بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى:
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، إنَّ للمرءِ المسلم كَمالاً في الفضائل ينبَغي له أن يَطلبه حثيثًا، كمَا أنّه في الوقتِ نفسه عرضةٌ لنقصٍ, وخلَل بسبب رذائلَ يجب عليه الترفٌّع عنها، فكمال المرء يكمُن في استيفاءِ أكبرِ قدرٍ, منَ الفضائل، ونقصُه يبرز جليًّا في التِياثِه برذيلة من الرذائل. ثم إنَّ الفضائلَ المحمودة ما هي إلا سجايَا للنفس المؤمنة، من مُقتضاها التأليفُ والتآلف بين المتَّصِفِين بها على حدٍّ, سواء، فالعَفيفان من الناس مثلاً يعرِفان حدودَهما، فيقفان عندها، ولا يتَزاحمان على مشتَهًى من المشتَهَياتº لأنَّ مِن خلُق كلٍّ, منهما التَّجافي عن الشهوة وحبِّ الذات، وكذا الباحثان عن الحقيقةِ، لا يتنازَعان، ولا يتشاحَنانº لأنَّ غايتَهما واحدة وهي الحقّ، والحقٌّ ضالَّة المؤمن، متى وجدَها أخذ بها، وسجِيّة الباحِثَين عن الحقيقةِ هي بذلُ الوسع في الوصول إلى الحقِّ، فلا يوجد حينئذٍ, [مَوضِع] للنزاع عند معاطاةِ الوَسائل المؤدِّية إلى الحقيقةِ التي أرادها الله وأرادها رسوله.
وقولُوا مثلَ ذلكم ـ عباد الله ـ في جميع ما عُدَّ من الفضائل في شريعتِنا الغرّاء، حيث نجِد أنَّ مِن لوازم كلِّ فضيلة من الفضائل التآلفَ بين المتّصِفين بها من حيثُ الأثر الناشِئ عنها، ولا غَروَ حين نجِد الفضيلةَ إذا توافَرت في شَخصين مالت نفسَاهما إلى الاتِّحاد والالتئام في الأعمال والمقاصِد، ودامَت الوحدة بينهما بمقدارِ تمكّن تِلكم الفضائل فيهما.
وعَلى هذا النحو يَنتقِل الأمر من الأفرادِ إلى الأسر المكوَّنة من الأفراد، ثمّ إلى المجتمع المكوَّن من الأسَر، ثم إلى الأمّة المكوَّنة من المجتمعات، فمَناط الوحدة بين هؤلاء جميعًا هي القِيمة المعنويّة للفضائل الرّاسخة فيهم، حتى يُرَى الجمهور من الناس كواحدٍ, منهمº يتحرَّك بإرادة واحدةٍ,، ويطلب غايةً واحدة وهي الصراط المستقيم الذي أوصى الله به في قوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُستَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السٌّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُم عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُم وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153].
وإذا ما كانَتِ الغايةً واحدة فإنَّ مجموع الفضائل يُعدّ هو العَدل في جميع الأعمال، فلا يمكِن أن يتجاوزَ أحد من الجمهورِ في عَمله ما يمسّ به حقًّا للآخر الذي يشترِك معه في الوسيلة الموصِلة إلى الغاية وهي الحقّ عند كلٍّ,.
إذا عُلِم ذلكم ـ عبادَ الله ـ فإنَّ الفضائل في بعض معايير الحضارةِ الوافدة كغيرها من القِيَم الأخلاقيّة التي تحدِّدها النّسبيّة، مع القابليَّة لأن توزَن بميزانين أو تُكال بمكيَالَين عند من ابتغى غيرَ الإسلام دينًا.
أمّا الفضائل في الإسلام فَهي قيمةٌ مُطلَقَة لا مجالَ للنسبيّة فيها، فالقَبيح قبيح، والحسن حسنٌ، وهناك فضائل مشتركَة يستوي في التكليف بها جميع آحادِ المسلمين، وهناك فضائلُ تختَصّ بكلّ واحدٍ, وفقَ مهنَتِه وصنعته وفنّه، فقد يُطلَب شيء من الطبيبِ ويُعدّ من الفضائل، ولا يطلَب مثل هذا الطّلَب من النجار، وقد يطلَب من العالِم ولا يطلَب من الورّاق، وقد يطلب من الحاكِم ولا يطلَب من السّوقَة، غيرَ أن المصبَّ الأخير يكون في القيمةِ المطلقة للفضائِل التي تؤلِّف بين أفرادِ المجتمع في منظومةٍ, واحدة يعمٌّها اسمٌ واحد، والأفرادُ في هذه المنظومة كأعضاء تختلِف في وظائفها وأشكالها، وكلُّ يؤدّي عملَه لبقاء البنية الجامعةِ، كما أودع الله في أعضاءِ أبداننا ما يقوم به كامِلُ الجسد مع وقوفِ كلِّ عضو عندَ حدِّ وظيفتِه، فلا يطلَب من اليد أن تبصِر، ولا يطلب من العَين أن تبطِش، ولا يطلب من الأذُن أن تمشي، ولا يطلَب من الرِّجل أن تسمَع، مع أنَّ الكلَّ حيّ بحياةٍ, واحدة، غيرَ أنَّ اليد بها البَطش، والعين بها الإبصار، والأذنَ بها السمع، والرِّجل بها المشي، وأيٌّ اختلالٍ, يموج بهذه الوظائف فهو اصطِفَاف في مصافِّ الأنعام، بل هو أضلّ كما قال - سبحانه وتعالى -: {وَلَقَد ذَرَأنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِن الجِنِّ وَالإِنسِ لَهُم قُلُوبٌ لا يَفقَهُونَ بِهَا لَهُم قُلُوبٌ لا يَفقَهُونَ بِهَا وَلَهُم أَعيُنٌ لا يُبصِرُونَ بِهَا وَلَهُم آذَانٌ لا يَسمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنعَامِ بَل هُم أَضَلٌّ أُولَئِكَ هُم الغَافِلُونَ} [الأعراف: 179].
وقولوا مثلَ ذلِكم ـ عبادَ الله ـ في وظائفِ المجتمع المتنوِّعَةº إذ لا يَسوغ للطَّبِيب أن ينصِّبَ نفسه مفتيًا، ولا يطلَب منه ذلك، وللمفتي أن يكونَ طبيبًا، ولا للصّحَفي أن يكون فقيهًا، ولا يقبل مِنه ذلك، فالحاكم للحُكم، والفَقِيه للفَتوى، والطبيب للطّبِّ، والصّحفيّ للصحافة، وإلا فستَختَلّ المعايير، وتنقلِب الفضائل، ولن يُلامَ بعد ذلك من يَأكل المِلحَ ليدفعَ به العَطَش، ولا من يَشرَب الماء ليدفعَ به الجوعَ، ولا من يستنشِق الغاز ليتنفَّس.
إنَّ أيَّ أمةٍ, يكون الدافِع فيها والرافع والحارِس والزارع والعالم والحاكِم إنما هم بنوها وأفرادها مِن هاماتها أو مِن لهازِمها وليس هو الأجنبيّ عَنها، ويكون كلٌّ فردٍ, منها آخذًا بحقِّ الكلّ، لا يسلك مقصدًا يعكس مقصدَ الكلّ، ولا غايةً تميل به عن غايةِ الكلّ التي خلَق الله العبادَ لأجلِها، فهي الأمّة التي علَت فيها الفضائل، وسادَت في أوساطها مكارم الأخلاق، وما يكون في تِلكم الأمّة من اختلافٍ, في التنوع لا في التّضادّ فإنما هو من باب تنوّعِ جلب المنافع واستِكمالِ المصالح، كالجَداول التي تمدّ البحرَ لتستمدّ مِنه. ولا يحقرنَّ أحدٌ منا نفسَه وسطَ هذا الكمّ الهائل من أفراد الأمة، فالواحد منّا وإن كان صغيرًا فلاَ أقلّ من أن يكونَ لبِنةً أو حجَرة صغيرة في هذا البنيان الكبير، ربما كان بعضُ الهدم بسبَب سقوطها.
فما عَلينا ـ عبادَ الله ـ إلاّ أن ننظرَ في حقائقِ الفضائلº لنحكمَ بما ينشَأ عنها من الأثَر على حاضِر الأمّة ومستقبَلها، فالعفّة والسخاء والرحمةُ والتواضع والقناعَة والدماثة وعلو الهمَّة والتعقٌّل والتروِّي والحِلم والإيثار والشجاعة في الحقّ مع الوفاء والصّدق والأمانة وسَلامة الصدر وغير ذلكم من الفضائل تُرَى لو عمَّت هذه الصفاتُ جُلَّ أفراد المجتمع أيبقى بعد ذلكم للفرقةِ سبيل؟! أمَا والله، إن تَوافرَها ليحيي مواتَ المجتمعات وينبِت قفرَها ويمطر جدبها. وأيّ أمة أولَى بأن تبلغَ مثل هذا الكمال في السّجايا غير الأمة التي قالَ نبيٌّها: ((إنما بعِثتُ لأتمِّم مصالحَ الأخلاق)) رواه أحمد والبخاري في الأدب المفرد[1]؟!
والحاصلُ ـ عباد الله ـ أن أصولَ الأخلاق والتحلِّي بحليةِ الفضائل وتطوِيعَ القوى في المجتمَعَات على العَمَل بآثارِها إنما يكون بالدِّين، ولن يكملَ أثَر الدّين في نفوسِ الآخذين بهِ والمنتَمِين إليه فيصيبوا به حظَّيِ الدنيا والآخرةِ إلاّ إذا قام حملةُ الدين ورؤسَاؤه وحفَظَته بأداءِ ما أوكل الله إليهم مِن تبيين أوامره ونواهيه وتثبيتِها في العقول والقلوب ودَعوة الناس إليه وتهيِئَة السّبل لهم للعمَل به وتذكيرهم بأيّام الله، إنهم لو فَعَلوا ذلك لرأَينا الأمّةَ الإسلامية ناشطةً من عِقالها، وليس للناس على الله حجّة، فلا بدّ من توجيه العنايةِ إلى رَتق الفَتق قبل اتِّساعه وتدارُك العلة قبل استِحكامها، وإلاّ فسيميل ميزان الاختيار مع الهوى، فتعمّ الشّهوة، وتحكم الشبهةُ، ويصير منطق الناس: \"الدّنيا أولاً ثم الآخرة\"، والله - جل وعلا - قال في محكَم التنزيل: {وَابتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِن الدٌّنيَا وَأَحسِن كَمَا أَحسَنَ اللَّهُ إِلَيكَ وَلا تَبغِ الفَسَادَ فِي الأَرضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبٌّ المُفسِدِينَ} [القصص: 77].
بارَك الله لي ولكم في القرآنِ العَظيم، ونفعَني وإيّاكم بما فيهِ من الآياتِ والذّكرِ الحكِيم، قد قلتُ ما قلت، إن صوابًا فمِنَ الله، وإن خطأً فمن نفسِي والشيطان، وأستغفِر الله إنّه كانَ غفّارًا.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحدَه، والصّلاة والسّلام على من لا نبيَّ بعدَه.
وبعد: فاتقوا الله عبادَ الله، واعلموا أنَّ في مقابل الفضائلِ التي ترتَفِع بالمجتمعات المسلِمة رذائلَ تعرِض للأنفس بكيفيَّات خبيثة، من مقتضاها النٌّفرة والتفريق بين النّفوس التي غشِيَتها تلكم الرذائلُº كقلّة الحياء والبَذاء والطَّيش والسَّفَه والتعالي والجبنِ والدناءة والأثَرَة والحِقد والحَسَد والخصومة والمِراء والغَدر والكذب والنفاق، فما من نفسَين تَلتَاثان بصفةٍ, من هذه الصفات إلاَّ أغرت بينهما العداوةَ والبغضاء، وذهبت بهما مذهبَ الفُرَقَاء حيث لا يبقى بعد ذلك أمَلٌ في الوفاق، إمّا لأنَّ من طبع أحدِهما أو كليهما مجاوزةَ الحدود في الاعتِداء على الحقوق، وإمّا السقوط إلى ما لاَ يمكن معه لواحدٍ, منهما أداءُ الواجب من الفضائل عليه لمن يشارِكه من بني جنسه وملته، فما ظنّكم ـ يا أجَاركم الله ـ بشَخصَين وقِحَين ألِدَّين خصِمَين جبانين بخيلين حاقِدين حاسدين، هل يمكن أن يجمَعَهما مقصِد أو توحِّد بينهما فِكرة؟! كلاº لأنَّ هذه الرذائلَ إذا فشَت في مجتمعٍ, مَا قوّضَت بنيانه وبدّدَته شذَر مَذَر، فاستطالَ الأمر برمَّتِه إلى جمهور أفرادِ المجتمعات، وساعد المخذِّلون والمرجِفون وبعضُ الإعلامِ اللاهث وراءَ البلبلة في إذكاءِ مثل هذه السَّواقِط، ومن ثَمَّ تتقاذَفها المجتمعات في كلّ اتجاهٍ, حتى تصيرَ سجيّة يتخلَّق بها الكثير من الناس، فيستدعِي مثلُ هذا الطبع الاجتماعيّ أن تَسطوَ على هذه الأمّة قوّةٌ أجنبيّة عنها لتأخذَها بالقهر وتصرِفها في أعمال الحياة بالقَسر تحت غِطاء الحرّيّة القاتم.
إنَّ مثلَ هذه الرذائل إذا رسَخت في نفوس أقوامٍ, صار بأسهم بينهم شديدًا، تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى، يراهم كلّ رامِقٍ, بعينِه أعزّةً بعضهم على بعض، أذلّةً للأجنبيّ عنهم، يدعونهم للسيادةِ عليهم، ويفتخرون بالانتماءِ إليهم، حتى يبدِّلوا بهذه الرذائل جملةَ المفاهيم الرفيعة تجاهَ الفضائل، فلا عجب إذا انقلَبَت المعايير حينئذ، فرَأوا كلَّ حسنٍ, من أبناء ملَّتِهم ومجتمعهم قبيحًا، وكلَّ جليلٍ, حقيرا، إذا نطَق الأجنبيّ عنهم عَدّوا منطقَه من جوامع الكلم ونفائِس الحِكَم، وإذا صدق الواحد منهم ربما عدّوه من سقط المتَاع وقالوا بلسان حالهم أو مقالهم: لا يمكن أن يكون بيننَا عارِف أو خبير. يكثُر ارتيابُ أمثال هؤلاء في الصادِقين المخلِصين في خدمةِ دينهم ومجتمَعاتهم وإن قامت على صدقِهم البراهين.
هذه هي أسباب عِثار المجتمعات المسلمة والعَقَبات القاعِدة بكل صراطٍ, توعِد وتصدّ عن رفعةِ الأمة والنهوض بها إلى سفينةِ النجاة الماخرة.
ألا فاتقوا الله رحمكم الله، واعتصموا بحبل الله جميعًا تفلحوا، والتزموا بدينه تغلبوا، {وَاللَّهُ الغَنِيٌّ وَأَنتُم الفُقَرَاءُ وَإِن تَتَوَلَّوا يَستَبدِل قَومًا غَيرَكُم ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمثَالَكُم} [محمد: 38].
هذا وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على خير البريّة وأزكى البشرية محمّد بن عبد الله، فقد أمركم الله بأمر بدأ فيه بنفسه، وثنى بملائكتِه المسبِّحة بقدسه، وأيّه بكم أيّها المؤمنون، فقال - جل وعلا -: {يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلٌّوا عَلَيهِ وَسَلِّمُوا تَسلِيمًا} [الأحزاب: 56].
اللهمّ صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد...
----------------------------------------
[1] مسند أحمد (2/318)، الأدب المفرد، باب: حُسن الخلق (273) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، ورواه أيضا ابن سعد في الطبقات (1/192)، والبيهقي في الكبرى (10/ 191)، وصححه الحاكم (2/616)، ووافقه الذهبي، وقال ابن عبد البر في التمهيد (24/333): \"حديث صحيح متصل من وجوه صحاح عن أبي هريرة وغيره\"، وخرجه الألباني في السلسلة الصحيحة (45).
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد