وقفات للمحاسبة مع نهاية الإجازة


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 الخطبة الأولى:

 أما بعد:

فيا عباد الله: اتقوا الله - تعالى - وقدموا لأنفسكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال، وإنما هي الأعمال توزن ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون.

أيها المسلمون:

ألم تروا إلى التاجر الأريب كيف يقف بين الفينة والفينة متأملاً سير تجارته، متفحصاً مبلغ ربحه وخسارته، متفكراً في أسباب ذلك، باحثاً عن بواعثه، كلِفاً بعوامل رقيه، حذراً من تقهقره وتدهوره.

 

إنه مثل كل عبد يقظٍ, من عباد الله، يجعل لنفسه وهو يسعى في حياته الدنيا ويقطع مراحلها: وقفات يقفها عقب كل شوط من أشواطها، وعند نهاية كل مرحلة من مراحلها، فيرسل نظرات فاحصة متأملة في كل ما يصدر عنه: من الأقوال والأعمالº فيحاسبها أدق الحساب، ويعاتبها أكمل العتاب، وإن لوقفة المحاسبة التي يقفها أولو الألباب مع أنفسهم فوائد عزيزة لا يحدها حد.

 

فمن فوائد هذه الوقفة المحكمة: وقوف المرء على مواضع الخلل، ومواطن الزلل، وجوانب الإحسان، ومناحي الإتقان، والعمل من بعد ذلك على إنشاء خطة رشد لمنهج سير وسبيل عمل يأخذ به الإنسان نفسه في مستقبل الأيام.

 

ولا عجب إذن أن كان لنهج المحاسبة مكانه البارز، ومقامه العلي في حياة السلف رضوان الله عليهم، تجلى في عملهم به وحثهم عليه وترغيبهم فيه، فهذا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول: (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا) [رواه الترمذي ح (2459)].

 

وهذا الحسن البصري - رحمه الله - يقول: \"المؤمن قوّام على نفسه يحاسبها لله، وإنما شقّ الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة\"، ثم يبين - رحمه الله - حقيقة هذه المحاسبة عقب الأعمال: بأن المؤمن يفرط منه الشيء فيرجع إلى نفسه يقول: ماذا أردت بهذا؟ والله، لا أعذر بهذا، ولا أعود لهذا أبداً، -إن شاء الله-.

 

ألا وإن من أظهر ما تتعين محاسبة النفس عنده هذه الأيام: ما يأخذ به أولو النهى أنفسهم أمام هذه الإجازات التي شارفت على انقضاء، وآذنت برحيل، وإنها لوقفة تتوارد على اللبيب فيها طائفة من التساؤلات المفتقرة إلى صدق الجواب.

 

فماذا قدم كل امرئ لنفسه ولإخوانه في هذه الأيام الماضيات؟ وهل كانت هذه الإجازة مضماراً لاستباق الخيرات والتنافس في الباقيات الصالحات؟ أم كانت وقتاً لتضخيم الأرصدة من الخطايا وتعظيم خزائن الأعمال من الأوزار؟ وهل كانت فرصة سانحة لاكتساب المعارف، والترقي في مدارج الكمالات النفسية والعقلية والبدنية؟ أم كانت أزمنة تبطّل يضرب فيها الكسل بأطنابه، ويمد عليها الخمول رواقه؟ وهل كان سفر المسافر وارتحاله في البلاد عبرة واستزادة من كل نافع يجمل ويحل؟ أم كانت حلبة سباق إلى كل ما يضر ويحرم؟ وهل كان المجاوز حريصاً في إجازته على أداء الحقوق المترتبة عليه وعلى ذوي رحمه؟! فوصل من قطع، وأصلح ما فسد، ورأب ما انصدع، وقوّى ما وهن، أم كان ممعناً في التقصير، موغلاً في الجفوة، متمادياً في البعد؟!

 

إنها أيها الإخوة- وقفة لا مناص لكل حصيف من أن يقفها مع نفسه عقب كل عمل، وعند منتهى كل مرحلة، وفي ختام كل شوطº إن أراد أن يستقيم له أمره، ويصلح له حاله، وتسلم له عاقبته ومالهº فيحظى بالفوز العظيم في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد.

 

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: \" يا أَيٌّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلتَنظُر نَفسٌ مَّا قَدَّمَت لِغَدٍ, وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعمَلُونَ \" [الحشر: 18].

 

نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وبسنة نبيه، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية:

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.

 

أما بعد:

فيا عباد الله، إن وقفة المحاسبة للنفس من أوضح الأدلة على كمال عقل المرء، وتمام حرصه على أسباب سعادته، وبواعث نجاحه من كل ما يأتي وما يذر.

 

ألا فاتقوا الله عباد الله واحرصوا على الاستدامة من هذه المراقبة المحكمة الصادقة لا سيما وأنتم تودعون أيام إجازاتكم، وتستقبلون مرحلة جديدة من مراحل أعماركم، وتستأنفون شوطاً آخر من أشواط حياتكم، لا غناء لكم فيهما عن اعتبار وادكار بما مضى وعزم على التصحيح والتخطيط الراشد السديد لما بقي.

 

ألا وصلوا وسلموا على خير خلق الله، فقد أمرتم بذلك من كتاب الله، حيث قال - سبحانه -: \" إِنَّ اللَّهَ وَمَلَـائِكَـتَهُ يُصَلٌّونَ عَلَى النَّبِي يا أَيٌّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا صَلٌّوا عَلَيهِ وَسَلّمُوا تَسلِيماً \" [الأحزاب: 56]. اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك سيدنا محمد وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعن سائر الآل والصحابة والتابعين وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply