موقف المؤمن من الزلازل


 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الخطبة الأولى:

أمّا بعد: فيا عبادَ الله، اتَّقوا الله الذي لَه مَقاليد السمواتِ والأرض، واذكُروا أنَّكم موقوفون بين يديه في يومٍ, تشخَص فيه الأبصار، يَومَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعذِرَتُهُم وَلَهُم اللَّعنَةُ وَلَهُم سُوءُ الدَّارِ [غافر: 52]. فأعدّوا ـ يا عبادَ الله ـ لهذا اليومِ عدَّته، ولا تغرّنّكم زهرةُ الحياة الدنيا وزينتُها وطول المقام بها، ولا يغرّنّكم بالله الغَرور.

 

أيّها المسلمون، إنّ من تقدير الله - تعالى - الحكيمِ الخبير أن حجبَ العلم بوقتِ قيامِ الساعة عن جميعِ خَلقه، واختصَّ بِهِ وجعَله مِن غيبِه الذي لم يظهِر عليه ملكًا مقرَّبًا ولا نبيًّا مرسلاً كما قال - سبحانه -: {يَسأَلُونَكَ عَن السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرسَاهَا قُل إِنَّمَا عِلمُهَا عِندَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَت فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرضِ لا تَأتِيكُم إِلاَّ بَغتَةً يَسأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيُّ عَنهَا قُل إِنَّمَا عِلمُهَا عِندَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكثَرَ النَّاسِ لاَ يَعلَمُونَ} [الأعراف: 187]، وقال عزَّ من قائِل: {يَسأَلُكَ النَّاسُ عَن السَّاعَةِ قُل إِنَّمَا عِلمُهَا عِندَ اللَّهِ وَمَا يُدرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا} [الأحزاب: 63]، وقال - تعالى -: {وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرضِ وَمَا بَينَهُمَا وَعِندَهُ عِلمُ السَّاعَةِ وَإِلَيهِ تُرجَعُونَ} [الزخرف: 85].

 

غيرَ أنَّ النبيَّ أخبر بما جاءَه من ربِّه، أخبر عن أماراتِها وأشراطِها، وهي العلاماتُ الدّالّة على قربِ وقوعِها ودُنُوِّ زَمانها، فكان وقوعُ هذه الأخبار النبويّة الصادقة دليلاً مِن دلائل نبوّته وعلَمًا من أعلامها وآية بيّنةً على صِدقِه صلوات الله وسلامُه عليه فيما أخبر به عن ربِّه.

 

ولقد كان مما أخبرَ به من أشراط الساعة كثرةُ الزلازل التي تكون في آخرِ الزّمان كما جاء في الحديث الذي أخرجَه البخاريّ في صحيحه وابن ماجه في سننه[1]، ولا ريبَ أنَّ في هذه الزلازل ـ يا عبادَ الله ـ منَ الرّزايا والبلايا والآلام النّاشئة عن نقصِ الأموال والأنفسِ والثّمرات وخرابِ العمران ما لا يأتي عليه الحَصر ولا يستوعِبه البيان، غيرَ أنها لا تخلُو مع ذلك من آثارِ رحمةِ الله بعباده وكريمِ عِنايتِه بهم وعظيمِ إِحسانه إليهم، وقد جاءَ بيان هذه الحقيقةِ وإيضاحُ هذا المعنى في الحديثِ الذي أخرجه الإمام أحمدُ في مسنده وأبو داودَ في سننه والحاكم في مستدركِه بأسانيدَ بعضُها حِسان وبعضُها وصِحاح عن أبي موسى الأشعريّ - رضي الله عنه - عن رسولِ الله أنه قال: (أمّتي هذه أمّةٌ مرحومة، ليس عليها عذابٌ في الآخرة، عذابُها في الدنيا الفِتَن والزّلازل والقتل))[2].

 

وهذا الحديث ـ كما قال أهل العلم ـ واردٌ في الثناء على هذه الأمّة ومدحِها باختصاصها بهذه الفضيلةِ الدالّة على عنايته - سبحانه - ورحمتِه بها وإتمامِه النعمةَ عليها برفعِ الآصارِ والأغلال التي كانت على الأممِ مِن قبلهاº مِن قتلِ النّفس في التوبة وقرضِ النجاسة من الثياب وتحريمِ الأكل منَ الغنائم، ومعناه أنَّ غالبَ أفراد هذه الأمّة مجزيُّ بأعماله في الدنيَا بالمحنِ والأمراض والرزايَا التي منها الزلازلُ تكفيرًا وتَطهيرًا، كما جاء في الحديث الآخر الذي أخرجه الشيخان في صحيحَيهما عن أبي هريرةَ وأبي سعيد الخدريّ - رضي الله عنهما - أنَّ النبي قال: ((ما يصيب المسلمَ من نصبٍ, ولا وصَب ولا همٍّ, ولا حزن ولا أذى ولا غمٍّ, حتى الشوكة يُشاكها إلاّ كفَّر الله بها من خطاياه))[3]، والنّصَب التعَب، والوَصَب المرض، وفي صحيح البخاريِّ أيضًا عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - عن رسولِ الله أنه قال: ((من يرِدِ الله بِه خيرًا يصِب منه))[4]، أي: ينزل به مِن ألوانِ المصائب ما يكون كفّارةً لذنوبه إذا صبَر واحتسب، أمّا أهل الكبائر من أهلِ التوحيد الذين ماتوا على غيرِ تَوبة فهم تحت مشيئةِ الله - تعالى -، إن شاء عذّبهم، وإن شاء غفَر لهم، لقوله - سبحانه -: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغفِرُ أَن يُشرَكَ بِهِ وَيَغفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ الآية} [النساء: 48]، كما هو مقرَّر في معتقَد أهل السنة والجماعة.

 

ألا وإنَّ المسلِمَ اللبيب ليقِف أمامَ هذه النوازل موقفَ التفكٌّر والاعتبار بتذكٌّر قوّةِ ربِّه الأعلى وقدرتِه - سبحانه -، تلك القوة والقدرة التي لا تماثِلُها أيٌّ قوّةٍ, أخرَى مهما بَلغت من السطوةِ ومهمَا حازت من أسبابِ التمكينِ في الأرض، فلا عجبَ أن وصف ربٌّنا نفسَه بالقويِّ فقال عزّ من قائل: {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيُّ عَزِيزٌ} [الحج: 74]، وقال- تبارك وتعالى -: {كَتَبَ اللَّهُ لأَغلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيُّ عَزِيزٌ} [المجادلة: 21]، وقال - جل وعلا -: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو القُوَّةِ المَتِينُ} [الذاريات: 58].

 

فإذا استقرَّ هذا المعنى في قلبِ العبد أورَثَه خوفًا من ربِّه وتعظيمًا وإجلالاً له وخُضوعًا وإِخباتًا وإنابة إليه ومحبّةً ورجاء لما عنده وطاعةً له ونُفرةً مِن معصيتِه.

 

ثم إنَّ افتقارَ العبد إلى كمال اللّجوءِ إلى اللهِ - تعالى - بدعائِه والتضرٌّع إليه وكثرةِ ذِكره واستغفاره والإحسان إلى عبادِه بالصّدَقات وبسائر ألوانِ البِرِّ الأخرى التي يعمٌّ نفعُها، كلٌّ هذا دائمٌ متأكِّد في كلِّ الأوقات، لكنّه في وقت الشدائدِ أعظم تأكٌّدًا، مع لزوم المحافظةِ على الصحيحِ الثابت من أذكارِ الصباح والمساءِ لما فيها من تحصٌّنٍ, واستعاذةٍ, بالله - تعالى -واحتماءٍ, بسلطانه القويِّ الأعلى مِن جميع الشرور والآفات ومِن طوارِقِ الليل والنهار.

 

ولا ريبَ أيضًا أنَّ قِيامَ المسلمين بنَجدةِ المنكوبِين وإغاثةِ الملهوفِين ومَسح البؤسِ عن جبين البائِسين ممن نزَلت بهم هذه النوازلُ وحلَّت بديارِهم هذه الزلازل هو من أفضلِ الأعمال وأزكاها عند الله تعالىº لأنها مِن صنائعِ المعروف التي بيَّن رسولُ الله حُسنَ العاقبة فيها بقوله في الحديثِ الذي أخرجه الحاكم في مستدركِه بإسنادٍ, صحيح عن أنسٍ, - رضي الله عنه - أنّه صلوات الله وسلامه عليه قال: ((صنائِعُ المعروف تقِي مصارعَ السّوء والآفاتِ والهلَكات، وأهلُ المعروف في الدنيا هم أهلُ المعروف في الآخرة))[5]، كما أنها دليلٌ على الاتِّصافِ بصفة الرّحمة التي أوضح رسول الله ما لِصاحبها عندَ ربِّه بقوله: ((الرّاحمون يرحمهم الرحمن تبارك وتعالى، ارحَموا من في الأرض يرحَمكم من في السماء)) أخرجه أحمد في مسنده وأبو داودَ في سننه والحاكم في مستدركِه بإسنادٍ, صحيح من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما[6]، وفي الصحيحَين من حديث أسامة بنِ زيدٍ, - رضي الله عنه - عن رسولِ الله أنه قال: ((إنما يرحَم الله من عباده الرّحَماء))[7]، وفي الصحيحين أيضًا عن جريرِ بنِ عبد الله - رضي الله عنه - أنَّ رسولَ الله قال: ((من لا يرحَم النّاسَ لا - يرحمه الله -))[8]، وأخرج أبو داودَ والترمذيّ في سننهما وابن حبّان في صحيحه والحاكم في مستدرَكه بإسنادٍ, صحيح عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - عن رسولِ الله أنّه قال: ((لا تنزَع الرحمةُ إلاّ من شقيٍّ,))[9]، وصدَق - سبحانه - إذ يقول: {وَلا تُفسِدُوا فِي الأَرضِ بَعدَ إِصلاحِهَا وَادعُوهُ خَوفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِن المُحسِنِينَ} [الأعراف: 56].

نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وبسنة نبيه، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله كاشِفِ الغمِّ وفارِجِ الهمِّ، مجيبِ دعوة المضطرّين، أحمده - سبحانه - يثيب الصابرين ويجزِي الشاكرين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أنّ سيّدنا ونبيَّنا محمّدًا عبد الله ورسوله قدوةُ الصالحين وإمام المخبِتين، اللّهمّ صلِّ وسلِّم عليه وعلى آله الطاهرين وصحبه الطيبين والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ, إلى يوم الدين.

 

أمّا بعد: فيا عبادَ الله، إنَّ صدقَ الالتجاء إلى الله - تعالى - هو كَمالَ الضراعة إليه وحُسنَ التوكّل عليه لا ينافي اتخاذَ الأسباب التي يُرجَى بها بفضلِ الله - تعالى - دفعُ المكروه ودَرء الشرّ وذَودُ الخطَر والتخفيف من آثارِ المصائبِ والبلاء الناجِمِ عن هذه الزلازل وأمثالِها من البأساءِ، كاستعمالِ أَجهزَةِ الإنذارِ المبَكِّر مثلاً وما في معناها مِن أجهزةٍ, ووَسائل عِلميّةº لأنَّ كلَّ ذلك من نِعَم الله التي هيّأها لعبادِه وهداهم إليها، فإنّه - سبحانه - علّم الإنسان ما لم يعلَم، ولا يفِرّ المسلم من قدر الله إلاّ إلى قدَرِ الله كما قال أمير المؤمنين الفاروقُ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لأبي عبيدةَ بن الجرّاح - رضي الله عنه - حين عجِبَ من نهيِ عمرَ - رضي الله عنه - عن دخولِ البلاد التي تفشَّى فيها الطّاعون فقال: أفرارًا من قدَر الله يا أميرَ المؤمنين؟! فأجابه الفاروق - رضي الله عنه - قائلاً: لو غيرُك قالها يا أبا عبيدة! نعم، نفِرّ مِن قدَر الله إلى قدَر الله، أرَأيتَ لو كانت لك إبلٌ فهبَطت واديًا له عُدوَتان: إحداهما خَصيبةٌ والأخرى جدِبة، أليس إن رعيتَ الخصيبةَ رعَيتها بقدر الله، وإن رعيتَ الجدِبةَ رعَيتها بقدر الله؟! فجاء عبد الرحمن بنُ عوف ـ وكان متغيِّبًا في بعض حاجته ـ فقال: إنَّ عندي من هذا علمًاº سمعتُ رسول الله يقول: ((إذا سمِعتم به ـ أي: بالطاعون ـ بأرضٍ, فلا تقدَموا عليه، وإذا وقع بأرضٍ, وأنتم بها فلا تخرجوا فرارًا منه))، فحمِدَ الله عمرُ بن الخطاب - رضي الله عنه -، ثمّ انصرف. أخرجه الشيخان في صحيحيهما وهذا لفظُ مسلِم - رحمه الله -[10].

فاتقوا الله عبادَ الله، واقتدوا بالصّفوةِ مِن عِباد الرحمن في كمالِ اللّجوء إلى اللهِ - تعالى -والتوكّلِ عليه وشدّةِ الضراعةِ والإنابة إليه، مع اتِّخاذِ الأسباب التي هيَّأها الله لكم وهدَاكم إليها بمنِّه وكرمه وعظيم إحسانه.

واذكروا على الدّوامِ أنَّ الله - تعالى - قد أمَركم بالصّلاة والسّلام على خاتم النبيين وإمام المتقين ورحمة الله للعالمين، فقال - سبحانه - في الكتاب المبين: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلٌّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلٌّوا عَلَيهِ وَسَلِّمُوا تَسلِيمًا} [الأحزاب: 56].

اللّهمّ صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمّد، وارضَ اللّهمّ عن خلفائه الأربعة...

 

----------------------------------------

[1] صحيح البخاري: كتاب الفتن (7121) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.

[2] مسند أحمد (4/410، 418)، سنن أبي داود: كتاب الفتن (4278)، مستدرك الحاكم (7649، 8372)، وأخرجه أيضا البزار (3090، 3099)، وأبو يعلى (7277)، والروياني (505)، والطبراني في الأوسط (4055)، والبيهقي في الشعب (7/148)، وحسنه ابن حجر في بذل الماعون (127)، وهو في السلسلة الصحيحة (959).

[3] صحيح البخاري: كتاب المرضى (5642)، صحيح مسلم: كتاب البر (2573).

[4] صحيح البخاري: كتاب المرضى (5645).

[5] مستدرك الحاكم (1/124)، ورمز له السيوطي بالصحة، وصححه الألباني في صحيح الجامع (3795).

[6] مسند أحمد (2/160)، سنن أبي داود: كتاب الأدب (4941)، مستدرك الحاكم (4/159)، وأخرجه أيضا الترمذي في كتاب البر (1924)، وقال: \"حديث حسن صحيح\"، وصححه ابن حجر في الفتح (3/158)، وهو في السلسلة الصحيحة (925).

[7] صحيح البخاري: كتاب التوحيد (7448)، صحيح مسلم: كتاب الجنائز (923).

[8] صحيح البخاري: كتاب التوحيد (7376)، صحيح مسلم: كتاب الفضائل (2319).

[9] سنن أبي داود: كتاب الأدب (4942)، سنن الترمذي: كتاب البر (1923)، صحيح ابن حبان (462، 466)، مستدرك الحاكم (7632)، ورواه أيضا أحمد (2/301، 442، 461، 539)، والبخاري في الأدب المفرد (374)، وأبو يعلى (6141)، والطبراني في الأوسط (2453)، والبيهقي في الكبرى (8/161)، وقال الترمذي: \"هذا حديث حسن\"، وصححه ابن تيمية كما في المجموع (6/117)، وهو في صحيح الترغيب (2261).

 [10] صحيح البخاري:كتاب الطب (5728، 5729، 5730)، صحيح مسلم: كتاب السلام (2219).

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply