الوصايا الربانية


 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الخطبة الأولى

أما بعد معاشر الأخوة المؤمنين:

نمضي مع الوصايا الربانية، التي عرفنا قدرها ومقامها ووقفنا على أهميتها وخطورتها، وأدركنا من قبل أنها سر النجاة وسبب السعادة والمخرج بإذن الله من كل فتنة، والعصمة من كل محنةº لأنها هدى الله - عز وجل - وأوامره ووصاياه..

 

{قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئاً}

ووصية اليوم هي الوصية التي أقرّتها الفطر البشرية السوية واتفقت عليها جميع الشرائع السماوية وأقرتها وتواطأت عليها جميع المجتمعات الإنسانية، وهي التي تدل على الخلق المرضي، والعقل المهدي، والنهج السوي، وهي التي تكشف عن أصالة المعدن، وحسن الوفاء وكريم المعاملة، إن هذه الوصية التي نتحدث عنها اليوم تكررت في كتاب الله كثيراً، وتنوع الأمر بها والحرص عليها ودوام التذكير بها، في سنة وهدي النبي - صلى الله عليه وسلم - مراراً وتكراراً..

{وبالوالدين إحساناً}

الوصية بالوالدين، بر الوالدين، الإحسان إلى الوالدين جاء في القرآن كثيرا متنوعا، وها هنا تقديم الجار والمجرور في ذكر الوالدين، وتأخير الإحسان لإظهار الاختصاص والقصر وإطلاق لفظ الإحسان مذكراً ومنوّناً ليكون عاماً شاملاً..

{بالوالدين إحساناً}

في القول والفعل وقسمات الوجه، ونظرات العين ولمسات اليدين، وكل حركة وسكنة وفي كل وقت وآن وفي كل ظرف وحالº لأنه إحسان مطلق وإحسان يكون في كل أحوالهما وفي كل أحوال أولادهما كذلك، قال الفيروز آبادي في تعريفه لبر الوالدين كلاماً نفيساً قال:

\" هو الإحسان إلى الوالدين والتعطف عليهما، والرفق بهما والرعاية لأحوالهما وعدم الإساءة إليهما وإكرام صديقهما \".

غير أن كلامه وكلامي وكلام كل الخلق ليس بشيء مع كلام الله - عز وجل -، ومع أحاديث المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، وعندما كنت أبحث وأقلب رأيت أن أمسك لساني إلا من ذكر الآيات ورواية الأحاديثº لندرك أن القضية دين وتشريع رباني، وأنها سنة وتشريع وهدي جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومهما قال القائلون أو عبر أهل العلمº فإن ما جاء في الكتاب والسنة أبلغ وأعظم، آثرت أن نقف مع هذه الوصية ومكانة الوالدين وبرهما مع الآيات القرآنية العظيمة.

وأول هذه الوجوه اقتران حقهما بحق الله - عز وجل - وكم هي الآيات التي جاءت بالأمر بالتوحيد وثنت بالإحسان إلى الوالدين.. {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً}

واقترن كذلك في قوله - جل وعلا -: {أن اشكر لي ولوالديك}.

فأي حق أعظم من حق يأتي تالياً مباشرة لحق الله - سبحانه وتعالى -؟

قال ابن عباس: \" ثلاث لازمات لثلاث: وقرن بينهما فقال {وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول} فلا تتم طاعة الله إلا بطاعة الرسول، {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} فلا تتم إقامة الصلاة إلا بإيتاء الزكاة.. \" ثم قال في شأن شكر الله - عز وجل -: \" {أن اشكر لي ولوالديك} فلا يتم شكر الله إلا بشكر الوالدين \".

 

وفي حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يشير إلى ذلك ويبينه ويوضحهº لأن المكانة عظيمة في حديث أسماء - رضي الله عنها - في بيان الوجه الثاني وهو الصحبة والإحسان ولو مع الكفر لأن الله - جل وعلا - قال: {وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً}

فهل رأيتم قدرا ومكانة أرفع، من أن يكون إنسان على غير الإيمان والتوحيد، ثم يأتي أمر الله مستنزلا بالآيات بحسن صحبته، وجاءت أسماء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقالت: (جاءت إلي أمي وهي راغبة، فاستفتيت رسول - صلى الله عليه وسلم - لم يكن أحدا يصنع شيئا إلا بعد أن يعرف حكمه ومكانه في دين الله- فقالت: يا رسول الله أمي قدمت إلي راغبة أفأصل أمي؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: (نعم صل أمك)

وهذا مقام عظيم..

 

ووجه ثالث من العظمة:

أن برهما معدود من الجهاد في سبيل الله، والجهاد من أعظم الأعمال وأشرفها، وأجلها من حيث كونه بذلاً للروح، وإزهاقا لها في سبيل الله - عز وجل -، وقد جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فاستأذنه في الجهاد، فقال له - عليه الصلاة والسلام -: (أحيُّ والداك ؟ ) فقال: نعم قال: (ففيهما فجاهد) متفق عليه من حديث عبد الله بن عمرو..

 

وروى أنس أن رجلا أتى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إني أشتهي الجهاد ولا أقدر عليه - عنده عذر- فقال له الله - صلى الله عليه وسلم -: (هل بقي من والداك أحد؟ ) قال: أمي، فقال: (قابل الله في برها فإذا فعلت فأنت حاج ومعتمر ومجاهد) رواه أبو يعلى في مسنده والطبراني في معجمه بسند جيد وصححه العراقي

 

وعن ابن مسعود أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا الحديث عظيم في تقديم بر الوالدين على الأمور العظيمة والأعمال الجليلة قال: أي العمل أفضل؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: الصلاة على وقتها) فقال: ثم أي؟ قال: (بر الوالدين) قال: ثم أي؟ قال: (الجهاد في سبيل الله) فقدّم بر الوالدين على الجهاد في سبيل الله..

 

وإذا قلنا ما أعظم شيء نأمله ونرجوه؟ وما أعظم أمنية نفكر بها ونتعلق بها؟ فإن الجواب عند كل مؤمن ومسلم واحد وهو: دخول الجنة ونيل رضوان الله - عز وجل -..

فإليكم طريقاً ممهداً سالكاً موصلاً إلى تلك الغايات العظيمة، وهو بر الوالدين.

أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه دخل الجنة قال: فسمعت قراءة فسألت من هذا؟ فقيل: حارثة بن النعمان، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (نِعم البر، نِعم البر)، وكان حارثة من أبر الناس بأمه.

فهذا الربط بين إخبار النبي عن كونه في الجنة وبين بره بأمه، ظاهر الدلالة في أن هذا العمل لظهوره في حياته وعنايته به وحرصه عليه واستمراره فيه جعل له هذا المقام العالي، وتلك الرتبة الرفيعة.

 

وكذلكم جاء الحديث العظيم الذي رواه أبو هريرة وفيه يثلث النبي - صلى الله عليه وسلم - القول فيقول: (رغم أنفه، رغم أنفه، رغم أنفه) قالوا: من يا رسول الله؟ قال: من أدرك أبويه أو حدهما فلم يدخل الجنة).

أي لم يقم ببرهما ما يدخله الجنةº لأنه فرّط وقصّر أو عقّ وجحد والعياذ بالله..

 

وإذا تأملنا ذلك فإننا واجدون الصراحة والوضوح في تلك النصوص، ومن ذلك ما رواه الترمذي وصححه وابن حبان كذلك، وصححه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه أبو الدرداء قال - عليه الصلاة والسلام -: (الوالد أوسط أبواب الجنةº فإن شئت فأضع ذلك الباب أو احفظه).

قال بعض الشرّاح: \" أوسط أبواب الجنةº أي خيرها والمقصود بالوالد، الوالدان معاً \"، الأم والأب هما اللذان يكون من خلالهما باب هو خير الأبواب إلى الجنة، باب برّهما والإحسان إليهما.

 

ولو مضينا لوجدنا ذلك أكثر وأظهر، فإن معاوية بن جاهمة السلمي قال: أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت له: يا رسول الله إني كنت أردت الجهاد معك أبتغي وجه الله والدار الآخرة، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ويحك أحية أمك؟! فقال: نعم، قال: ارجع فبرها، قال معاوية: فأتيته من الجانب الأيمن فقلت له: يا رسول الله أني أردت الجهاد في سبيل الله - وكرر القول - فقال له: ويحك أحية أمك؟! قال: ارجع فبرها، قال: فأتيته من أمامه فأعاد القول، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ويحك الزم رجلها فثمّ الجنة) رواه النسائي وابن ماجه والإمام أحمد والحاكم بسند صحيح.

فهل ثمة ما هو أوضح وأظهر في الدلالة على عظمة هذا البر وهو يكرر الأمر ثلاثاً، ويريد الجهاد مصرّاً، والنبي يردّه إلى ذلك الباب والمسلك والطريقº ليمهد له به عملاً له أجره في الآخرة، وله نفعه في الدنيا بإذن الله - سبحانه وتعالى -.

 

وهكذا نرى الأمر واضحاً كما قلنا في رضا الله - عز وجل -، فقد ورد الحديث صريحاً بذلك في قوله - صلى الله عليه وسلم -: (رضا الله في رضا الوالد، وسخط الله في سخط الوالد) كما رواه أهل الحديث بسند حسن.

بل إن ثمة أمر آخر وهو أن بر الوالدين من أسباب مغفرة الذنوب، كم نصلي، كم نستغفر، كم ننفق، نبغي مغفرة الذنب، وكل عمل صالح فيه مغفرة للذنب، غير أن ذلك ورد له اختصاص.

فقد جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إني أصبت ذنباً كبيراً فهل لي من توبة؟ فقال له - عليه الصلاة والسلام -: هل لك من أم؟ قال: لا! قال: هل لك من خالة؟ قال: نعم، قال: فبرها. رواه الترمذي والحاكم بسند صحيح.

ولعلّ هذا التوجيه موضع عجب، وأحسب أن كثيرا منا ربما لم يسمع هذا الحديث من قبل، يقول: أصبت ذنباً كبيراً، يريد طريقة لتكفير الذنب، فيسأل عن أمه، فيقول: إنها ليست حية، فيقول: هل لك خالة؟ والخالة بمثابة الأم، يقول: فبرها، أي فسيكون برّها طريقاً إلى تكفير ذنبك ومغفرة ما أصابك من أثره، وهذا ولا شك من أعظم الأمور.

وكلنا يعلم كذلك أمراً آخرا وهو أثر البر في تفريج الكربات..

وأكثرنا يعرف الحديث لقصة الثلاثة الذين آواهم الغار فسقطت عليهم صخرة فسدت مخرجهم، فقالوا: لا نجاة إلا أن نتوسل إلى الله بأخلص الأعمال التي عملناها، فكان مما قاله أحد الثلاثة: أنه كان لا يسقي أبناءه وزوجه إلا بعد أن يسقي والديه، فجاء مرة بغبوق - أي باللبن- فإذا هما نائمان، فلم يشأ أن يقدم عليهما غيرهما ولم يستطع أن يزعجهما فيوقظهما، فظل واقفا حتى انبثق ضوء الفجر، قال: (إن كنت عملت هذا لوجهك وابتغاء مرضاتك ففرّج عنا فتزحزحت الصخرة)

فدل ذلك على أن من أسباب التفريجº الحرص على هذا البر.

بل إن سعة الرزق وحسن الخاتمة وبركة العمر مربوط بذلك، كما صح من حديث أن أنس: (من أحب أن ينسأ له في أثره، ويبارك له في رزقه فليصل رحمه) وأعظم الرحم وأولاها وأولها بر الوالدين.

ومن هنا كذلك جاءت رواية أخرى في هذا الحديث بلفظ آخر من حديث علي - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (من سره أن يمد له في عمره، ويوسع له في رزقه، وتدفع عنه ميتة السوء فليتق الله وليصل رحمه).

وثمة أمر مهم في غاية الأهمية، وهو أن دعاء الوالدين له خصوصية في القبول في شأن أولادهما، وإن كان الدعاء على الأبناء، أي ليس لهما.

وقد صح في الحديث قصة جريج العابد وأن أمه دعت عليه فقالت: \" اللهم لا تمته حتى يرى وجوه المومسات \" فتحققت هذه الدعوة وذكرها وقد وردت في الأحاديث الصحيحة.

وثمة حديث أيضا يوضح ذلك، وهو قول المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: (ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن: دعوة الوالد على ولده، ودعوة المسافر، ودعوة المظلوم) رواه أحمد في مسنده وقال الذهبي سنده قوي.

ومن أدل الدلائل كذلك على الأهمية أنه ما من أمر ولا من شرع ولا من حكم إلا وينتهي بانتهاء الحياة إلا هذه الشعيرة العظيمة، وهذه الوصية المهمةº فإن بر الوالدين لا ينتهي بوفاتهما، وكلنا فيما أظن يعلم ذلك الحديث الذي رواه أبو أسيد الساعدي في قصة الرجل الذي جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يسأله فيقول: هل بقي من بر أبواي شيء أبرهما به بعد موتهما؟ - وهذا دليل على حرص الصحابة، قد قضى حظه وقدرته وما يسر الله له من البر في حياة والديه، ثم جاء يسأل من بعد هل بقي شيء حتى أواصل؟ هل ثمة ما يعمل حتى أستمر - فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: (نعم، الصلاة عليهما والاستغفار لهما وإنفاذ عهدهما وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما وإكرام صديقهما).

فهل هناك دين أعظم من هذا الدين في الوصية بالوالدين حتى بعد الوفاة، ابحث عن أصدقاءهما وأكرم أصدقاءهما لأجلهما، وابحث عن أقاربهما ومعارفهما، فاجعل ذلك استمرارا لبرهما حتى بعد موتهما، وهذا من عظيم ما في ديننا هذا.

وقد طبق الصحابة ذلك، فهذا ابن عمر يلقى أعرابياً وهو في طريق السفر قرب مكة فيركبه حماره وينزع عمامته ويضعها على رأسه ويسلم عليه ويكرمه، حتى إذا انصرف قال أصحابه: إنهم الأعراب وإنهم يرضون باليسير! يعني لما صنعت ذلك كله لما هذه الحفاوة وذلك الإكرام؟ فقال ابن عمر - رضي الله عنه -: إن والد هذا كان من أهل ود عمر، وإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (إن من أبر البر صلة الولد أهل ود أبيه) رواه مسلم في صحيحه.

ولعلنا نقف في هذه القصة لأبي هريرة لنرى صورة حية من المشاعر الفطرية التي تبين لنا عظمة وسماحة ديننا، وأنه يريد الخير لعموم الناس فكيف بخصوصهم.. ألسنا نريد للكافر أن يؤمن؟ ألسنا نريد للضال أن يهتدي؟ ألسنا نريد للمنحرف أن يستقيم؟ إن لم نكن نريد ذلك فنحن على خطأ وفي انحرافº فإن أردناه فلتكن إرادتنا له لأقرب المقربين إلينا وأحب الناس إلينا وأعظمهمº فضلاً علينا وهم الوالدان..

هذا أبو هريرة يخبر يقول: كانت أمي مشركة، فكنت أدعوها إلى الإسلام فلا تستجيب، قال: فدعوتها يوما فنالت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي تكلمت عليه بما لا يليق - قال: فذهبت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا أبكي، فقلت: يا رسول الله إن أم أبي هريرة قد نالت منك وإني أدعوها - ماذا قال أبو هريرة، ماذا طلب من الرسول بعد أن سمع ما أغاضه في حبيبه علبه الصلاة والسلام - قال: يا رسول الله فادعو الله أن يهدي أم أبي هريرة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (اللهم اهد أم أبي هريرة) يقول: فرجعت مسرعاً مستبشراً بدعوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإذا بالباب مجاف - يعني مفتوحاً قليلاً - فأردت أن أدخل فقالت: مكانك يا أبا هريرة، قال: وسمعت خضخضة الماء فاغتسلت ولبست درعها، ثم خرجت وقالت: يا أبا هريرة إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، قال: فرجعت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا أبكي من الفرح وقلت يا رسول الله - وكانوا يحبون الخير - ادع الله أن يحببني وأمي إلى عباده المؤمنين، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (اللهم حبب أبا هريرة وأم أبي هريرة للمؤمنين)، قال أبا هريرة: فما رأيت أحداً من أهل الإيمان إلا وهو يحبني.

 

صورة لعظمة هذا الدين وعظمة التربية الإيمانية، انظرواً كيف كان حرص أبا هريرة كان يكرر الدعوة.. انظروا كيف كظم غيظه عندما نالت أمه من سيد الخلق - صلى الله عليه وسلم -º لأنه كان يرجو لها الخير ويؤمل لها الهداية، حزن وغضب وبكى لكنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يدعو لها بالهداية، فلما هداها الله لم يطق من فرحته إلا أن بكى فرحاً بعد أن بكى حزيناً، ثم جاءت هذه الصورة المشرقة لندرك في الحقيقة كيف كان فهم أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - للإسلام.

{وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً}

عجبا لهذا السلوك! وعجباً لهذا الدين العظيم الذي يعلمنا ذلك!

 

ولعلي هنا أقف وقفة أحسب أن الجميع سيكون ملتفتا إليهاً.. بعد هذه الوجوه كلها.. وبعد هذه الآيات الواضحات والأحاديث الصحيحة، والصور المشرقة العملية التي كانت في حياة أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - هل يتصور أحد أن يخطر بالبال عقوق للوالدين؟ هل يمكن بعد هذا كله أن يكون في النفس متسع، أو في القلب مجال لقسوة أو غلظة؟ هل يمكن بعد هذا كله أن يلفظ اللسان بما لا يليق؟

 

إن العقوق بعد هذا كله يظهر تماماً على أنه ألأم وأشد وأسوأ ما يمكن أن يصدر عن إنسان، إنه يكشف حينئذ عن انحراف في الفطرة، وضعف واختلال في الإيمان ونقص في حقيقة التمثل والالتزام بالإسلام، إنه يدلّ على انفصام بين كليات هذا الدين وحقائقه الكبرى وهدايته العظمى التي تنزلت بها الآيات، وجاءت بها الأحاديث.. ولذلك قال بعض أهل التفسير في هذا الموطنº أي في قوله {وبالوالدين إحساناً}

 

قالوا: جاء بالأمر وليس بالنهي عن العقوق، قال القرطبي: \" لأنه لا يتصور العقوق في حق الوالدين \"

كيف يمكن أن يتصور عقوق لامرأة حملتك في بطنها تسعة أشهر وأرضعتك عامين، وظلت تغذوك بحنانها وعطفها، فتسهر ليلها وتمرض في تمريضك، ويشغل بالها أمرك أكثر مما يعنيها أو يشقيها أو يتعبها شيء يتصل بها، إن الإنسان الذي يجحد بعد ذلك أو يعق يمثل الصورة الشوهاء للانحراف السيء في غاية السوء..

ومن هنا جاء الأمر بالإحسان: {وبالوالدين إحساناً}

وكذلك نتلو الآيات الكثيرة {ووصينا الإنسان بوالديه}

وذكر ذلك على التفصيل كما هو في الآيات وكما جاء في الحديث: من أحق الناس بصحبتي يا رسول الله؟ قال: أمك قال: ثم من؟ قال: أمك قال: ثم من؟ قال: أمك قال: ثم من؟ قال: أبوك.

فقال أهل العلم: \" لبر الأم ثلاثة أرباع وربع للأب، قالوا: لأنها حملت وولدت وأرضعت، وهذه كلها لا يشاركها فيها الأب \".

 

وإن كان حق الوالدين جميعاً عظيما لذلك كان من المتوقع ومن البدهي أن من يخرج عن هذه الأوامر الربانية وهذه السنن النبوية أنه قد خالف الدين مخالفة عظيمة تستوجب له وعيداً خطيراً..

ومن هنا وجدنا أن عقوق الوالدين من أكبر الكبائر مقترناً بأعظم ذنب في الوجود كله، الحديث معلوم قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر قالوا: بلى يارسول الله، قال: الشرك بالله، وعقوق الوالدين، وكان متكئا فجلس قال: وشهادة الزور وشهادة الزور، وما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت).

 

أكبر الكبائر أعظم الذنوب على الإطلاق ثانياً وتالياً بعد الشرك بالله - عز وجل -، عقوق الوالدين، وما الذي تخشاه وما الذي تخاف منه في هذه الدنيا؟ أليس حرمان رضوان الله؟ أليس الخوف من عذاب الله؟ إن الذي يخوض في هذا المضمار يستوجب الوعيد الشديد.. فقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عمر أنه قال - عليه الصلاة والسلام -: (ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، ومدمن الخمر، والمنان بعطائه، وثلاثة لا يدخلون الجنة: العاق لوالديه والديوث والرجلة) الديوث: الذي يرضى السوء في أهله، والرجلة: المرأة المتشبهة بالرجال، رواه الحاكم وصححه ورواه البزار بإسناد جيد.

 

بل إن الأمر يرى رأي العينº فإنه ما من ذنب إلا وقد يؤجل عذابه أو يقدم، إلا ذنبين اثنين لا بد أن يكون لهما عقوبة معجلة وإن بقيت لهما عقوبة مؤجلة، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه أنس عنه قال: (بابان معجلان عقوبتهما في الدنيا البغي والعقوق) رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي

وفي رواية أبي بكرة - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ما من ذنب أجدر أن يعجل لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخره له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم). وترجم البخاري في الأدب المفرد لهذا الحديث بقوله باب عقوبة عقوق الوالدين.

وعقوق الوالدين أعظم القطيعة للرحم.. فأي شيء بعد هذا يمكن أن يقال؟ وأي قول بعد قول الله وقول رسوله - صلى الله عليه وسلم -؟ وما هو واقعنا اليوم؟ كم نسمع من قصص مبكية محزنة مؤلمة! كم نرى من صور عجيبة غريبة شاذة!

 

روي عن الأصمعي في كتب الأدب أنه قال: \" عزمت أن أبحث عن أعق الناس وأبرهم.. فظل يبحث وهو يسير في حياته وهو يبحث عن هذا الأمر، قال: حتى رأيت مرة شاباً ومعه شيخ كبير مربوط بحبل ينزع دلو ماء وهذا يشتد عليه ويغلظ له ويعرض له بالضرب أحياناً، قال: فقلت له: ويحك ألا تتقي الله في هذا الشيخ الضعيف! فقال: ثم هو مع ذلك أبي. قال الأصمعي: فرأيت أنه أعق الناس، قال: ثم نظرت - أي في مجريات حياته مرة أخرى -: فرأيت شاباً ويحمل شيخاً في زمبيل كبير ثم يزق له كما يزق الطير لفرخه - يعني كل لحظة يأتي فيطعمه يأتي فيسقيه يأتي فيحمله - قال: فهذا أبي قال فقلت: فهذا أبر الناس.

 

لاحظوا الصور المتباينة.. لاحظوا الواقع الذي بلغ اليوم أن سمعنا في مجتمعاتنا ليس عن أبناء رموا بآبائهم أو بأمهاتهم في دور العجزة أو في المستشفيات وتركوهم، بل رأينا ما ولغ به الأمر إلى حد القتل وغيره، ما الذي جرى؟ هل هذه الوصايا تتلى؟ ألم نختم القرآن في رمضان؟ ألا تُقرأ هذه الآيات في الصلوات؟ ألا يعرف الناس هذه الأحاديث؟ ألم يروا كيف كانت سيرة الأصحاب؟ ألا يجدون في كل شيء من ديننا ما يدل على عظمة هذا الأمر ورفعة هذه الصفة، وأهمية هذه الخلة في حياة المسلم، وأن ضدها من العقوق هو أشنع شيء وأبشعه إن الصورة تحتاج إلى مراجعة..

نسأل الله - عز وجل - أن يجعلنا ممن يبرون آباءهم ويبرهم أبناءهم، ونسأله - سبحانه وتعالى - أن يوفقنا لكل ما يرضي آباءنا وأمهاتنا، وأن يسخرنا لرضاهما، وأن يجعل طريقنا إلى رضاء الله من رضاهما، ونسأله - سبحانه وتعالى - أن يحسن ختام من بقي له من آباءه وأمهاته، ونسأله - عز وجل - أن يبعدنا ويجنبنا عن كل ما يسخطهما أو يسيء إليهما.. إنه ولي ذلك والقادر عليه.

أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية

أما بعد معاشر الأخوة المؤمنين:

أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، وإن من أعظم أبواب تقوى الله بر الوالدين وأحسب أنه مهما أطلنا الحديث وأعدناهº فإن الأمر يستحق، وإن المسألة تستدعي، وإن الواقع يدلنا على وجود خلل كبير في هذا الباب.. ما الطريق إلى تقويمه؟ ما الطريق إلى رجوعه إلى جادة الصواب؟

أمور كثيرة يضيق المقام عن حصرها،

لكن أولها وأعظمها: التدبر في كتاب الله والاغتراف من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

لأن الحديث ليس حديث هذا الرجل أو ذاك، وليست موعظة ذلك الواعظ أو هذا، وليس استنباط ذلك العالم أو غيره.. إنه كلام الله وهدي رسوله - صلى الله عليه وسلم -º فإن كنت مؤمناً ومسلماً فالمخاطب لك هو الله، والموجّه لك هو رسوله - عليه الصلاة والسلام -.

 

والأمر الثاني الذي يعين على ذلك: استحضار فضل الوالدين

كما دلت على ذلك الآيات {وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً}.

تذكّر نفسك وحالك وأنت طفل لا تملك من ديناك ولا من أمرك ولا من حالك ولا من تدبير شئونك شيئاً.. تذكّر كل تلك الفضائل التي لا يمكن بحالٍ, من الأحوال أن تقدر قدرهاº فضلاً عن أن توفي حقها، لو أن كل عاق أو كل مخطئ في حق والديه إذا أراد أن يلفظ الكلمة أو إذا أعرض أو إذا صنع شيئاً من ذلك تذكر الحليب التي أرضعته إياه أمه، المال الذي أنفقه عليه أبوه، الحماية التي كان يتعرض فيها للمصاعب والمخاطر لكي يحميه.. لو تذكر قبضة أو انقباضة من انقباضات وقت الولادة ومخاضها، لشعر أنه قد أجحف في حق نفسه، وأنه ينبغي له أن يطأطئ رأسه خجلاً من تصرفه، وأنه قد أتى بما لا يليق بحال من الأحوال حتى إن البهائم وهي بهائم تعطف الأمهات على أبناءها، ونرى الأبناء وكيف هم يرتبطون بأمهاتهم وهذه سنة فطرية في الخلائق، فكيف بالإنسان الذي أعطاه الله العقل وأنزل عليه التشريع، وضرب له الأمثلة من رسل الله وأنبياءه، وصالح الأمة وعلماءها وأفاضلها..

 

وأمر ثالث كذلك وهو: استحضار الثواب والفضل والأجر في البر

رأينا أن طريق الجنة عبرهما ورأينا أن استنزال رضاء الله برضاهما، ورأينا أن تكفير الذنوب بالإحسان إليهما، ورأينا أن تفريج الكروب بإكرامهما.. أي شيء نريد كل ما نريده نجد طريقه يمر عبرهما، فلما نفكر في ذلك ونتأمله.

وانظر إلى الجانب الآخر المقابل وهو التذكر للوعد والوعيد والعقوبة المنتظرة في الدنيا قبل الآخرة لكل من أساء ولو بكلمةº لأن الله قال: {ولا تقل لهما أفٍ, ولا تنهرهما}.

جاء بالأدنى وجاء بما قد يكون الأعلى إذاً فذلك كله يعين.. ومما يعين كذلك، ذكر سير أهل البر بآبائهم وأمهاتهم، قصة أبي هريرة نموذج من نماذج عدة ليست في حياة الصحابة فقط بل في حياة الصحابة والتابعين وصلحاء المؤمنين إلى يوم الناس هذا.. انظر كيف يكون التوفيق حليفهم.. انظر كيف تكون السعادة مالئة قلوبهم، انظر كيف يكون الأثر في أبناءهم لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (بروا آباءكم تبركم أبناءكم).

والأمر في هذا ظاهر الدلالة، والحساب فيه والقصاص بين للعيان.. فكم رأينا من مسيء لوالده -والعياذ بالله - إنما كان ذلك من إساءة والده له والعكس كذلك، من عقّ آباءه فإنه يجد العقوق من أبناءه وذلك ظاهر.

 

ثم أمر مهم - أيها الأخوة الأحبة - أداء الوالدين لأدوارهم وقيامهم بواجبهم، هو أيضا من أسباب البر، هل علّمت ابنك كتاب الله وسنة رسوله، هل وجّهته إلى الخير؟ هل كنت قريباً منه؟ هل حرصت على تربيته؟ هل أحسنت في اختيار أصدقاءه؟

ذلك هو الطريق الذي يعود عليه بالخير في استقامة في سلوكه وبراً بأبيه وأمه، أما إن أسلمته للضياع وألحقته برفقاء السوء، وغبت عنه لا تدري ما يصنع ولا ما يقول ثم تعض أصابع الندم وتقول: عقني!

ما عقك إلا من تفريطك وتقصيرك..

والأمر يطول والحديث يتكرر في مثل هذا، ويلحق به ما هو في هذه الآيات كذلك {ولا تقتلوا أولاكم خشية إملاق نحن نرزقكم وإياهم}º ليس المقصود في كل آن ما كان عند أهل الشرك من أنهم يقتلون أولادهم كما كان في بعض أحوال الجاهلية، فبعض الناس يقتل ابنه اليوم، يوم لا يرشده ولا يعلمه ولا يربيه، يوم يبعثه إلى بلاد الكفر أو إلى بلاد فيها الفساد والانحراف العقدي والخلقي، فكأنما هو يقتلهº لأنه يقتل إيمانه ويقتل خلقه ويقتل فضيلته ويقتل شرفه وخيره وغير ذلك.

إذاً هذا باب آخر من الأبواب، وثمة أبواب أخرى كثيرة ومنها التذكير الدائم بهذه المسألة والحديث يطول والمقام يقصر..

نسأل الله - عز وجل - أن يحفظنا وأن يحفظ لنا آباءنا وأمهاتنا وأن يشيع البر في أبناءنا وبناتنا، وحسن التربية والرعاية في آباءنا وأمهاتنا..

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply