقة الجارية، قال - عليه الصلاة والسلام -: ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له)) رواه مسلم[12].

ومن حقه على الرعية الدعاء له بالمغفرة والرضوان، وما قدّم لرعيته وللمسلمين من أعمال صالحة.

ثم اعلموا أن الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيه، فقال في محكم التنزيل: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلٌّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلٌّوا عَلَيهِ وَسَلِّمُوا تَسلِيمًا}[الأحزاب: 56]

اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد

 

----------------------------------------

[1] صحيح مسلم كتاب صلاة المسافرين وقصرها (832).

[2] صحيح البخاري كتاب الأدب، باب: ما ينهى عن التحاسد والتدابر (6065)، وصحيح مسلم كتاب البر والصلة (2559)، من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -.

[3] صحيح البخاري كتاب الأدب، باب: الهجرة (6077)، وصحيح مسلم كتاب البر والصلة (2560)، من حديث أبي أيوب - رضي الله عنه -.

[4] صحيح البخاري كتاب المغازي، باب: غزوة الطائف في شوال (4330) واللفظ له، وصحيح مسلم كتاب الزكاة (1061)، من حديث عبد الله بن زيد - رضي الله عنه -.

[5] هو في البخاري معلقًا أخرجه في كتاب الإيمان، باب: الدين النصيحة، ومسلم في الإيمان (55) بنحوه، من حديث أبي الدرداء - رضي الله عنه -.

[6] جامع العلوم والحكم (ص80).

[7] مسند الإمام أحمد (2/367)، وأخرجه أيضًا بهذا اللفظ مالك في الموطأ (1863)، ومسلم في الأقضية (1715) بنحوه. من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

[8] ينظر: جامع العلوم والحكم، لابن رجب (ص82).

[9] بدائع الفوائد (3/652).

[10] صحيح مسلم كتاب الإمارة (1847)، من حديث حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه -.

[11] جامع العلوم والحكم (ص262).

[12] صحيح مسلم كتاب الوصية (1631) بنحوه، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply