مأزق التعظيم النظري للكلي


 

بسم الله الرحمن الرحيم

مآلات الخطاب المـدني

  

غلاة المدنية يكثرون من ذم الحفاوة بالجزئيات وتفاصيل الشريعة، وحين يناضل الفقيه الشرعي أو المفكر المسلم من أجل مسألة شرعية فإنهم يجابهونه بأننا يجب أن نرتفع عن الجزئيات ونهتم بالكليات، وأن المهم ليس أعيان المسائل وإنما المهم الأصول العامة، وأننا يجب ألا نغرق في الخاص ونهمل العام، ونحو هذه العبارات، وبعضهم يحاول أن يسند هذه الفكرة بنصوص تراثية من علم مقاصد الشريعة حول أهمية \"الكليات الشرعية\" وخصوصاً من رائد المقاصد الإمام الشاطبي - رحمه الله -.

والحقيقة أنه هذه النظرة للعلاقة بين الجزئي والكلي تنطوي على إهدار شئ من معطيات الوحي، بل تحولت إلى آلية منظمة لابتلاع المفردات الشرعية وتغييبها باسم العناية بالكلي والعام ونحوه.

ومن أهم أوجه الخلل في هذه الرؤية أنها غيبت دور الجزئي في حفظ الكلي، فافترضت أن الجزئي نقيض للكلي، والواقع أن الجزئي هو التحقق الواقعي للكلي، فكل تطبيق واقعي يحمل في مضامينه معنى الكلي، إذ الكلي انما هو القدر المشترك المستخلص من استبعاد العارض والطارئ وإبقاء المعنى المشترك.

فإذا عظمنا الكلي وغيبنا تطبيقاته تحول هذا التعظيم إلى تعظيم نظري شكلي لا حقيقة له، ولنضرب على ذلك مثلاً، فإنك تجد بعض الكتاب يقول لك يجب أن نهتم بالفضيلة كقيمة كلية كبرى لا أن نهتم بتطبيقاتها الجزئية، ثم يفتت كل الآليات التي تعزز هذه القيمة ويتسامح في فتح كل الذرائع التي تعارض هذه القيمة، ويدعي بعد ذلك أنه ينظر إلى \"الفضيلة\" كقيمة لا كتطبيقات، فهذا إنما حفاظه على كلي الفضيلة حفاظ نظري شكلاني غير حقيقي.

ومن ادعى تعظيم كلي \"الدعوة والبلاغ\" ولكنه استهان بقيمة أفراد وآحاد وسائل الدعوة الشرعية، فهذا إنما تعظيمه للدعوة تعظيم نظري غير حقيقي.

وعليه فكلما كان الإنسان أكثر تعظيماً لجزئيات الشريعة كان أكثر تعظيماً للكليات الضمنية فيها، وكلما كان الإنسان مستهيناً بجزئيات الشريعة كان أكثر استهانة بالكلي المتضمن فيها، فلا طريق لتعظيم الكلي إلا بتعظيم جزئياته وتطبيقاته، وبذلك يتبين أن دعاوى تعظيم الكلي التي يرددها غلاة المدنية إنما هي وسيلة لتفريغ الكلي من محتواه باسم تعظيمه.

وقد شرح الإمام الشاطبي في كتابه الموافقات \"دور الجزئي في إقامة الكلي\" وذلك في فصل خاص عقده لهذه المسألة وساق فيه الأدلة، ومن ذلك قوله - رحمه الله -:

(فالجزئيات مقصودة معتبرة في إقامة الكلي..، وحين كان ذلك كذلك: دل على أن الجزئيات داخلة مدخل الكليات في الطلب والمحافظة عليها)

ثم أشار الشاطبي إلى كون الكلي إنما هو مجرد \"مفهوم نظري\" ولذلك كان جمهور المناطقة يؤكدون أن الكلي إنما يوجد في الذهن أما ما هو خارج الذهن فإنما هو تطبيقاته، وهذا يعني أن من عظم الكلي دون تطبيقاته فإنما عظم مفهوماً نظرياً ذهنياً محضاً لا واقع فعلياً له، كما يقول الشاطبي في الاستدلال لهذه القضية:

(ومنها: أن الجزئيات لو لم تكن معتبرة مقصودة في إقامة الكلي لم يصح الأمر بالكلي من أصله، لأن الكلي من حيث هو كلي لا يصح القصد في التكليف إليه، لأنه راجع لأمر معقول لا يحصل في الخارج إلا في ضمن الجزئيات، فتوجٌّه القصد إليه من حيث التكليف به توجه إلى تكليف ما لا يطاق، وذلك ممنوع الوقوع، فإذا كان لا يحصل إلا بحصول الجزئيات فالقصد الشرعي متوجه إلى الجزئيات، وأيضا: فإن المقصود بالكلي هنا أن تجرى أمور الخلق على ترتيب ونظام واحد لا تفاوت فيه ولا اختلاف، وإهمال القصد في الجزئيات يرجع إلى إهمال القصد في الكلي، فإنه مع الإهمال لا يجري كلياً)

ومن وجه آخر فإن المتأمل في أخبار أهل الكتاب التي ساقها الله في القرآن يلاحظ أن أهل الكتاب كانوا يعظمون ويقدسون كتبهم السماوية، ومع ذلك فإن الله - سبحانه وتعالى - ذمهم وعابهم، لأن تعظيمهم وتقديسهم لتلك الكتب السماوية إنما كان تقديساً نظرياً وتعظيماً شكلانياً لا حقيقة له ولا أثر تطبيقي فعلي، فلم ينفعهم ذلك.

فليس المراد إذن \"تقديس النص\" شكلياً، أو تقديس المفاهيم نظرياً، وإنما إقامة الحقائق والمعاني واقعاً حياً معاشاً.

ولذلك روى أحمد وغيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين قال لأصحابه: (يوشك أن يرفع العلم)قال له زياد بن لبيد: يا رسول الله، وكيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن ونُقرئه أبناءنا، ويُقرئه أبناؤنا أبناءهم إلى يوم القيامة؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:

(ثكلتك أمك يا ابن لبيد! إن كنت لأراك من أفقه أهل المدينة، أوليست التوراة والإنجيل بأيدي اليهود والنصارى، فما أغنى عنهم حين تركوا أمر الله، ثم قرأ: وَلَو أَنَّهُم أَقَامُوا التَّورَاةَ وَالإنجِيلَ)

فكشف النبي - صلى الله عليه وسلم - للصحابي الجليل زياد بن لبيد -وهو أنصاري مهاجري- أن القضية ليست في وجود النص وحفظ ألفاظه، وإنما في إقامته واقعاً حياً معاشاً على الأرض، وإقامته لا تكون إلا بإقامة تفاصيله وتطبيقاته.

والمقصود أن مراعاة الجزئي هي الطريق لإقامة الكلي، وإنما يعاب الجزئي إذا صادم الكلي، أما إذا لم يصادمه ولم يعارضه فإن إهدارَه إهدارٌ للكلي كما سبق بيانه.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply