العشر الأواخر من رمضان


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الخطبة الأولى:

أما بعد: فها هي أيام رمضان تسارع مؤذنة بالانصراف والرحيل، وها هي أيام العشر تحل لتكون الفرصة الأخيرة لمن فرط في أول الشهر، أو لتكون التاج الخاتم لمن أصلح ووفى فيما مضى.

أيها الأحبة، العشر الأخيرة من شهر رمضان سوق عظيم يتنافس فيه العاكفون وموسم يضيق فيه المفرّطون، وامتحان تبتلى فيها الهمم، ويتميز أهل الآخرة من أهل الدنيا، طالما تحدث الخطباء وأطنب الوعاظ وأفاض الناصحون بذكر فضائل هذه الليالي، ويستجيب لهذا النداء الحاني قلوب من خالط الإيمان بشاشتها، فسلكت هذه الفئة المستجيبة طريق المؤمنين، وانضمت إلى قافلة الراكعين الساجدين، واختلطت دموع أصحابها بدعائهم في جنح الظلام، وربك يسمع ويجيب، وما ربك بظلام للعبيد.

أما الفئة الأخرى فتسمع النداء وكأنه لا يعنيها، وتسمع المؤمنين وهم يصلون في القيام لخالقهم وكأنه ليس لهم حاجة بل كأنهم قد ضمنوا الجنة.

فهل يتأمل الشاردون؟ وهل يعيد الحساب المفرطون؟.

أيها المسلمون، هذه أيام شهركم تتقلص، ولياليه الشريفة تتقضَّى، شاهدة بما عملتم، وحافظة لما أودعتم، هي لأعمالكم خزائن محصنة، ومستودعات محفوظة، تدعون يوم القيامة: {يَومَ تَجِدُ كُلٌّ نَفسٍ, مَّا عَمِلَت} [آل عمران: 30]، ينادي ربكم: ((يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه)). هذا هو شهركم، وهذه هي نهاياته، كم من مستقبل له لم يستكمله؟ وكم من مؤمل يعود إليه لم يدركه. هلا تأملتم الأجل ومسيره، وهلا تبينتم خداع الأمل وغروره.

أيها المسلمون، إن كان في النفوس زاجر، وإن كان في القلوب واعظ، فقد بقيت من أيامه بقية. بقيةٌ وأي بقية، إنها عشره الأخيرة. بقية كان يحتفي بها نبيكم محمد أيما احتفاء. في العشرين قبلها كان يخلطها بصلاة ونوم فإذا دخلت العشر شمر وجد وشد المئزر. هجر فراشه، أيقظ أهله، يطرق الباب على فاطمة وعلي - رضي الله عنهما - قائلاً: ((ألا تقومان فتصليان)) يطرق الباب وهو يتلو: {وَأمُر أَهلَكَ بِالصَّلوةِ وَاصطَبِر عَلَيهَا لاَ نَسأَلُكَ رِزقاً نَّحنُ نَرزُقُكَ وَالعَـاقِبَةُ لِلتَّقوَى} [طه: 132]، ويتجه إلى حجرات نسائه آمراً وقائلاً: ((أيقظوا صواحب الحجر، فرب كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة)). كان النبي إذا بقي من رمضان عشرة أيام لا يدع أحداً من أهله يطيق القيام إلا أقامه.

أيها المسلمون، اعرفوا شرف زمانكم، واقدروا أفضل أوقاتكم، وقدموا لأنفسكم، لا تضيعوا فرصة في غير قربة.

إحسان الظن ليس بالتمني، ولكن إحسان الظن بحسن العمل، والرجاء في رحمة مع العصيان ضرب من الحمق والخذلان، والخوف ليس بالبكاء ومسح الدموع ولكن الخوف بترك ما يخاف منه العقوبة.

أيها الأحبة، قدموا لأنفسكم وجدوا وتضرعوا. تقول عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها -: يا رسول الله: أرأيت إن علمت ليلة القدر ماذا أقول فيها؟ قال قولي: ((اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني)).

نعم أيها الإخوة، الدعاء الدعاء. عُجٌّوا في عشركم هذه بالدعاء. فقد قال ربكم عز شأنه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَليَستَجِيبُوا لِي وَليُؤمِنُوا بِي لَعَلَّهُم يَرشُدُونَ} [البقرة: 186]. أتعلمون من هم هؤلاء العباد؟ الخلائق كلهم عباد الله. ولكن هؤلاء عباد مخصوصون إنهم العباد من أهل الدعاء، عباد ينتظرون الإجابة، إنهم السائلون المتضرعون، سائلون مع عظم رجاء ومتضرعون في رغبة وإلحاح: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ}.

إن للدعاء ـ أيها الإخوة ـ شأناً عجيباً، وأثراً عظيماً في حسن العاقبة، وصلاح الحال والمآل والتوفيق في الأعمال والبركة في الأرزاق.

 

أرأيتم هذا الموفق الذي أدركه حظه من الدعاء ونال نصيبه من التضرع والالتجاء يلجأ إلى الله في كل حالاته، ويفزع إليه في جميع حاجاته، يدعو ويدعى له، نال حظه من الدعاء بنفسه وبغيره، والداه الشغوفان، وأبناؤه البررة والناس من حوله كلهم يحيطونه بدعواتهم، أحبه مولاه فوضع له القبول، فحَسُن منه الخلق وزان منه العمل، فامتدت له الأيدي وارتفعت له الألسُن تدعو له وتحوطه، ملحوظ من الله بالعناية والتسديد، وبإصلاح الشأن مع التوفيق.

أين هذا من محروم مخذول لم يذق حلاوة المناجاة، يستنكف عن عبادة ربه، ويستكبر عن دعاء مولاه. محروم سد على نفسه باب الرحمة، واكتسى بحجب الغفلة.

أيها الإخوة، إن نزع حلاوة المناجاة من القلب أشد ألوان العقوبات والحرمان. ألم يستعذ النبي من قلب لا يخشع وعين لا تدمع ودعاء لا يسمع؟.

إن أهل الدعاء الموفقين حين يعُجٌّون إلى ربهم بالدعاء، يعلمون أن جميع الأبواب قد توصد في وجوههم إلا باباً واحداً هو باب السماء. باب مفتوح لا يغلق أبداً، فتحه من لا يرد داعياً ولا يخيب راجياً. فهو غياث المستغيثين، وناصر المستنصرين، ومجيب الداعين.

أيها المجتهدون، يجتمع في هذه الأيام أوقات فاضلة وأحوال شريفة. العشر الأخيرة، جوف الليل من رمضان، والأسحار من رمضان، دبر الأذان والمكتوبات، أحوال السجود، وتلاوة القرآن، مجامع المسلمين في مجالس الخير والذكر، كلها تجتمع في أيامكم هذه. فأين المتنافسون؟ فاجتهدوا بالدعاء رحمكم الله سلوا ولا تعجزوا ولا تستبطئوا الإجابة.

فيعقوب - عليه السلام - فَقَدَ ولده الأول ثم فقد الثاني في مدد متطاولة، ما زاده ذلك بربه إلا تعلقاً: {عَسَى اللَّهُ أَن يَأتِيَنِي بِهِم جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ العَلِيمُ الحَكِيمُ} [يوسف: 83]، ونبي الله زكريا - عليه السلام -º كبر سنه واشتعل بالشيب رأسه ولم يزل عظيم الرجاء في ربه حتى قال محققاً: {وَلَم أَكُن بِدُعَائِكَ رَبّ شَقِيّاً} [مريم: 4]، لا تستبطئ الإجابة يا عبد الله فربك يحب تضرعك، ويحب صبرك، ويحب رضاك بأقداره، رضاً بلا قنوط، يبتليك بالتأخير لتدفع وسواس الشيطان، وتصرف هاجس النفس الأمارة بالسوء، وقد قال نبيك محمد: ((يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: دعوت فلم يستجب لي)).

أيها الإخوة، ويجمل الدعاء وتتوافر أسباب الخير ويعظم الرجاء حين يقترن بالاعتكاف، فقد اعتكف رسول الله هذه الأيام حتى توفاه الله.

عجيب هذا الاعتكاف في أسراره ودروسه؟. المعتكف، ذكرُ الله أنيسه، والقرآن جليسه، والصلاة راحته، ومناجات الحبيب متعته، والدعاء والتضرع لذته.

إذا أوى الناس إلى بيوتهم وأهليهم، ورجعوا إلى أموالهم وأولادهم لازم هذا المعتكف بيت ربه وحبس من أجله نفسَه، ويقف عند أعتابه يرجو رحمته ويخشى عذابه، لا يطلق لسانه في لغو ولا يفتح عينه لفحش ولا تتصنت أذنه لبذاءٍ,. سلم من الغيبة والنميمة، جانب التنابز بالألقاب، والقدح في الأعراض، ومسارقة الطبع من الأخلاق الرديئة، استغنى عن الناس وانقطع عن الأطماع، علم واستيقن أن رضا الناس غاية لا تدرك.

في درس الاعتكاف انصرف المتعبد إلى التفكير في زاد الرحيل وأسباب السلامة، السلامة من فضول الكلام، وفضول النظر، وفضول المخالطة.

في مدرسة الاعتكاف يتبين للعابد أن الوقت أغلى من الذهب فلا يبذله في غير حق، ولا يشتري به ما ليس بحمد، يحفظه عن مجامع سيئة، بضاعتها أقوال لا خير في سماعها، ويتباعد به عن لقاء وجوه لا يسر لقاؤها.

أيها المسلمون، أوقاتكم فاضلة تشغل بالدعاء والاعتكاف، وتستغل فيها فرص الخير وإن من أعظم ما يرجى فيها ويتحرى ليلة القدر: {وَمَا أَدرَاكَ مَا لَيلَةُ القَدرِ} [القدر: 2]، من قامها إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه.

 

ليلة خير من ألف شهر، خفي تعينها اختباراً وابتلاء، ليتبين العاملون وينكشف المقصرون، فمن حرص على شيء جدّ في طلبه، وهان عليه ما يلقى من عظيم تعبه. إنها ليلة تجري فيها أقلام القضاء بإسعاد السعداء وشقاء الأشقياء: فِيهَا يُفرَقُ كُلٌّ أَمرٍ, حَكِيمٍ, [الدخان: 4]، ولا يهلك على الله إلا هالك.

فاتقوا الله رحمكم الله، واعملوا وجددوا وأبشروا وأملوا. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: {إِنَّا أَنزَلنَـاهُ فِي لَيلَةِ القَدرِ وَمَا أَدرَاكَ مَا لَيلَةُ القَدرِ لَيلَةُ القَدرِ خَيرٌ مّن أَلفِ شَهرٍ, تَنَزَّلُ المَلَـائِكَةُ وَالرٌّوحُ فِيهَا بِإِذنِ رَبّهِم مّن كُلّ أَمرٍ, سَلَـامٌ هِي حَتَّى مَطلَعِ الفَجر} [سورة القدر].

نفعني الله وإياكم..

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله عظم شأنه ودام سلطانه، أحمده - سبحانه - وأشكره، عمّ امتنانه وجزل إحسانه، أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، به علا منار الإسلام وارتفع بنيانه - صلى الله وسلم - وبارك عليه وعلى أصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: أيها الناس، أوصيكم بتقوى الله - عز وجل - فإن تقوى الله خلف من كل شيء، وليس من تقوى الله خلفٌ: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مٌّحسِنُون} [النحل: 128].

أيها المسلمون، أيامكم هذه أعظم الأيام فضلاً وأكثرها أجراً، تصفو فيها لذيذ المناجاة، وتسكب فيها غزير العبرات، كم لله فيها من عتيق من النار؟ وكم فيها من منقطع قد وصلته توبته؟ المغبون من انصرف عن طاعة الله، والمحروم من حرم رحمة الله، والمأسوف عليه من فاتت فرص الشهر، وفرط في فضل العشر، وخاب رجاؤه في ليلة القدر، مغبون من لم يرفع يديه بدعوة، ولم تذرف عينه بدمعة، ولم يخشع قلبه لله لحظة. ويحه ثم ويحه أدرك الشهر. ألم يحظ بمغفرة؟ ألم ينل رحمة؟ يا بؤسه ألم تقل له عثرة؟ ساءت خليقته وأحاطت به خطيئته، قطع شهره في البطالة وكأنه لم يبق للصلاح عنده موضع، ولا لحب الخير في قلبه منزع. طال رقاده حين قام الناس؟ هذا والله غاية الإفلاس. عصى رب العالمين، واتبع غير سبيل المؤمنين؟ أُمر بالصلاة فضيعها، ووجبت عليه الزكاة فانتقصها ومنعها؟ دعته دواعي الخير فأعرض عنها، مسئولياته قصّر فيها، وقصّر فيمن تحت يديه من بنين وبنات يفرط في مسئولياته وقد علم أن من سنة نبيكم أنه يوقظ أهله. أما هذا فقد اشتغل بالملهيات وقطع أوقاته في الجلبة في الأسواق والتعرض للفتن. فاتقوا الله رحمكم الله وقوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة فإن الشقي من حرم رحمة الله.

اللهم رحمة اهد بها قلوبنا..

اللهم تقبل منا الصيام والقيام وسائر الأعمال..

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply