سبل الشيطان في إغواء الإنسان


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الخطبة الأولى

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

أيها المؤمنون، يقول الله - سبحانه وتعالى - في كتابه الكريم: (وَإِن يَدعُونَ إِلاَّ شَيطَانًا مَّرِيدًا لَّعَنَهُ اللّهُ وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِن عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفرُوضًا وَلأُضِلَّنَّهُم وَلأُمَنِّيَنَّهُم وَلآمُرَنَّهُم فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنعَامِ وَلآمُرَنَّهُم فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلقَ اللّهِ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللّهِ فَقَد خَسِرَ خُسرَانًا مٌّبِينًا يَعِدُهُم وَيُمَنِّيهِم وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيطَانُ إِلاَّ غُرُورًا)[النساء: 117-120].

 

أيها المؤمنون، ذكر الله - تعالى -في هذه الآيات سبل الشيطان في إغواء بني آدم، فإنه أقسم بربه ليغوينهم أجمعين إلا من كان منهم من المخلصين، كما قال - تعالى -: (قَالَ رَبِّ بِمَا أَغوَيتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُم فِي الأَرضِ وَلأُغوِيَنَّهُم أَجمَعِينَ إِلا عِبَادَكَ مِنهُمُ المُخلَصِينَ قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُستَقِيمٌ إِنَّ عِبَادِي لَيسَ لَكَ عَلَيهِم سُلطَانٌ إِلا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الغَاوِينَ)[الحجر: 39-42]. وسبل الشيطان في إغواء الإنسان المذكورة في هذه الآيات أربع هي:

الإضلال عن الصراط المستقيمº ضلالا في العلم، وضلالا في العمل، فضلال العلم أن يعلم الحق فلا يعمل به، أو يعلم علما باطلا وينسبه إلى الله ورسوله، كما هو حال علماء السوء، وضلال العمل العمل بغير علم، والعمل بما لم يأذن الله به ولا رسوله والإحداث في الدين، وهذه هي طريق المغضوب عليهم والضالين من اليهود والنصارى الذين أمرنا الله - تعالى -أن نسأله مجانبة طريقهم في كل صلاة بقولنا: (اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِم غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِم وَلا الضَّالِّينَ)[الفاتحة: 6، 7].

 

الأماني الكاذبة مع الإضلال، يمنيهم أن ينالوا ما ناله المهتدون، وهذا هو الغرور بعينه، فلم يقتصر على مجرد إضلالهم حتى زين لهم ما هم فيه من الضلال، وهذا زيادة شر إلى شرهم، حيث عملوا أعمال أهل النار الموجبة للعقوبة، وحسبوا أنها موجبة للجنة.

 

واعتبِر ذلك باليهود والنصارى ونحوهم، فإنهم على كفرهم وضلالهم يقولون: (لَن يَدخُلَ الجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَو نَصَارَى)[البقرة: 111]، فرد الله عليهم فقال: (تِلكَ أَمَانِيٌّهُم قُل هَاتُوا بُرهَانَكُم إِن كُنتُم صَادِقِينَ)[البقرة: 111].

 

فيا أيها المؤمن، هذه أمنية الكفار أهل النار من المغضوب عليهم والضالين، فما هي أمنيتك وغايتك؟! وا أسفا أن تكون غاية بعض المسلمين الدنيا وشغفه بها أعظم من شغفه بالآخرة. لو قيل لك: تموت فماذا تكون أمنيتك؟! روى الحاكم في المستدرك عن عمر أنه قال لأصحابه: تمنوا، فقال بعضهم: أتمنى لو أن هذه الدار مملوءة ذهبا أنفقه في سبيل الله وأتصدق، وقال رجل: أتمنى لو أنها مملوءة زبرجدا وجوهرا فأنفقه في سبيل الله وأتصدق، ثم قال عمر: تمنوا، فقالوا: ما ندري يا أمير المؤمنين، فقال عمر: أتمنى لو أنها مملوءة رجالا مثل أبي عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل وسالم مولى أبي حذيفة وحذيفة بن اليمان - رضي الله عنهم -.

 

فاحذر ـ أيها المسلم ـ أماني الشيطان. إن أحدنا ليعمل الذنب فلا يزال به الشيطان يحسنه له ويهونه عليه حتى يرى نفسه لم يعمل شيئا، ويستحوذ الشيطان على أناس ويزين لهم الباطل حتى يرى أحدهم نفسه أن قد عمل صالحا يثاب عليه، وهذا غاية الخسران عياذا بالله، قال الله - تعالى -: (قُل هَل نُنَبِّئُكُم بِالأَخسَرِينَ أَعمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعيُهُم فِي الحَيَاةِ الدٌّنيَا وَهُم يَحسَبُونَ أَنَّهُم يُحسِنُونَ صُنعًا)[الكهف: 103، 104]، وقال - تعالى -: (أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلٌّ مَن يَشَاء وَيَهدِي مَن يَشَاء فَلا تَذهَب نَفسُكَ عَلَيهِم حَسَرَاتٍ, إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصنَعُونَ)[فاطر: 8].

 

ومن أماني الشيطان الكاذبة أن يزين للعاصي ترك التوبة والتسويف فيها، فلا يزال يقول: أتوب غدا أو بعد غد حتى يفجأه الموت ويختم له بالسوء، وقال - تعالى -: (وَلَيسَتِ التَّوبَةُ لِلَّذِينَ يَعمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ المَوتُ قَالَ إِنِّي تُبتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُم كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعتَدنَا لَهُم عَذَابًا أَلِيمًا)[النساء: 18]. فاحذر ـ أيها العاصي ـ من التسويف وتأخير التوبة من الذنوب والمعاصي، فإن أحدنا لا يدري متى يأتيه الأجل، (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيٌّهَا المُؤمِنُونَ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ)[النور: 31].

 

الخطبة الثانية

أما السبيل الثالث من سبل الشيطان فهو تحريضه الإنسان على تحريم الحلال وتحليل الحرام بأدنى الحيل، كما زين للمشركين قطع آذان الأنعام وتسميتها بالبحيرة والسائبة ونحوها من الأسماء، حتى حرموا على أنفسهم أكل لحمها وشرب لبنها وركوبها بغير حجة من الله - تعالى -.

واليوم كم من الناس من يعمل المعاصي ويدعي حلها، وتجده في جانب آخر يتورع عن أمور فلا يأتيها يرى أنها من المنهيات، وليس على ذلك أثارة من علم. كم من الناس اليوم من يسمي الربا فائدة والخمر بالمشروب الروحي والزنا حرية شخصية والاختلاط بين الرجال والنساء حضارة ومخالطة النساء نزاهة وصفاء قلب.

 

روى الشيخان عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - أنه سمع رسول الله يقول عام الفتح وهو بمكة: ((إن اللَّه ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام))، فقيل: يا رسول اللَّه، أرأيت شحوم الميتة؟! فإنها يُطلَى بها السفن، ويُدهَنُ بها الجلود، وَيَستَصبِحُ بها الناس، فقال: ((لا، هو حرام)). ثم قال رسول اللَّه عند ذلك: ((قاتل اللَّه اليهودº إن اللَّه لما حرم شحومها جَمَلُوهُ ثم باعوه فأكلوا ثمنه)). فالحيل على شرع الله من صفات اليهود لعنهم الله. فاحذر ـ أيها المسلم ـ مشابهتهم.

وأما السبيل الرابع من سبل الشيطان فهو تغيير خلق الله. قال العلامة السعدي - رحمه الله -: \"وهذا يتناول الخلقة الظاهرة بالوشم والوشر ـ وهو تحديد الأَسنان وترقيق أَطرافها، تفعله المرأَة الكبيرة تتشبه بالشواب ـ والنمص والتفليج للحسن، أي: النساء اللاتي يَفعَلنَ ذلك بأَسنانهن رغبة في التحسين ونحو ذلك، مما أغواهم به الشيطان، فغيروا خلقة الرحمن، وذلك يتضمن التسخط من خلقته والقدح في حكمته واعتقاد أن ما يصنعونه بأيديهم أحسن من خلقة الرحمن، وعدم الرضا بتقديره وتدبيره.

 

ويتناول أيضا تغيير الخلقة الباطنةº فإن الله - تعالى -خلق عباده حنفاء مفطورين على قبول الحق وإيثاره، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن هذا الخلق الجميل، وزينت لهم الشر والشرك والكفر والفسوق والعصيان، فإن كل مولود يولد على الفطرة، ولكن أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، ونحو ذلك مما يغيرون به ما فطر الله عليه العباد من توحيده وحبه ومعرفته.

فافترستهم الشياطين في هذا الموضع افتراس السبع والذئاب للغنم المنفردة، ولولا لطف الله وكرمه بعباده المخلصين لجرى عليهم ما جرى على هؤلاء المفتونين، فخسروا الدنيا والآخرة، ورجعوا بالخيبة والصفقة الخاسرة. وهذا الذي جرى عليهم من توليهم عن ربهم وفاطرهم وتوليهم لعدوهم المريد لهم الشر من كل وجه، ولهذا قال: (وَمَن يَتَّخِذ الشَّيطَانَ وَلِيًّا مِن دُونِ اللَّهِ فَقَد خَسِرَ خُسرَانًا مُبِينًا)[النساء: 119]\".

 

أيها الناس، إن الشيطان ليكيد بالإنسان ليهلكه، فاعتصموا بالله واستعيذوا به يعذكم، ولا يظنن أحدنا أنه في سلامة من كيد الشطان، فإن رسول الله لم يكد يسلم من كيدهم لولا حفظ الله له - سبحانه -، وقد روى الإمام أحمد في المسند عن أبي التياح قال: قلت لعبد الرحمن بن خنبشٍ, التميمي وكان كبيرا: أدركت رسول الله؟ قال: نعم، قال: قلت: كيف صنع رسول الله ليلة كادته الشياطين؟ فقال: إن الشياطين تحدرت تلك الليلة على رسول الله من الأودية والشعاب، وفيهم شيطانٌ بيده شعلة نارٍ, يريد أن يحرق بها وجه رسول الله، فهبط إليه جبريل - عليه السلام - فقال: يا محمد، قل ما أقول، قال: قل: أعوذ بكلمات الله التامة من شر ما خلق وذرأ وبرأ، ومن شر ما ينزل من السماء، ومن شر ما يعرج فيها، ومن شر فتن الليل والنهار، ومن شر كل طارقٍ, إلا طارقا يطرق بخيرٍ, يا رحمن، قال: فطفئت نارهم وهزمهم الله تبارك وتعالى.

فاللهم أعذنا من شر الأشرار وكيد الشيطان وطوارق الليل والنهار إلا طارقا يطرق بخير يا رحمن .

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply