بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى:
أما بعد:
فكلنا يعلم بأن الله رؤوف رحيم بعباده، وأن الله أرحم بنا من أنفسنا على أنفسنا، أرأيتم عطف الوالد الحنون على ولده الصغير إذا مرض، فإن رحمة الله - عز وجل - وحلمه بنا أكبر من عطف الوالد بولده.
لكن أيها الأخوة: هناك سنن كونية ثابتة في هذا الكون، والذي جعل هذه السنن ثابتة هو الله العزيز الحكيم.
فهذه السنن لن تتبدل، ولن تجد لسنة الله تحويلا.
فمن ذلك يا عباد الله، بعض الأمور التي لو وقعت من العباد وفعلوها كانت سبباً في إنزال الهلاك والدمار بهم، فالله - عز وجل -، كما قلنا أنه غفور رحيم، لكنه - عز وجل - أيضاً شديد العقاب.
فالله يغار على دينه، والله يغار على أوامره أن تنتهك، وهو - عز وجل - يمهل ولا يهمل.
يرشد العباد إلى توحيده وإتباع أوامره، فإن أطاعوا كان لهم السعادة في الدنيا والآخرة، وإن هم خالفوا وعصوا وأتوا بأسباب العذاب سلط الله عليهم بأسه وغضبه، وعندها لا يلوم الناس إلا أنفسهم.
أيها المسلمون: إن لهلاك الأمم وخراب الدول وشقاء المجتمع أسباب.
وسوف نحاول بعد توفيق الله - عز وجل - أن نتعرف على هذه الأسباب، لكي نحذرها ولا نغفل عنها إن لم تكن موجودة فينا، وأن نتوب منها ونجتنبها، إن كنا واقعين فيها.
فإن الله - سبحانه وتعالى - عندما أهلك بعض الأقوام والأمم قبلنا، لم يهلكهم إلا لأسباب وأمور فعلوها، كانوا قد حُذّروا منها، فبعد أن تمادوا كان لابد من هلاكهم.
عباد الله: وقبل أن أسرد عليكم أسباب هلاك الأمم أقول بأن عذاب الله وعقابه للأمم ليس بنوع واحد ولا لون معين، بل جرت سنة الله - تعالى - في تنويعه على ألوان مختلفة متنوعة، فقد يكون الهلاك بصاعقة أو بغرق، أو يكون فيضاناً أو ريحاً أو خسفاً أو قحطاً ومجاعة، أو ارتفاعاً بالأسعار أو أمراضاً، أو ظلماً وجوراً، وذلك بأن يسلط على بعض عباده حكام ظلمة، يسومون الناس سوء العذاب، أو يكون فتناً بين الناس واختلافاً أو مسخاً في الصور، كما فعل ببني إسرائيل فمسخهم قردة وخنازير أو مطراً بالحجارة، أو رجفة، فالكل عقاب من الله - تعالى -وعذاب يرسله على من يشاء من عباده تأديباً لهم وردعاً لغيرهم.
وقد جاءت كل هذه الأنواع في القرآن الكريم والسنة المطهرة، فاقرأوا مثلاً قول الله - عز وجل - في الصاعقة: فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون ويقول في الغرق: فأغرقناهم في أليم. ويقول في الفيضان والطوفان: فأخذهم الطوفان وهم ظالمون ويقول في الريح: وأما عادٌ فأهلكوا بريح صرصر عاتية ويقول في الخسف: فخسفنا به وبداره الأرض ويقول في القحط والمجاعات وارتفاع الأسعار وانتشار الأمراض وبلوناهم بالحسنات والسيئات ويقول: فأخذناهم بالبأساء والضراء فالسيئات تعم كل ما يسوء الإنسان: والبأساء، الفقر. والشدة والجوع والقحط، والضراء هي الآفات ومنها الأمراض، ويقول - عز وجل - في الظلم والجور: وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون ويقول - سبحانه -: وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً ويقول في الفتن بين الناس والاختلاف والتحزّب والعذاب العام: قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعاً ويذيق بعضكم بأس بعض وقال - تعالى - في مسخ اليهود قردة وخنازير: فلما عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين ويقول: ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين ويقول: قل هل أنبئكم بشرٍ, من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت.
ويقول - تعالى - في المطر بالحجارة: وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود مسومة عند ربك ويقول في الرجفة: فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين.
فاتقوا الله عباد الله: هذا بعض عذاب الله وعقابه للأمم والدول قبلنا في الدنيا، ولعذاب الآخرة أشد وأبقى.
فاتقوا الله أيها المسلمون: إن هؤلاء الأقوام أتوا بأسباب العذاب فأهلكهم الله بأفعالهم وأعمالهم.
وليس بين الله وبين أحد من عباده نسب ولا واسطة، فنحن أيضاً لو أتينا بأسباب عذاب الله لعذبنا. ووالله لقد أتينا الكثير والكثير منها، فإن الله يهلكنا كما أهلك غيرنا، ويسلط علينا عقوباته في الدنيا قبل الآخرة، كما سلطه على غيرنا.
فلنتق الله أيها المسلمون، ولنأخذ بأسباب النجاة، فإن هلاك الإنسان ونجاته بيده.
أيها المؤمنون: لأنتقل بكم إلى سرد أسباب هلاك الأمم فأولى هذه الأسباب، ما ورد في حديث زينب بنت جحش - رضي الله عنها -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل عليها يوماً فزعاً يقول: ((لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه، وحلق بأصبعيه الإبهام والتي تليها، قالت زينب، فقلت يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث)) رواه البخاري ومسلم.
الشاهد من الحديث: ((أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث)).
إذا كثر الخبث فإن الله يهلك القوم جميعاً.
إذاً من أسباب هلاك الأمم، كثرة الخبث.
أيها المسلمون: الرسول - صلى الله عليه وسلم - يرسم لنا في هذا الحديث سنة إلهية في هلاك الأمم وخراب البلدان والدول والحضارات، هذه السنة هي إذا كثر الخبث فإنه مؤذن بخراب الأمم.
وهذه السنة يا عباد الله لا يمكن أن تتخلف، لأن الذي أخبر بها هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
تأملوا رحمكم الله في واقعنا، وانظروا إلى أحوال مجتمعاتنا، هل كثر فينا الخبث أم لا. بل إن واقعنا خبث كله - نسأل الله العافية - إلا من رحم الله - عز وجل -.
إن وجود الخبث أمر طبيعي في كل مجتمع، حتى مجتمع الصحابة كان فيه بعض المخالفات وبعض الأخطاء أحياناً، أما أن يكثر، فإذا كثر الخبث، كان إيذاناً بهلاك القوم.
أيها المسلمون: إن هناك علاقة بين كثرة الخبث، وبين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالخبث لا يكثر إلا إذا ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو..أو حُد من عمله أو ضيق عليه.
والرسول - صلى الله عليه وسلم - أخبر في غير ما حديث بذلك، وأن كثرة الخبث يكون بترك الأمر والنهي.فقال: ((ما من رجل يكون في قوم يعمل فيهم بالمعاصي وهم يقدرون أن يغيروا فلا يغيروا إلا عمهم الله بعقاب)) وقال - صلى الله عليه وسلم - في حديث حذيفة: ((والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً ثم تدعونه فلا يستجاب لكم)). وهذا العقاب هو ((أنهلك وفينا الصالحون)).
أيها المؤمنون: وصل الخبث إلى حد في مجتمعنا حتى صار أمراً طبيعياً، فكم من الأشياء كنا نستقبحها في الماضي، صارت جزء من حياتنا الآن. بل زاد الأمر سوءاً، حتى صرنا نخجل من تغييرها. صار المنكر، وصار الخبث هو الأصل، وصار محاولة إنكاره هو الذي يخجل منه حتى أصبحت أموراً لا تلفت نظر الناس.
ثم تطور الأمر بعد ذلك. فصرنا نبحث عن مسوغات وفتاوى تبيح لنا ذلك.
إن الخبث يا عباد الله، إذا انتشر وإن كان الذي يعمل به القليل، لكن انتشاره يضر الخاص والعام.
أيها الأخوة: إذا تأملنا هذا الحديث، وإذا وقفنا مع ما قاله الرسول - صلى الله عليه وسلم -. فإنه يجب أن يصيبنا الخوف، والله لابد أن نخاف، لأن سنة الله تمضي على الجميع، والمتأمل حال العالم الإسلامي كله، يرى من أصيب بأرضه، ومن أصيب بأهله، ومن أصيب بماله.
بعض الناس، قد يفسر هذه المصائب في العالم الإسلامي بتفسيرات قريبة، وهو تسلط الأعداء، وتسلط الغرب علينا.
وهذا صحيح، لا يمكن أن نغفله، لكن لابد أن ننتبه للسبب الشرعي أيضاً، وهو كثرة الخبث، وأن خراب البلدان، وسقوط الدول، يكون بكثرة الخبث، ((أنهلك وفينا الصالحون، قال نعم إذا كثر الخبث)).
فاتقوا الله أيها المسلمون: اتقوا الله - تعالى -: إن الخبث والمنكرات قد فشت وعمت وطمت في بلادنا، والمصيبة أن القلة القليلة هي التي تتضايق وتحاول الإنكار، والغالب لا يرفع رأساً للتغيير.
فاتق الله في نفسك يا عبد الله، وانظر إلى أي مدى بذلت في تغيير الخبث في بيتك، وفي شارعك، هل ننتظر حتى يأتي غيرنا من الخارج ويغير الخبث في بيوتنا.
لا تكن يا عبد الله سبباً في هلاك الناس، بسبب الخبث الذي تحدثه والخبث الذي تسكت عنه. لا يكفي يا قوم هز الرأس أو زم الشفتين، أو ترديد قول: لا حول ولا قوة إلا بالله، إذا سمعنا أو رأينا الخبث، فإن هز الرؤوس لا يرفع غضب الله، إن هز الرؤوس لا ينجي المجتمع من الهلاك، ولن ينجي السفينة من الغرق. يقول - عليه الصلاة والسلام -: ((مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا؟ فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً)).
بعض الناس، إذا أُمر أو نُهي، قال: ما شأنك بي؟ أنا حر، أفعل ما أشاء، بيتي وأنا حر فيه، زوجتي وأنا حر فيها.
هذه نعرة دخلت علينا من حرية الغرب، ولا أصل لها في دين الإسلام. فليس هناك حرية مطلقة في الإسلام.
لا يمكن أن نتركك وشأنك، لا يمكن أن ندعك، ولهذا شرع الإسلام الحسبة تنشر خبثك في أوساطنا، لتكون سبباً في إهلاك الجميع. قضية أنا حر، هذه ليست في بلاد المسلمين، إذا أردت الحرية المطلقة، فابحث لك عن أرض غير إسلامية، وافعل فيها ما تشاء، أما في شرع الله - عز وجل -، حتى الذي يلي أمر المسلمين، حتى السلطان. لو أراد أن ينشر خبثه، أوقف عند حده، كما قال ذلك الرجل لعمر، لو رأينا فيك اعوجاجاً لقومناه بالسيف. وقال الآخر: لا سمع لك ولا طاعة حتى تخبرنا من أين لك هذا الرداء الذي تلبسه.
وبغير هذا فالهلاك والدمار على الجميع ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم وأرسلنا السماء عليهم مدراراً وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرناً آخرين.
وقال - عز وجل -: \"وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله فحاسبناها حساباً شديداً وعذبناها عذاباً نكراً فذاقت وبال أمرها وكان عاقبة أمرها خسراً\" .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثانية:
أما بعد:
فإن أسباب هلاك الأمم كثيرة، وما ذكرناه في الخطبة الأولى ما هو إلا سبب واحد، ولعلنا نرجئ الأسباب الأخرى في مناسبات قادمة إن شاء الله - تعالى -.
إن واقع كثير من البلاد اليوم أيها الأخوة، والله إنه لينذر بهلاكها، فالتهور الخلقي قد بلغ منتهاه إضافة إلى انحرافات خطيرة في العقيدة، مما ترتب عليه انحرافات كذلك في السلوك، إلى مظاهر خليعة ووقاحة بالغة، إلى مخامر ومراقص ومقابر في ديار المسلمين، إلى انتشار الربا ومحاربة الله - عز وجل - علناً، إلى فشو الزنا، الزنا الذي أصبح من الأمور العادية السهلة جداً، وكأن شيئاً لم يحصل، إلى تفكك كامل من العفة والصيانة إلى كثرة الفتن بكل ألوانها وأوصافها، إلى مصائب وويلات تهددنا وتهدد العالم أجمع بالخراب والدمار.
فحالتنا اليوم بحق تستحق العويل والرثاء، لأن مجتمعنا المسلم الظاهر أصبح في جاهلية جهلاء، فكل أنواع المعاصي والجرائم والفسوق والفجور، بل والإلحاد والكفريات على اختلاف أشكالها وألوانها بادية بأحلى مظهر عرفته البشرية، وذلك لاستيلاء سلطان الهوى على النفوس، وتوغل الناس في الإنهماك في شهوات بطونهم وفروجهم، مع اقتفائهم أثر أوربا والغربيين المجانين.
فنسأل الله - عز وجل - أن يتغمدنا برحمته وأن يأخذ بأيدينا، وأن يدلنا عليه.
وما أقوله من كلام وأضرب لكم به هذه الأمثلة ليس تيئيساً وتخذيلاً، وأنه لا فائدة، ومادام الأمر كذلك فلنستسلم حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً. بل إنه مع هذا الشر والخبث فإن الخير ولله الحمد موجود والصالحون غيورون، لكنهم قليل في مقابل الشر القائم، فنقول مثل هذا الكلام لينتبه الناس وإلا، فإنه لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد