أسباب هلاك الأمم ( 2 )


 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الخطبة الأولى:

أما بعد:

ومواصلة لما ذكر في الجمعة الماضية. من أن كثرة الخبث مما يهلك الأمم ويزيل الدول ويشقي المجتمعات. إليك أخي المسلم عدداً من هذه الأسباب جمعتها لك هذا الأسبوع.

تبييناً لها، وتحذيراً من إتيان أسبابها، ومحاولة لتركها والتوبة منها لو كنا واقعين فيها.

أيها الأحبة في الله:

وعندما نقول بأن هذه أسباب يُهلكَ اللهُ بها الأمم، ويخرب بها الدول، فإنا لا نأتي بهذه الأشياء من رؤوسنا، أبداً.

 

إنما هو تتبع لنصوص الكتاب والسنة وذكر ما فيهما هذه الأمور تحذيراً للناس، فمن أخذ بها فهو الناجي، ومن خالف هذه النصوص فلا يلومنّ إلا نفسه.

 

وإليكم أيها الأحبة بقية الأسباب كما ذكرنا لكم في الجمعة الماضية، بأن أسباب هلاك الأمم وخراب الدول وشقاء المجتمعات كثيرة، وأن الله - عز وجل - لا يحابي ولا يجامل أحداً، فأية أمة أتت وفعلت كل هذه الأسباب أو بعضها، كان ذلك سبباً في هلاكها بأمر الله - عز وجل -.

 

روى البخاري ومسلم في صحيحهما عن عمرو بن عوف الأنصاري رضي الله - تعالى -عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث أبا عبيدة عامر بن الجراح إلى البحرين يأتي بجزيتها فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة فوافوا صلاة الفجر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، انصرف، فتعرضوا له فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين رآهم ثم قال: ((أظنكم سمعتم أن أبا عبيدة قدم بشيء من البحرين، فقالوا أجل يا رسول الله، قال: فابشروا وأمّلوا ما يسركم، فو الله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم)).

إنه التنافس في الدنيا، والرغبة فيها، والمغالبة عليها، وحب الانفراد بها من التكاثر والتفاخر، إن التنافس في الدنيا، سبب في هلاك الأمم، هذا قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى. ((ولكن أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم)).

وروى مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمر رضي الله - تعالى -عنهما، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((إذا فتحت عليكم فارس والروم أي قوم أنتم؟ قال عبد الرحمن بن عوف: نقول كما أمرنا الله، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو غير ذلك تتنافسون ثم تتحاسدون ثم تتدابرون ثم تتباغضون)).

 

فانظر أخي المسلم، إلى ماذا يصل التنافس في الدنيا بالإنسان، نعم يصل به إلى التحاسد ثم التدابر ثم التباغض، وهذا قمة الدرك الأسفل من السقوط الخلقي، فيقضي على كرامة الإنسان، ويحلق دينه حلقاً، كما ورد في الحديث، لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين قال الله - تعالى -: \"ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء إنه بعباده خبير بصير \" وقال - سبحانه -: \"كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى\".

وهناك صنف من الناس لهم نفوس طيبة صالحة، ينتفعون بالمال والغنى، ويكون لهم أعظم بُلغة وأكبر معين على الدين، وفي هذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث عمرو بن العاص الذي رواه الإمام أحمد بسند صحيح: ((نعم المال الصالح للرجل الصالح)).

وهناك صنف آخر من الناس، همهم هو الدنيا، حتى صاروا عبدة الدنيا والدرهم، والبطون والفروج والملذات وهوى النفس، وفي هؤلاء قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم، تعس عبد القطيفة، تعس عبد الخميلة، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش)).

فاتقوا الله أيها المسلمون في ديناكم، لا يُوصلكم حب المال والجاه إلى حد التنافس غير المشروع، فإن في ذلك سبب للهلاك، ولقد هلكت أمم وسقطت دول، وخربت مجتمعات بسبب التنافس على الدنيا.

ومن أسباب الهلاك العظيمة التي تخرب الديار وتهلك الأمم وتفسد المجتمعات وتقضي على الكرامة وترفع العفة وتخلط الأنساب وتهضم الحقوق وترفع العفة وتخلط الأنساب وتهضم الحقوق وتجلب الفوضى وتنشر الظلم وتخرم النظام في العالم ظهور الربا وانتشار الزنا.

عن ابن مسعود رضي الله - تعالى -عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ما ظهر في قوم الربا والزنا إلا أحلوا بأنفسهم عقاب الله - عز وجل -)) [رواه الإمام أحمد بسند صحيح].

الربا مهلك المجتمعات ومورث الأحقاد والعداوات، الربا الذي لم تأتِ جريمة هدد الله فيها بمثل قوله: فأذنوا بحرب من الله ورسوله. أصبح الآن في بلاد المسلمين من الأمور العادية والعادية جداً. بل أصبحت أنظمتها مدعومة، والجهر بها معلن، وتعاطيه لا يوجب تعزيراً ولا توبيخا.

الربا الذي ضرب بأطنابه في أراضي المسلمين أكثر مما ضرب تحكيم كتاب الله - عز وجل - بين الناس أطنابه.

في الحقيقة لا ندري ماذا نقول عن الربا، ومن أصلاً سيقتنع بكلامك وأنت تتكلم، أو يسمع لك، وبيوت الربا أبوابها مفتوحة، وخدماتها ميسرة، وإغراءاتها تأخذ بقلوب جميع الناس إلا من رحم الله - عز وجل -.

أيها الناس: الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((ما ظهر في قوم الربا والزنا إلا أحلوا بأنفسهم عقاب الله - عز وجل -)) وقبل هذا قال الله - تعالى - في كتابه وأخبر عن حال المرابين، وعلى أي هيئة يقومون فقال عز من قائل: الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم.

 

وقال جل علاه: يا أيها الذين آمنوا تقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله.

فأذنوا بحرب من الله ورسوله - من يستطيع أن يحارب الله - عز وجل -، من الذي بإمكانه محاربة الله، إنها والله لداهية عظمى، وطامة كبرى، وخزي وذل وهوان وخسارة دائمة وشقاء مستمر، إنها محاربة الله ورسوله، فما أعظمها من رزية، نعوذ بالله من موجبات سخطه وأليم عقابه، أما عن الزنا فلا تسأل عن انتشاره وكثرته:

 

الزنا. ذلك الخلق البشع، والجريمة النكراء، والأمر الفتاك الهدام، الذي بسببه تخرب الديار وتشقى المجتمعات، ويكثر انتشار المرضى بينهم.

 

تأملوا رحمكم الله في انتشار الزنا في ديار المسلمين، شرقيها وغربيها، أليس الحال منذر بالهلاك والدمار، نسأل الله السلامة والعافية، من كان يتصور أن يأتي يوم على بعض البلاد الإسلامية، أن يُفتح فيها بيوت الزنا، كما تفتح المطاعم.

 

بل من يستطيع أن يتخيل أن أنظمة بعض الدول الإسلامية تحمي الزنا، وتجعل له مواد مقننة، فإذا بلغت الفتاة الثامنة عشرة من عمرها وزنت، فلا عقوبة عليها ولا على من زنا بها، ولا أحد من أهلها له الحق في المطالبة حتى ولا أبوها، ومحاكمهم تحكم وتعمل بهذه القوانين.

 

فهل هناك ظهور وإعلان، بل ورفع لأمر الزنا أكثر من هذا، يصل ببعض الديار الإسلامية قلة الحياء والديوثية في ولاتها ومخالفة شرع الله - عز وجل - علناً، إلى مساندة ودعم الزنا من خلال أنظمة البلاد، الزنا الذي، حتى بعض البهائم تستقبحه وتستنكره.

 

فلنتق الله أيها المسلمون: فإن لم تكن العودة إلى شرع الله - عز وجل -، وتحكيمه، ويكون الرجوع على مستوى الأمة بأكملها، وإلا فما يحصل الآن في ديار وأراضي المسلمين أمور، تُنذر بالهلاك والدمار والخراب على الجميع.

فنسأل الله - عز وجل - أن يرحمنا برحمته، وأن يُعجل لهذه الأمة فرجها. إنه ولي ذلك والقادر عليه.

سبب آخر من أسباب هلاك الأمم، وهو ما جاء في حديث جابر بن عبد الله - رضي الله تعالى عنهما -. أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح، فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم)) رواه مسلم.

هل تعلمون أن الشح بالمال والبخل به من أسباب خراب الديار؟ لماذا؟ وما السبب في ذلك؟ لأن الشح بالمال، يورث الاستبداد به، ثم كنـزه ثم منع حقوق الله - تعالى -. من الصدقات والزكوات ثم منع حقوق عباد الله، فإن ذلك من أسباب خراب الشعوب وهلاكها، ألا يوجد بيننا من منع إخراج زكاة ماله، بسبب الشح، ألا يوجد في مجتمعنا من يأكل حقوق غيره بسبب الشح، كم سمعنا وكم نسمع أن بعض أصحاب الأعمال يظلمون موظفيهم ويبخسونهم حقوقهم، ويؤخرون رواتبهم بسبب الشح، ألا يوجد من يأكل حتى أموال بعض اليتامى، إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً.

إن الشح بالمال أيها الأخوة، لابد أن يسبب الظلم، إما ظلم النفس وإما ظلم الغير، ولهذا ربط الرسول - صلى الله عليه وسلم - بينهما في هذا الحديث فذكر الظلم في أوله والشح في آخره.

 

فاتقوا الله أيها المسلمون، اتق الله يا عبد الله يا من لا تدفع زكاة مالك، يا من تأكل حقوق غيرك، يا من تشح بمالك حتى على أولادك لا تكن سبباً في إهلاك نفسك فإن الشح أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم.

بارك الله لي ولكم..

 

الخطبة الثانية:

أما بعد:

ومن الأسباب الخطيرة في إهلاك الله - عز وجل - للأمم وخراب الدول، عدم المساواة في القصاص وإقامة الحدود بين أفراد الشعب وهضم حق الضعيف والتعدي عليه وإهانته، ورفع وتقديس الشريف ذي الثروة والجاه والمكانة، وغض الطرف عما يقترفه من آثام وإجرام ومخالفات.

عن عائشة - رضي الله تعالى عنها - أن قريشاً أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا: من يكلم فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقالوا: من يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكلمه أسامة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أتشفع في حد من حدود الله؟ ثم قام فخطب فقال: إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)) رواه البخاري.

 

نعم يا عباد الله إن عدم المساواة بين الناس من قبل ولاة الأمور في إقامة الحدود والتعزيرات سبب في خراب الدول وهلاك الأمم.

والحديث قد سمعتموه: ((إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد)).

والدلالة من الحديث ظاهرة، حيث أن بعض الأقوام السابقين كانوا يتهاونون في إقامة الحدود، فيتركون أهل الجاه والرياسة وينفذونها في الضعاف والمساكين، ولا يساوون في تنفيذها بين سائر طبقات الناس. فأهلكهم الله - تعالى -وأضلهم، وأوقع بهم أليم عذابه وأنواع نقمه، لأن هذا ظلم ظاهر وخروج عن أحكام الله المنزلة على سائر أنبيائه، فالناس بالنسبة للأحكام الشرعية سواء، لا فرق بينهم، لا فرق بين غني وفقير، ولا شريف ووضيع، ولا عالم وجاهل، ولا صالح وطالح.

فهل هذا مطبق في ديار المسلمين، هل الناس الآن سواسية فيما يطبق عليهم من أحكام وأنظمة، فليتق الله كل من ولى شيئاً من أمور المسلمين ولينفذوا أحكام الله، ولا يحيفوا ويجوروا، وليسووا بين الناس، ولا يكونوا سبباً لجلب الوبال والهلاك على شعوبهم، والله - تعالى -لا يُقدر أي أمة ولا يرفع من شأنها ولا ينصرها وهي لا تعطي حق الضعيف منها، بل تظلمه وتهضم له حقه.

 

واسمعوا هذا الحديث الذي رواه ابن ماجه في سننه وغيره: عن جابر بن عبد الله - رضي الله تعالى عنهما - قال: رجعت مهاجرة الحبشة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ألا تحدثوني بأعجب ما رأيتم بأرض الحبشة؟ قال فتية منهم: يا رسول الله، بينا نحن جلوس مرت علينا عجوز من عجائزهم تحمل على رأسها قُلة من ماء. فمرت بفتى منهم فجعل إحدى يديه بين كتفيها ثم دفعها على ركبتها فانكسرت قُلتها، فلما ارتفعت التفتت إليه ثم قالت: ستعلم يا غُدر إذا وضع الله الكرسي وجمع الأولين والآخرين، وتكلمت الأيدي والأرجل بما كانوا يكسبون، فسوف تعلم أمري وأمرك عنده غداً. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: صدقت، صدقت، كيف يقدس الله قوماً لا يُؤخذ لضعيفهم من شديدهم، كيف يقدس الله قوماً لا يؤخذ لضعيفهم من شديدهم)).

 

فاتقوا الله أيها المسلمون: كيف يطهر الله أمة وينصرهم، ويرفع شأنهم، وهم لا يأخذون حق ضعيفهم من قولهم، كيف يوفق الله أمة وينصرهم، وهم يحابون فيمن يقيمون الأنظمة عليهم من شعوبهم. كيف يريدون نصر الله لهم على أعدائهم، وهم لا ينصرون العاجز إذا أكل حقه من ذويهم، إما في أرض أو في عقار وهم قادرون على ذلك.

فما أعجب حالنا إن كنا نظن أننا مع تمادينا في ذلك، سوف يرفع الله شأننا، ويرفع أمرنا.

فلا شك أن من كان هذا حالهم في الظلم والتعدي وهضم حقوق الضعفاء، وعدم تمكينهم من حاجاتهم كان مآلهم الهلاك المحقق والتأخر والانحطاط وانتصار أعدائهم عليهم.

الله إنا نسألك أن تعجل لهذه الأمة فرجها.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply