البركة


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله على إحسانِه، والشّكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أنّ نبيّنا محمّدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلّم تسليمًا مزيدًا.

أمّا بعد: فاتَّقوا الله- عبادَ الله- حقَّ التقوى، فتقوى الله نورُ البصائِر، وبها تحيى القلوبُ والضمائر.

أيّها المسلمون، يسعَى الخلائقُ في هذِه الحياةِ بألوانٍ, منَ الأعمال شتّى، يضمَحلّ منها ما كان في معصية الله وسخَطه، ويزكو ما كان في مرضاتِ الله وطاعتِه، قال - سبحانه -: \"فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض\" {الرعد: 17}.

وكلٌّ شيءٍ, لا يكونُ لله فبركتُه منزوعَة، والربٌّ هو الذي يُبارِك وحدَه، والبركةُ كلٌّها مِنه، وهو - سبحانه - تبارَك في ذاتِه، ويباركُ فيمن شاءَ من خلقِه.

قال - جل وعلا -: \"وتبارك الذي له ملك السماوات والأرض وما بينهما وعنده علم الساعة وإليه ترجعون\" {الزخرف: 85}، وكلٌّ ما نُسِب إليه فهو مبارَك، واسمه - تعالى - مباركٌ تُنال معه البركة، قال - عز وجل -: \"تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام\" {الرحمن: 78}.

والله - جل وعلا - برحمته يأتي بالخيرات، وبفضله يضاعِف البركات، وليسَت سَعةُ الرّزق والعملِ بكثرته، ولا زيادةُ العمر بتعاقُب الشهور والأعوام، ولكن سعةُ الرزقِ والعمُر بالبركة فيه.

بالعمَل المبارَك يُكتسَب الذّكر الجميل في الحياة، وجزيلُ الثوابِ في الآخرة، فيه طهارةُ القلبِ وزكاةُ النفس وعليٌّ الخلُق.

والبركةُ ما كانت في قليلٍ, إلاَّ كثَّرته، ولا في كثير إلا نفَعَته، ولا غِنَى لأحدٍ, عن بركةِ الله، حتى الأنبياء والرسل يطلبونها من خالقِهم، يقول النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: \"بينما أيّوبُ يغتسِل عريانًا، فخرَّ عليه جرادٌ من ذهَب، فجعل أيّوب يحتسي في ثوبه، فناداه ربّه: يا أيّوب، ألم أكن أغنيتُك عمّا ترى؟! قال: بلى وعزّتِك، ولكن لا غِنى بي عن بركتك\" رواه البخاري.

والرسُل والدعاةُ مبارَكون بأعمالهم الصّالحةِ ودعوتهم إلى الخيرِ والهدى، قال عيسَى - عليه السلام -: \"وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكواة ما دمت حيا\" {مريم: 31}. ونوحٌ - عليه السلام - أُغدِق ببركاتٍ, من الله: قيل \"يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك\" {هود: 48}، ودعا نوحٌ - عليه السلام - ربَّه بالمنزلِ المبارَك: \"وقل رب أنزلني منزلا مباركا وأنت خير المنزلين\" {المؤمنين: 29}. وألقى الله البركة على إبراهيم وآله، قال - تعالى -: \"وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين وباركنا عليه وعلى إسحاق\" {الصافات: 112، 113}، وبارَك فيه وفي أهل بيته، قال - عز وجل -: \"رحمت الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد\" {هود: 73}، قال ابن القيم - رحمه الله -: \"هذا البيتُ المبارَك المطهَّر أشرفُ بيوت العالم على الإطلاق، فلم يأتِ بعدَ إبراهيمَ نبيُّ إلاَّ من أهل بيتِه، وكلٌّ من دخل الجنّةَ من أولياء الله بعدَهم فإنما دخل من طريقهم وبدعوَتهم\". ودعا نبيّنا ربَّه بالبركة في العطاء في قوله - عليه الصلاة والسلام -: \"وبارِك لي فيما أعطيتَ\" رواه الترمذي.

وتحيّة المسلمين بينهم عند اللّقاء طلبُ السّلام والرحمة والبركة.

أيّها المسلمون، القرآنُ العظيم كثيرُ الخيراتِ واسِع المبرّات، كتابٌ مبارَك محكَم، فصلٌ مهيمِن، أنزله الله رحمة وشفاءً وبيانًا وهُدى، قال - سبحانه -: \"وهذا ذكر مبارك أنزلناه\" {الأنبياء: 50}. وسورةُ البقرة سورة مبارَكة، مأمورٌ بتعلّمها، قال - عليه الصلاة والسلام -: \"تعلَّموا سورةَ البقرةِ، فإنّ أخذَها بركَة، وتركَها حَسرة، ولا تستطيعها البطَلَة\" أي: السّحرة. رواه أحمد.

وسَعة الرِّزق وبركةُ العمُر في صلةِ الرحِم، يقول المصطفى: \"مَن أحبَّ أن يُبسَط له في رِزقه وينسَأ له أثره فليصِل رحمه\" رواه البخاري.

والصادقُ في البيع والشراءِ والمعاملات مبارَكٌ له في الكَسب، مترادفٌ عليه الخير، يقول النبي: \"البيِّعان بالخيار ما لم يتفرّقا، فإن صدَقا وبيَّنا بُورك لهما في بيعِهما، وإن كذبا وكتَما مُحِقت بركة بيعِهما\" متفق عليه.

و الإسلام على الأسرةِ وحلولِ البركة فيها وعليها مِن أوّل نشأتها شُرع الدّعاء للزوجين بالبركة عند النكاح، يقول أبو هريرة - رضي الله عنه -: كان النبيّ إذا رفّأ الإنسانَ إذا تزوّج قال له: \"بارَك الله لك، وبارك عليك، وجمع بينكما في خير\" رواه الترمذي وقال: حسن صحيح.

وأوفرُ الزوجاتِ بركةً ما قلّت المؤونة في نكاحها، والزواجُ السعيد ما صاحبه اليسرُ والتسهيلُ، يقول المصطفى: \"أعظمُ النّساء بركةً أيسرُهنّ مؤونة\" رواه أحمد.

والزوجةُ المبارَكة هي المطيعةُ لله القائمة بحقوق زوجها في غير معصيةِ الله. والولدُ المبارك هو الناشئ على طاعة ربِّه، المستمسِك بسنّة نبيه - عليه الصلاة والسلام -، الصائنُ لنفسِه عن الذنوب والعِصيان.

وإذا دَخل ربٌّ الأسرةِ دارَه شُرع إفشاءُ السلام على أهله رجاءَ البركة، يقول أنس - رضي الله عنه -: قال لي رسول الله: \"يا بنيّ، إذا دخلتَ على أهلك فسلّم، تكُن بركةً عليك وعلى أهل بيتك\" رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.

والرجلُ المبارَك هو الذي ينتفَع به حيثُما حلّ، وإذا قرُب العبد من ربّه بورِك في وقته وعمِل أعمالاً كثيرةً في زمنٍ, يسير. أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - قبل صلاة الفجر عاد مريضًا وتبِع جنازةً وأطعَم مسكينًا وأصبح صائمًا، يقول أبو هريرة - رضي الله عنه -: قال رسول الله: \"من أصبَح منكم اليومَ صائمًا؟ \" قال أبو بكر: أنا، قال: \"فمن تبِع منكم اليومَ جنازَة؟ \" قال أبو بكر: أنا، قال: \"فمَن أطعمَ منكم اليومَ مسكينًا؟ \" قال أبو بكر: أنا، قال: \"فمَن عاد مِنكم اليومَ مريضًا؟ \" قال أبو بكر: أنا، فقال رسول الله: \"ما اجتَمَعت في امرِئ إلا دخل الجنة\" رواه مسلم.

وخير الصٌّحبةِ صُحبةُ الصالحين، وأزكى المجالس مجالسُ الذّكر، تحضرُها الملائكة، ويُغفَر لجليسها، \"فتقول الملائكة لربّها: فيهم فلانٌ ليس مِنهم، وإنما جاء لحاجةٍ,، قال: هم الجلساءُ لا يشقى بهم جليسهم\" متفق عليه. فهذا من بركَتهم على نفوسهم وعلى جليسهم.

والمالُ المبارَك ما كثُر خيرُه وتعدّدَت منافعه وبُذِل في طُرقِ البرّ والإحسان ابتغاءَ مرضاته، ومن قنِع بربحٍ, حلال قليل وتحرّى الصدقَ في معاملاته ظهرتِ البركة في ماله وفي أولاده، قال النبيّ: \"من أخذه بحقّه ووضعه في حقِّه فنِعمَ المعونة\" رواه البخاري.

وسرورُ الدنيا وبهجةُ زينتِها لا تتمّ إلا بكسبٍ, حلال، والمالُ يكثُر عددُه بالبذلِ والعطاء في الخيرات، قال المصطفى – صلى الله عليه وسلم -: \"ما نقصَت صدقةٌ مِن مال\" رواه مسلم. وقالَ - عليه الصلاة والسلام -: \"أنفِق ينفَق عليك\" رواه البخاري. ومن أخذ ما أُعطِي بتعفٌّف وغِنى نفسٍ, من غَير مسألةٍ, ولا استشرافٍ, له بالقلب بورِك له فيه، قال: \"من أخذه بطيب نفسٍ, منه بورِك له فيه، ومن أخذَه بإشرافِ نفسٍ, له لم يبارَك له فيه\" رواه ابن حبان.

والبركةُ يتحرّاها العبدُ في مأكلِه في يومه وليلتِه، فالطّعام المبارَك ما أكلتَه ممّا يليك، وتجنّبتَ الأكلَ من وسط الصحفَة، وذكرتَ اسمَ الله عليه، قال - عليه الصلاة والسلام -: \"البركةُ تنزل وسطَ الطعام، فكُلوا من حافتيه، ولا تأكلوا من وسطه\" رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.

وأمَر رسول الله بلَعقِ الأصابعِ والصحفة بعد الفراغ من الطعام رجاءَ البركة، وقال: \"إنّكم لا تدرون في أيِّها البركة\" رواه مسلم.

وفي الاجتماعِ على الطعام بركة، وفي التفرّق نزعٌ لها، يقول وحشيّ بنُ حرب: قالوا: يا رسولَ الله، إنّا نأكل ولا نشبع، قال: \"فلعلّكم تفترِقون\"، قالوا: نعم، قال: \"فاجتمِعوا على طعامكم، واذكروا اسم الله، يبارَك لكم فيه\" رواه أبو داود.

وسيّد المياه وأنفعُها وأبركُها ماءُ زمزم، قال - عليه الصلاة والسلام -: \"إنها مبارَكة، إنها طعامُ طُعم\" رواه مسلم.

أيّها المسلمون، اصطَفى الله من الدهرِ أزمنةً، ومِن البقاع أمكنَة، خصّها بالتشريف والبركة، فليلةُ القدر ليلةٌ مباركة رفيعةُ القدر عظيمةُ المكانة، إنا أنزلناه فى ليلة مباركة {الدخان: 3}، وأوّلُ النهار بعد صلاةِ الفجر زمنُ الغنيمة المبارك ووقتُ نزول الأرزاق وحلول البركات، أقسَم الله به في كتابِه بقوله - جل وعلا -: واليل إذا عسعس والصبح إذا تنفس {التكوير: 17، 18}، والنبيّ دعا بالبركةِ في بُدُوِّ الصباح، قال - عليه الصلاة والسلام -: \"اللهمَّ بارك لأمّتي في بكورها\" والنومُ بين صلاة الصبحِ وشروقِ الشمس تفويتٌ لزهرة اليوم.

 

وبيتُ الله الحرام مبارك، ليس في بيوتِ العالمَ أبرك منه ولا أكثرَ خيرًا ولا أدوم ولا أنفعَ للخلائق، قال - جل وعلا -: \"إن أول بيت وضع للناس للذى ببكة مباركا وهدى للعالمين\" {آل عمران: 96}.

ومدينةُ المصطفى مدينةٌ مباركة، الصلاةُ في مسجِد النبيّ تعدل ألفِ صلاةٍ, فيما سواه، وصاعُها ومدٌّها مبارك فيه، وتمرُ عاليتها شِفَاء، يقول النبيّ: \"اللهمّ بارك لنا في مدينتِنا، وبارك لنا في صاعِنا ومُدّنا\" رواه مسلم، وفي لفظٍ, له: \"اللهمّ اجعَل مع البركة بركتين\"، وقال - عليه الصلاة والسلام -: \"اللهمَّ اجعَل بالمدينة ضِعفَي ما جعلتَ بمكّة من البركة\" متفق عليه. قال النوويّ - رحمه الله -: \"الظاهرُ أنَّ البركةَ حصلت في نفسِ المكيل، بحيث يكفي المدّ فيها من لا يكفيه في غيرها، وهذا أمرٌ محسوسٌ عند من سَكنها\".

وبارَك الله في مواطنَ من أرضه كما في قوله - تعالى -: \"سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا\" {الإسراء: 1}.

والفضيلة الدائمةُ في كلِّ زمانٍ, ومكان بالإيمانِ والعمل الصّالح، وأيّ مكانٍ, وعمل كان أعونَ للشّخص كان أفضلَ في حقِّه، يقول سلمان - رضي الله عنه -: (إنَّ الأرضَ لا تقدّس أحدًا، وإنما يقدّس الرجلَ عملُه).

أيّها المسلمون، إذا أظهَر العبادُ ذنوبًا تتابعَت عليهم العقوبات، وكلّما قلّتِ المعاصي في الأرض ظهرَت فيها آثار البركة من الله، وانتشارُ المعاصي وفشوّها سببٌ لنزع الخيراتِ والبركات، قال - جل وعلا -: وألو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا لنفتنهم فيه ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا {الجن: 16، 17}.

وللمعصيةِ أعظمُ تأثير في محقِ بركةِ المال والعمُر والعلم والعمَل، يقول النبيّ: \"وإنّ العبدَ ليُحرَم الرزقَ بالذنبِ يصيبه\" رواه ابن ماجه، قال ابن القيم - رحمه الله -: \"وفي الجملةِ فالمعصيةُ تمحق بركةَ الدين والدنيا ممّن عصى الله، فلا تجد بركةً في عمُره ودينه ودنياه\".

ولا يُنال ما عند الله إلا بطاعتِه، والسعادةُ في القربِ من الله، وبالإكثار من الطاعات تحُلّ البركات، وبالرجوع إليه تتفتّح لك أبوابُ الأرزاق.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ولو أن أهل القرى ءامنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون {الأعراف: 96}.

بارَك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآياتِ والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو التواب الرحيم.

أيّها المسلمون، محقُ البركةِ يجلِب قلّةَ التوفيقِ وفسادَ القلب، وأنفعُ الأشياءِ أبركُها، ومن بارَك الله فيه وعليه فهو المبارَك، ولا تُرتَجى البركة فيما لم يأذَن به الشرع الحكيم. وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تزكو النفس وتصلح الأحوال وتحلّ البركاتَ على المجتمعات. ومن التزم الصدقَ في البيان أُلقِيت الحكمةُ على لسانه والسدادُ في أفعاله. ومن أخذ المال بغير حقِّه بارَ نفعُه، قال النبيّ: \"ومن أخذه بغير حقِّه كان كالذي يأكل ولا يشبع\" رواه البخاري.

والرِّبا عديمُ النفعِ ماحقٌ للمالِ مُجلِب للهمّ، يجري آكِلُهُ خلفَ سَراب، قال - سبحانه -: يمحق الله الربوا ويربى الصدقات {البقرة: 276}.

والحلِف منفقةٌ للسلعة ممحِقٌ للكَسب، ومنعُ الصدقة خشيةَ النفادِ تلفٌ للمال، قال: \"اللهمَّ أعطِ ممسكًا تلفًا\" رواه البخاري.

فالزَم جانبَ العبودية والاتباع، وابتعِد عن المحرّمات والشّبهات في المال وغير المال، يبارَك لك في الأخذ والعطاء.

ثمّ اعلَموا أنّ الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيّه، فقال في محكَم التنزيل: إن الله وملائكته يصلون على النبي ياأيها الذين ءامنوا صلوا عليه وسلموا تسليما {الأحزاب: 56}.

اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على نبينا محمّد، وارض اللهمّ عن خلفائه الراشدين.

 

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply