على أبواب الإجازة


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الخطبة الأولى:

أمّا بعد: فيا عبادَ الله، اتَّقوا الله وراقِبوه، واعلَمُوا أنكم ملاقوه، فأعدٌّوا لهذا اللقاءِ عدَّته من قبلِ أن يأتي يوم لا بيعٌ فيه ولا خِلال.

أيّها المسلمون، في غَمرةِ الغفلةِ ينسَى فريقٌ من النّاس أنَّ مِن نِعمِ الله السابغةِ نعمةَ الفراغِ مِن الشّغل، ذلك الفراغُ الذي ينقطِع به كَدٌّ المرءِ ونَصبُه بانتهائه مِن أداء ما كان واجبًا عليه، وإنَّ الغفلةَ عَن هذه النعمةِ يُفضي إلى إضاعتِها وعدمِ رعايتها حقَّ رعايتها، فتكون العاقبة نقصانًا وخُسرانا بضياعِ فُرصَ العمُر وتبدٌّد أسباب الرِّبح، وذلك هو الغَبن الذي بيَّنه رسولُ الله في الحديثِ الذي أخرجَه البخاريّ في صحيحه والترمذي وابن ماجه في سننهما عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنّ النبيَّ قال: ((نعمتان مغبُونٌ فيهما كثير من الناس: الصحةُ والفراغ))[1].

ولذا جاء التوجيهُ النبويّ الكريم باغتنام نعمةِ الفراغِ في قولِه: ((اغتنِم خمسًا قبلَ خمس: حياتَك قبل موتك، وصحَّتك قبل سَقَمك، وفراغَك قبل شُغلك، وشبابَك قبل هَرَمك، وغِناك قبل فقرك)) أخرجه الحاكم والبيهقي بإسناد صحيح[2].

عبادَ الله، وأَولى مَن يُوجَّه إليه هذا الخطابُ ـ يا عباد الله ـ هم الشبابُ الذين يستقبِلون أيامَ إجازتهم التي أظلَّهم زمانُها، وكذلك من يقوم على شؤونهم من الآباءِ والأمَّهات والمربِّين وأمثالهم، ممَّن يدركُ قدرَ هذه النعمة، ويعلم أيضًا أنّ نفسَ الإنسان التي بين جنبيه إن لم يشغَلها بالحق شَغلته بالباطل كما قال الإمام الشافعي - رحمه الله -[3]، ولذا كان لِزامًا عليهم التخطيطُ المحكَم من أجلِ كمال الانتفاعِ بهذه الإجازةِ بصرفِ الطاقات واستثمار الأوقاتِ في كلِّ ما يَحِلّ ولا يحرم وينفعُ ولا يضرّ ويُحمَد ولا يُعاب، من أنشطةٍ, علميّة وتربوية وخيرية وكشفيّة ورياضيّة وترفيهيّة، ومن سَفرٍ, مُباح هادفٍ, نظيفٍ, سالم من إضاعةِ المال منزَّهٍ, عن قصدِ الفخر والخُيلاء، ومِن عناية بالأقربين الذين قد تكونُ الشواغِل والصوارفُ سببًا في القُعود عن أداءِ ما يجب لهم من برٍّ, وصِلة.

 

عبادَ الله، إنَّ هذا التخطيطَ الهادفَ للانتفاع بفُرصة ونعمةِ الفراغ هو سَببٌ قويّ من أسبابِ حِفظ الوقت الذي هو العُمُر حتى لا تُطوَى صحائفُ الأعمال ولم يُكتَب فيها من الخيرِ ما يسُرٌّ صاحبَه ويرتفِع بمقامه عند ربِّه في يوم لا ينفع فيه مالٌ ولا بنون، وهو أيضًا باعثٌ على حفظِ الشّباب من أن يغدُوَ مِعوَل هدمٍ, في بناءِ مجتمعه وأمَّته حين تُترَك فرصةُ الاستِحواذِ عليه متاحةً للأعداءِ من أهل الشُبهات والشّهوات، الَّذِينَ ضَلَّ سَعيُهُم فِي الحَيَاةِ الدٌّنيَا وَهُم يَحسَبُونَ أَنَّهُم يُحسِنُونَ صُنعًا [الكهف: 104]، هنالك يعظُم الخسران، وتستبينُ صورةُ الغَبن الذي أخبر عنه رَسول الله، تستبين صورتُه جليَّة بيِّنة.

 

ألا فاتقوا الله عبادَ الله، واعمَلوا على كلِّ ما تحفَظون به أوقاتَ شبابِ هذه الأمّة، وتستثمرون به نعمةَ فراغهم في هذه الإجازة التي غدَت منَّا قابَ قوسين أو أدنى. وإنها ـ يا عبادَ الله ـ لأمانةٌ أفلَح من حفِظها وأدّاها على وجهها وراقب الله فيها.

 

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: \" يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُم وَأَنتُم تَعلَمُونَ \" [الأنفال: 27].

نفعني الله وإيّاكم بهدي كتابه وبسنة نبيه، أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله الوليِّ الحميد، الفعَّالِ لما يريد، أحمدُه - سبحانه -، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهَد أنّ سيّدنا ونبيّنا محمّدًا عبد الله ورسوله وخيرتُه من خلقه، اللهمّ صلِّ وسلِّم عليه وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان.

أمّا بعد: فيا عبادَ الله، إنَّ ظنَّ بعضِ الناس أنَّ الإجازةَ سببٌ لغضِّ الطرف عن سلوكِ أبنائهم وإغماضِ الأجفان عن مراقَبتهم بتركِهم يفعلون ما يشاؤون بعيدًا عن الإشرافِ والتوجيه الحكيمِ مِن الوالدين هو خطأٌ فادِح يقع فيه مَن يتناسى أنه رَاعٍ, وأنّه مسؤول عن رعيته كلَّ حين، وأنه لا فرقَ في هذه المسؤولية بينَ وقتِ الإجازة وبين غيره مِن الأوقات، بل إنَّ هذه المسؤوليةَ هي أشدٌّ تأكٌّدًا في هذا الوقتِ لما يغلب فيه من أسباب المخاطِر، ولما يكثُر فيه من ألوان المزالق.

ألا فاتقوا الله عبادَ الله، وكونوا أعظمَ عونٍ, لأبنائكم وبناتكم في سعيهم إلى كلِّ خير في العاجلة والآجلة.

واذكروا على الدّوام أنّ الله قد أمركم بالصلاة والسلام على خير الأنام، فقال في أصدق الحديث وأحسن الكلام: \" إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلٌّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلٌّوا عَلَيهِ وَسَلِّمُوا تَسلِيمًا \" [الأحزاب: 56].

اللهمّ صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمّد، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة..

 

---------------------------------------

[1] صحيح البخاري: كتاب الرقاق (6412).

[2] مستدرك الحاكم (4/ 306) من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - وقال: \"صحيح على شرط الشيخين\"، ولم يتعقبه الذهبي، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (3355)، لكن ذكر له البيهقي في الشعب علّة (7/263) وهي أن الصحيح أنه من رواية عمرو بن ميمون الأودي مرسلاً، كذا أخرجه ابن المبارك في الزهد (ص2)، وابن أبي شيبة في المصنف (7/77)، والبغوي في شرح السنة (4022)، وصحح إسناده الحافظ في الفتح (11/235).

[3] انظر: مدارج السالكين (3/129).

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply