الخطبة الأولى
أما بعد:
فاتقوا الله ـ عباد الله ـ حق التقوى، فبالتقوى تُستنار البصائر والقلوب، وتُحَطّ الخطايا والذنوب.
أيها المسلمون، لقد منّ الله علينا بدين موافقٍ, للفطر القويمة والعقول السليمة، صالحٍ, لكل زمان ومكان، جامع بين العلم والعبادة، والقول والعمل والاعتقاد، لا يقبل الله من الخلائق دينًا سواه، وَمَن يَبتَغِ غَيرَ الإسلَـامِ دِينًا فَلَن يُقبَلَ مِنهُ وَهُوَ فِى الآخِرَةِ مِنَ الخَـاسِرِينَ [آل عمران: 85].
في هذا الدين كلمةٌ من قالها صادقًا من قلبه وعمل بمقتضاها مبتغيًا بذلك وجه الله دخل الجنة بلا حساب ولا عذاب، \"لا إله إلا الله\" هي أطيب الكلام، وأفضل الأعمال، وأعلى شعب الإيمان، من قالها حقًا ارتقى إلى أرفع منازل الدين.
والنطقُ بها لا يكفي للدخول في الإسلام أو البقاء عليه، بل يجب مع ذلك أن يكون المسلم عالمًا بمعناها، عاملاً بمقتضاها من نفي الشرك وإثبات الوحدانية لله، والمسلم صادق في إيمانه وعقيدته، مستسلم لله في الأحكام والأوامر، والشرع والقدر، لا يُنزل حوائجه إلا بالله، ولا يطلب تفريج كروبه إلا منه - سبحانه وتعالى -، قال - عز وجل -: وَإِن يَمسَسكَ اللَّهُ بِضُرّ فَلاَ كَـاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمسَسكَ بِخَيرٍ, فَهُوَ عَلَى كُلّ شَىء قَدُيرٌ [الأنعام: 17].
ودعاؤه وحدَه - سبحانه - عبادةٌ جليلة من أفضل العبادات، قال: ((ليس شيء أكرم على الله من الدعاء)) رواه أحمد[1]، ويقول ابن عباس - رضي الله عنهما -: (أفضل العبادة الدعاء) [2]، وإذا حلت بك الحوادث والكروب، وأغلقت في وجهك المسالك والدروب ناد العظيم، فإن من سأله أعطاه، ومن لاذ به حماه، يقول: ((إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك)) رواه الترمذي[3].
ولا تستنكف عن سؤال ربك ما دنا من الأمور، يقول المصطفى - عليه الصلاة والسلام -: ((سلوا الله كل شيء حتى الشسعَ إذا انقطع، فإنه إن لم ييسر لم يتيسر)) رواه أبو يعلى[4].
وأما الميت والغائب فإنه لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا، فضلاً عن نفع غيره، والميت محتاجٌ إلى من يدعو له، كما أمرنا النبي إذا زرنا قبور المسلمين أن نترحم عليهم وندعو لهم، لا أن يُستغاث بهم.
وربنا - سبحانه - متَّصف بالسمع والبصر، ومن القدح في ربوبيته والتنقص لألوهيته أن تجعل بينك وبينه وسائط في الدعاء والمسألة، وهو القائل: ادعُونِى أَستَجِب لَكُم [غافر: 60].
ومما يناقض كلمة الإخلاص إراقة الدماء لغير الله، قُل إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ العَـالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذالِكَ أُمِرتُ وَأَنَا أَوَّلُ المُسلِمِينَ [الأنعام: 162، 163].
والطواف بالبيت العتيق عبادة متضمنة للذل والخضوع لرب البيت وَليَطَّوَّفُوا بِالبَيتِ العَتِيقِ [الحج: 29]، والطواف بغيره من الأضرحة موجب للحرمان من الجنة.
والحلف بالله صدقًا في مواطن الحاجة من تعظيم رب العالمين، والحلف بغيره استخاف بجناب الباري - جل وعلا -، لذلك يقول النبي: ((من حلف بغير الله فقد كفر ـ أو ـ أشرك)) رواه الترمذي[5].
ومن اتخذ حروزًا لدفع العين عنه أو جلب النفع له فقد دعا عليه النبي بأن لا يحقق الله له مبتغاه، وبأن يصاب بضد ما قصده، قال - عليه الصلاة والسلام -: ((من تعلق تميمة فلا أتم الله له)) رواه أبو داود[6]، وقد أمسك نبينا عن بيعة من علّق التمائم، يقول عقبة بن عامر: أقبل إلى الرسول رهط، فبايع تسعة وأمسك عن واحد، فقالوا: يا رسول الله، بايعت تسعة وأمسكت عن هذا! قال: ((إن عليه تميمة)) فأدخل يده فقطعها فبايعه، وقال: ((من علق تميمة فقد أشرك)) رواه أحمد[7].
فعند الشدائد والأحزان الجأ إلى الواحد الديان، فنِعم المجيب هو، ومن تعلقت نفسه بالله وأنزل به حوائجه والتجأ إليه وفوض أمره كله إليه كفاه كلَّ سؤله، ويسر له كل عسير، ومن تعلق بغيره أو سكن إلى علمه وعقله وتمائه، واعتمد على حوله وقوته، وكله الله إلى ذلك وخذله، قال في تيسير العزيز الحميد: \"وهذا معروف بالنصوص والتجارب\".
ومن معاول هدم الدين إتيان السحرة والمشعوذين وسؤال الكهان والعرافين، قال - عز وجل -: وَمَا يُعَلّمَانِ مِن أَحَدٍ, حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحنُ فِتنَةٌ فَلاَ تَكفُر [البقرة: 102]، وفي الحديث: ((من أتى عرافًا أو كاهنًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد)) رواه النسائي[8]، ومن سأل السحرة الكيد بالآخرين عاد وبال مكره عليه، قال - تعالى -: وَلاَ يَحِيقُ المَكرُ السَّيّىء إِلاَّ بِأَهلِهِ [فاطر: 43] والظُلمة لا تدفع بالظلمة، ودهماء السحر يُدفع بنور القرآن لا بسحرٍ, مثله، وَنُنَزّلُ مِنَ القُرءانِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحمَةٌ لّلمُؤمِنِينَ [الإسراء: 82].
فحافظ ـ أيها المسلم ـ على عقيدتك، فهي أنفس ما تملك، وأعز ما تدّخر، والشرك يطفئ نور الفطرة، وسبب الشقاء وتسلط الأعداء.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: فَاستَمسِك بِالَّذِى أُوحِىَ إِلَيكَ إِنَّكَ عَلَىا صِراطٍ, مٌّستَقِيمٍ, وَإِنَّهُ لَذِكرٌ لَّكَ وَلِقَومِكَ وَسَوفَ تُسـئَلُونَ [الزخرف: 43، 44].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب فاستغفروهº إنه هو الغفور الرحيم.
----------------------------------------
[1] أخرجه أحمد (2/ 362)، وكذا الترمذي في الدعوات، باب: ما جاء في فضل الدعاء (2370)، وابن ماجه في الدعاء، باب: فضل الدعاء (3829) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، وصححه ابن حبان (13/ 151)، والحاكم (1/ 666)، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي (2684).
[2] أخرجه الحاكم (1/491) عن ابن عباس - رضي الله عنهما - مرفوعًا، وصححه ووافقه الذهبي، ورمز السيوطي لصحته، وحسنه الألباني بمجموع طرقه. السلسلة الصحيحة (1579).
[3] أخرجه أحمد (1/ 293)، والترمذي في صفة القيامة (2516) من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -، وقال: \"حديث حسن صحيح\"، وصححه الحاكم (3/ 541 ـ 542)، وقال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (1/ 460 ـ 461): \"روي هذا الحديث عن ابن عباس من طرق كثيرة...وأصح الطرق الطريق التي أخرجها الترمذي\" وصححه الألباني في صحيح السنن (2043)
[4] أخرجه أبو يعلى (4560) عن عائشة - رضي الله عنها - موقوفًا عليها، ومن طريقه ابن السني في عمل اليوم واليلة (349)، وأخرجه أيضًا أحمد في الزهد (1128)، والبيهقي في الشعب (1119) من كلام عائشة - رضي الله عنها -، وقال الهيثمي في المجمع (10/ 150): \"رجاله رجال الصحيح غير محمد بن عبيد الله بن المنادي وهو ثقة\"، وجود إسناده الألباني في السلسلة الضعيفة (1363).
[5] أخرجه الترمذي في الأيمان والنذور، باب: ما جاء في كراهية الحلف بغير الله (1535) واللفظ له، وكذا أحمد (2/ 125)، وأبو داود في الأيمان والنذور، باب: في كراهية الحلف بالآباء (3251) من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -، وقال الترمذي: \"هذا حديث حسن\"، وصححه ابن حبان (4358)، والحاكم (1/ 65)، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في الصحيحة (2042).
[6] أخرجه أحمد (4/ 154)، وأبو يعلى (1759)، والطبراني في الكبير (17/ 297) وغيرهم من حديث عقبة بن عامر - رضي الله عنه -، وصححه ابن حبان (6076)، والحاكم (4/ 216)، وجود إسناده المنذري في الترغيب (4/ 202)، وقال الهيثمي في المجمع (5/ 103): \"رجالهم ثقات\"، لكن في سنده خالد بن عبيد المعافري لم يرو عنه غير حيوة بن شريح، ولم يوثقه غير ابن حبان، إلا أنه تابعه ابن لهيعة عند ابن عبد الحكم في فتوح مصر (ص 289) فالحديث حسن إن شاء الله.
تنبيه: عزا الحافظ في الفتح (6/ 142) هذا الحديث إلى أبي داود، ولم أقف عليه في سننه المطبوعة، ولا ذكره المزي في تحفة الأشراف.
[7] أخرجه أحمد (4/ 156)، والطبراني في الكبير (17/ 319 ـ 320) والحاكم (4/ 219)، وقال المنذري في الترغيب (4/ 307) والهيثمي في المجمع (5/ 103): \"رواة أحمد ثقات\". وصححه الألباني في الصحيحة (492).
[8] أخرجه البزار (6045 كشف الأستار) من حديث جابر - رضي الله عنهما -، وجوّده المنذري في الترغيب (3/619)، وقال الهيثمي في المجمع (5/117): \"رجاله رجال الصحيح خلا عقبة بن سنان وهو ضعيف\"، وصححه الألباني في غاية المرام (285). وله شواهد منها: حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - وفيه زيارة، أخرجه أحمد (9290، 9536)، وأبو داود في الطب (3904)، والترمذي في الطهارة (135)، والنسائي في الكبرى (9017)، وابن ماجه في الطهارة (639)، والدارمي (1136)، وابن الجارود (107)، والحاكم (1/8)، وقال الترمذي: \"ضعف محمد يعني البخاري هذا الحديث من قبل إسناده\"، ونقل المناوي في الفيض (6/24) تضعيف البغوي وابن سيد الناس والذهبي لهذا الحديث، ووافقهم على ذلك.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا مزيدًا.
أما بعد:
أيها المسلمون، أول ما يحاسب عنه العبد يوم القيامة صلاته، فلا تتهاون بالصلاة مع جماعة المسلمين، ولا تؤثر الكسل على طاعة رب العالمين، ولا تزهد فيما أعده الله للمحافظين عليها من جزيل الأعطيات، وعلى قدر صلة العبد بربه تنفتح له الخيرات.
وتجنب الذنوب والأوزارº فإنها تثقل عليك الطاعات. وفي الدعوة إلى الله إعزازٌ لدين الله، واقتداء بالأنبياء والمرسلين، وهي أحسن القول وأكرمه، وتحسس الداء، وضع الدواء المناسب له، واعرف حال المدعوين وما يحتاجون إليه، وتحمل هم الناس ولا تحمل الناس همومك، وأكثر ـ أيها الحاج ـ من التوبة والاستغفار، فالعبرة بكمال النهاية لا بنقص البداية، وآية قبول الحسنة اتباع الحسنة الحسنة، يقول قتادة - رحمه الله -: \"إن هذا القرآن يدلكم على دائكم ودوائكم، فأما داؤكم فالذنوب، وأما دواؤكم فالاستغفار\"[1]، وهو سبب دخول الجنات وزيادة القوة والمتاع الحسن ودفع البلاء، يقول أبو المنهال: \"ما جاور عبد في قبره من جار أحب من الاستغفار\"[2].
ثم اعلموا أن الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيه فقال في محكم التنزيل: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَـائِكَـتَهُ يُصَلٌّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيٌّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا صَلٌّوا عَلَيهِ وَسَلّمُوا تَسلِيماً [الأحزاب: 56].
اللهم صل وسلم على نبينا محمد...
----------------------------------------
[1] انظر: جامع العلوم والحكم (ص397).
[2] انظر:جامع العلوم والحكم (ص397).
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد