الانقياد للحق


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الخطبة الأولى:

أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله حقّ تقاته، واعملوا على كلّ ما تكون به النجاة غدًا، \" يَومَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلاَّ مَن أَتَى اللَّهَ بِقَلبٍ, سَلِيمٍ, \" [الشعراء: 88، 89]، \"يَومَ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ مَا سَعَى \" [النازعات: 35]، \"يَومَئِذٍ, يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكرَى \" [الفجر: 23].

أيها المسلمون، إن من كريم سَجَايا المسلم، وجميل خِصَاله، وشريف صفاتهº كمالَ سَعيِهِ في طَلَب الحق، وشدّةَ حرصه على الإذعان له والنٌّفرَةِ من رَدِّهº ابتغاء وجه ربه الأعلى، وأَمَلاً في بلوغ رضوانه، وازدِلافًا إليه، رَغَبًا ورَهَبًا، محبةً وشوقًا، وحَذَرًا من الترَدِّي في وَهدَةِ الكِبر المُهلِك الذي بَيّن واقعه، وأوضح حقيقته رسولُ الهدى بقوله: ((لا يدخلُ الجنة من كان في قلبه مِثقَالُ ذَرّة من كِبر))، فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا ونعله حسنًا! فقال النبي: ((إن الله جميل يحب الجمال، الكِبر بَطَرُ الحق، وغَمطُ الناس))[1]، وبَطَرُ الحقّ ـ يا عباد الله ـ هو ردّه ودفعه وعدم القبول به، وغَمطُ الناس هو احتقارهم والترفّع عليهم بكل ألوان الترفّع القوليّة والعمليّة.

وقد كان ردّ الحق تكذيبًا به وكراهة له وإعراضًا عنه دَيدَنَ الأمم السابقة التي حاقَ بها العذابُ، وجاءهم بأسُ الله، ونزل بساحتهم، فكان ما أصابَهم عبرة للمُعتبرِين، وذكرى للذاكرين، كما قال - سبحانه -: \"وَمَا تَأتِيهِم مِن آيَةٍ, مِن آيَاتِ رَبِّهِم إِلاَّ كَانُوا عَنهَا مُعرِضِينَ فَقَد كَذَّبُوا بِالحَقِّ لَمَّا جَاءَهُم فَسَوفَ يَأتِيهِم أَنبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَستَهزِئُون أَلَم يَرَوا كَم أَهلَكنَا مِن قَبلِهِم مِن قَرنٍ, مَكَّنَّاهُم فِي الأَرضِ مَا لَم نُمَكِّن لَكُم وَأَرسَلنَا السَّمَاءَ عَلَيهِم مِدرَارًا وَجَعَلنَا الأَنهَارَ تَجرِي مِن تَحتِهِم فَأَهلَكنَاهُم بِذُنُوبِهِم وَأَنشَأنَا مِن بَعدِهِم قَرنًا آخَرِينَ \" [الأنعام: 4-6]، وقال عزّ اسمه: \" لَقَد جِئنَاكُم بِالحَقِّ وَلَكِنَّ أَكثَرَكُم لِلحَقِّ كَارِهُونَ \" [الزخرف: 78].

أما أهل الإيمان والتقوى فإن من أظهر صفاتهم القَبُولَ بالحق، والاحتِفَاء به، والانقياد له، والدعوة إليه، ولِذَا فهم أعقل الخلق، وأحكم الناس، وأبصر العباد بأسباب السعادة وأبواب الظَّفَر وأسرار التوفيقº لأن الحكمة ضالّة المؤمن أينما وجدها التقطها، ولأن في التجافي عن ردّ الحق سلامةً من مشاركه الضالّين المكذّبين بآيات الله - عز وجل - ورسله في أَوزَار ضلالهم وأَوضَار تكذيبهم وعاقبة استكبارهم وعلوّهم في الأرض بغير الحق، وتراهم من أجل ذلك قد وطّنوا أنفسهم على قَبُول الحق ممن أُجرِيَ على لسانه، لا يستثنون صَبِيًّا أو جاهلاً أو عدوًّا، كما قرّره القاضي عياض وغيره من أهل العلم، بل إن من كريم مناقبهم وحُلوِ شمائلهم أنّ أحدهم إذا ناظَرَ غيره أو ناقشه دعا له بظهر الغيب أن يُثَبَّتَ ويُسَدّد ويوفّق للصواب، وأن يُظهِرَ اللهُ الحقَّ على لسانه، ومن ذلك قول الإمام الشافعي - رحمه الله -: \"ما ناظرتُ أحدًا إلا أحببتُ أن يُظهِرَ اللهُ الحقَّ على لسانه\"[2]، فهو يترفّق بأخيه غاية الترفّق، ويغضّ من صوته، ويحفظ لسانه ويده، فلا يقدح في دينه، ولا ينال من عِرضه، ولا يؤذيه بأي جارحة من جوارحه، مُستَحضِرًا في ذلك قول نبي الرحمة والهدى في الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد في مسنده بإسناد صحيح عن عبد الله بن مسعود أنه صلوات الله وسلامه عليه قال: ((ليس المؤمن بالطعَّان ولا اللعَّان ولا الفاحِش ولا البذِيء))[3]. ومُستَحضِرًا أيضًا قوله - عليه الصلاة والسلام -: ((المسلم من سَلِم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه)) أخرجه الشيخان في صحيحيهما[4]. وهو يكفّ عن المناقشة، ويمسك عن الجدال إذا لم تُرجَ منه فائدة، بل خُشِيَ الضررُ بثَورَةِ الخصومة المُفضِيَة إلى البغضاء، مُستَحضِرًا قول رسول الله: ((أنا زَعِيم ببيت في رَبَضِ الجنة لمن ترك المِرَاء ـ أي الجَدَل ـ وإن كان مُحِقًّا)) أخرجه أبو داود في سننه بإسناد صحيح[5]. ومُستَحضِرًا أيضًا قوله صلوات الله وسلامه عليه: ((ما ضلّ قومٌ بعد هُدى كانوا عليه إلا أوتوا الجَدَل))، وفي رواية: ((وسُلِبُوا العمل)) أخرجه الإمام أحمد في مسنده والترمذي في جامعه بإسناد حسن عن أبي أمامة رضي الله عنه[6].

وبالجملة فإن إخلاص النية وسلامة القَصد في كون الوصول إلى الحق هو الغاية، وإن الحذر من الانتصار للنفس وطَلَبِ العلو وإظهار الفضل والتقدّم مع الحرص على كمال الشَّفَقَة على الخلق وتمام الرحمة بهم وإرادة الخير لهم، كل أولئك مما لا غَنَاء عنه لطُلاّب الحق ودعاة الهدى والسعاة إلى الخير المُبتغِين الوسيلة إلى ربهم بتوحيده وذكره وشكره وحسن عبادته والنزول على حكمه، وصَدَقَ - سبحانه - إذ يقول: \" تِلكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرضِ وَلا فَسَادًا وَالعَاقِبَةُ لِلمُتَّقِينَ \" [القصص: 83].

نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وبسنة نبيه، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه كان غَفّارًا.

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله وليّ الصالحين، أحمده - سبحانه - جعل مَعِيَّته للمتقين المحسنين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله الصادق الأمين، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه الغُرِّ المَيامِين.

أما بعد: فيا عباد الله، كتب بعضُ السلف رضوان الله عليهم إلى أخٍ, له يَستَنصِحُهُ ويَستَشِيرُهُ في أمر نزل به، فكتب إليه قائلاً: \"أما بعد: فإذا كان الله معك فممّن تخاف؟! وإذا كان عليك فمن ترجو؟! والسلام\"، وإنها ـ يا عباد الله ـ لموعظة بليغة، ونصيحة عظيمة، وكلام مُضِيء، وبيان صادق، فمَعِيّة الله لعبده هي المَعِيّة التي لا تعدلها مَعِيّة، فلا حاجة به إلى مَعِيّة سواها، غير أن هذه المَعِيّة الخاصة بالرعاية والحفظ والتأييد والنصر قد بيّن الله مُستَحِقّها في قوله عزّ اسمه: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَالَّذِينَ هُم مُحسِنُونَ [النحل: 128]. جعلني الله وإياكم من المتقين المحسنين، وسلك بنا سبيل عباده المُخبِتين، وجنّبنا أسباب سَخَطِه، آمين آمين.

ألا فاتقوا الله عباد الله، واذكروا على الدوام أن الله - تعالى - قد أمركم بالصلاة والسلام على خير الأنام، فقال في أصدق الحديث وأحسن الكلام: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلٌّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلٌّوا عَلَيهِ وَسَلِّمُوا تَسلِيمًا [الأحزاب: 56]، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد..

 

----------------------------------------

[1] أخرجه مسلم في الإيمان (91) من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -.

[2] رواه ابن حبان في صحيحه (5/498)، وأبو نعيم في الحلية (9/118)، وانظر: المدخل للسنن الكبرى (ص172)، وتهذيب الأسماء واللغات (1/53).

[3] مسند الإمام أحمد (1/404)، وأخرجه ـ أيضًا ـ الترمذي في البر (1977)، وابن أبي شيبة (6/162)، والبخاري في الأدب المفرد (312)، وأبو يعلى (5088)، والبيهقي في الكبرى (10/193)، وصححه ابن حبان (192)، والحاكم (29)، ورجّح الدارقطني في العلل (5/92) وقفه، وهو في السلسلة الصحيحة (320).

[4] صحيح البخاري: كتاب الإيمان (10)، صحيح مسلم: كتاب الإيمان (40) من حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما -.

[5] سنن أبي داود: كتاب الأدب (4800) من حديث أبي أمامة - رضي الله عنه -، قال الحافظ في الفتح (13/181): \"وله شاهد عند الطبراني من حديث معاذ بن جبل\"، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2648).

[6] مسند الإمام أحمد (5/252، 256)، سنن الترمذي:كتاب التفسير (3253)، وابن ماجه في المقدمة (48)، وليس فيه الزيادة المذكورة، وقال الترمذي: \"هذا حديث حسن صحيح\"، وصححه الحاكم (3674)، وحسنه الألباني في تخريج شرح الطحاوية (175).

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply