وقفة محاسبة في نهاية العام


 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الخطبة الأولى:

أما بعد:

فيا عباد الله، {اتَّقُوا اللَّهَ وَابتَغُوا إِلَيهِ الوَسِيلَةَ} [المائدة: 35]، {فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الحَيَاةُ الدٌّنيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الغَرُورُ} [فاطر: 5].

أيها المسلمون، إن وقفة التوديع مثيرة للأشجان، مهيِّجة للأحزان، إذ هي مصاحبةٌ للرحيل، مؤذنة بالانقضاء، ولقد مضى ـ يا عباد الله ـ من عمر الزمن عام كامل، تقلّبت فيه أحوال، وتصرمت فيه آجال، ونزلت فيه بالأمة النوازل التي تقض لها المضاجع، وتضطرب منها الألباب، وتجِف القلوب، وإذا كان ذهاب الليالي والأيام ليس لدى الغافلين اللاهين غير مُضِي يوم ومجيء آخر، فإنه عند أولي الأبصار باعث حي من بواعث الاعتبار، ومصدر متجدِّد من مصادر العظة والادِّكار، يصوِّر ذلك ويبيِّنه أبلغَ بيان قولُ الحسن البصري - رحمه الله -: \"يا ابن آدم، إنما أنت أيام، فإذا ذهب يوم ذهب بعضك\"[1].

إنها ـ يا عباد الله ـ وقفة لمراجعة الذات، ومحاسبة النفس، بالوقوف منها موقف التاجر الأريب من تجارته، ألم تروا إليه كيف يجعل لنفسه زمنًا معلومًا، ووقتًا مضروبًا، ينظر فيه إلى مبلغ ربحه وخسارته، باحثًا عن الأسباب متأملاً في الخطأ والصواب؟!.

 

وإن سلوك المسلم الواعي هذا المسلك ليربو في شرف مقاصده، وسموِّ أهدافه، وكمال غاياته على ذلكº لأنه سعيٌ إلى الحفاظ على المكاسب الحقة التي لا تبور تجارتها، ولا يكسد سوقها، ولا تفنى أرباحهاº لأنها الباقيات الصالحات التي جعل لها - سبحانه - مكانًا عليًا، ومقامًا كريمًا، وفضَّلها على ما سواها فقال - سبحانه -: {المَالُ وَالبَنُونَ زِينَةُ الحياة الدٌّنيَا وَالبَـاقِيَاتُ الصَّـالِحَاتُ خَيرٌ عِندَ رَبّكَ ثَوَابًا وَخَيرٌ أَمَلاً} [الكهف: 46].

 

ولذا كانت العناية بهذه المراجعة والحرص على هذه المحاسبة دأبَ أولي النهى، وديدن الأيقاظ، ونهج الراشدين، وسبيل المخبتين، لا يشغلهم عنها لهوُ الحياة ولغوها، وزخرفها وزينتها، فيقطعون أشواط الحياة بحظ موفور من التوفيق في إدراك المُنى، وبلوغ الآمال، والسلامة من العثار.

 

وإن ارتباط المراجعة والمحاسبة بالتغيير إلى الأفضل والأكمل وثيق العرى، فالمراجعة والمحاسبة تظهران المرء على مواطن النقص، ومواضع الخلل، ومجالب الزلل، فإذا صحَّ منه العزم، وخلصت النية، واستبان الطريق، وصدَّق ذلك كلَّه العمل، جاء عون الله بمدد لا ينفد، فأورث حسن العاقبة، وتبدلَ الحال، وبلوغ المراد.

 

وإن الحاجة إلى سلوك نهج المراجعة والمحاسبة ليس خاصًا ـ يا عباد الله ـ بأفراد أو بطائفة بعينها، بل إن الأمة بمجموعها بحاجة إليه أيضًا، ولا غناء لها عنه وهي تودِّع عامًا وتستقبل عامًا جديدًا، لكنها في حق الأمة مراجعة تتَّسع أبعادها، ويعم نطاقها، ويعظم نفعهاº إذ هي نظرة شاملة للأحداث، وتأمل واع للنوازل، وتدارس دقيق للعظات والعبر التي حفل بها التاريخ القديم والحديث، وسعيٌ حثيث من بعد ذلك إلى تصحيح المسار، وإقامة العِوج، لتذليل الطريق أمام استئناف الحياة الإسلامية القويمة الراشدة المرتكزة على هدي الوحيين، المستضيئة بأنوار التنزيلين.

 

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:{يا أَيٌّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلتَنظُر نَفسٌ مَّا قَدَّمَت لِغَدٍ, وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعمَلُونَ وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَـاهُم أَنفُسَهُم أُولَـئِكَ هُمُ الفَـاسِقُونَ لاَ يَستَوِى أَصحَـابُ النَّارِ وَأَصحَـابُ الجَنَّةِ أَصحَـابُ الجَنَّةِ هُمُ الفَائِزُونَ} [الحشر: 18 ـ 20].

نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وبسنة نبيه، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروهº إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية:

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.

 

أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله، وليكن لكم من مرور الأيام وتصرم الأعوام حسنُ الاعتبار، واعلموا أن الأوقات خزائن، فلينظر كل امرئ ماذا يضع في خزائنه التي لا غناء لكم عنها في يوم تشخص فيه الأبصار، يوم يقوم الناس لرب العالمين.

 

ألا فاتقوا الله عباد الله، وصلوا وسلموا على الحبيب رسول الله، فقد أُمرتم بذلك في كتاب اللهº حيث قال - سبحانه -:{إِنَّ اللَّهَ وَمَلَـائِكَـتَهُ يُصَلٌّونَ عَلَى النَّبِيّ يا أَيٌّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا صَلٌّوا عَلَيهِ وَسَلّمُوا تَسلِيماً} [الأحزاب: 56].

اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك سيدنا محمد...

 

----------------------------------------

[1] أخرجه أحمد في الزهد (1591)، وأبو نعيم في الحلية (2/ 148).

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply