بسم الله الرحمن الرحيم
إنَّ الحمدَ لله نحمدهُ ونستعينهُ ونستغفرهُ ونستهديه، ونعوذُ باللهِ من شُرُورِ أنفسنا ومن سيئاتِ أعمالنا، من يهدهِ اللهُ فلا مُضلَ له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلاَّ الله وحدهُ لا شريكَ له وأشهدُ أن محمداً عبدهُ ورسولهُ- صلى الله عليه وعلى آلهِ وصحبهِ وسلم- تسليماً كثيراً.
أيها المسلمونَ:
الإسلامُ دينُ العزةِ والكرامةِ، ودينُ السموِّ والارتفاعِ، ودينُ الجدِّ والاجتهادِ، فليسَ دينَ ذلةٍ, ومسكنةٍ,، ولا دينَ كسلٍ, وخمولٍ, ودعةٍ, قالَ - عليه الصلاة والسلام -: \" إنَّ اللهَ - عز وجل - كريمٌ يحبُ الكرماءَ و يحبُ معاليَ الأمورِ، ويكرهُ سفسافَها \"[1]
أيها الأخوةُ في الله ِ:
إن من الأمراضِ التي تُعاني منها الأمةُ في وقتِنا الحاضرِ مرضَ دناءةِ الهممِ وضعفِ العزائمِ وتقاصرِ النفوسِ والميلِ إلى الدعةِ، وإيثارِ الراحةِ، والإخلادِ إلى الأرضِ والقعودِ عن المكارمِ، والولعِ بمحقراتِ الأمورِ، أصبحت هممُ الناسِ محصورةً في مطاعِمِِهم وملابسِهم، أما طلبُ المعالي، ونشدانُ الكمالِ، فلا يخطرُ له ببالٍ,، ولا يحومُ لهم حولَ ما يشبههُ خيالٌ.
انظر إلى هممِ الناسِ في طلبِ العلمِ فإنّ الكثيرَ لم يقضِ حقَّ العلمِ بل لم يدرِ ما شرفُ العلمِ ذلك الذي يطلبُهُ لينالَ بهِ رِزقاً، أو ينافسَ فيهِ قريناً، حتى إذا أدركَ وظيفةً، أو أنسَ من نفسِهِ الفوزَ على القرينِ أمسكَ عنانهُ ثانيةً، وتنحَّى عن الطلبِ جانباً..وانظر إلى هممهم في الدعوةِ إلى هذا الدينِ فكم منَ المسلمينَ من يتوانى عن هذا الشَّرفِ العظيمِ مَعَ ما عِندهُم من العلمِ والبيانِ، وكم ممن يدعو إلى اللهِ من تضعفُ نفسُهُ، وتدنو هِمَّتُهُ عندَ أدنى عقبةٍ, تعترِضهُ، إمَّا من كلامِ الناسِ أو من إعراضِهم، أينَ هؤلاءِ مِن سيرِ الأنبياءِ والمرسلينَ والعلماءِ العاملينَ، والدعاةِ المخلصينَ؟ بل أين هُم مِن أهلِ الباطلِ ودعاةِ الضلالِ الذين يجهدونَ ويألمونَ في نَصرِ باطِلِهم، وهم لا غايةً شريفةً لهم يطلبُونها؟ بل أينَ هم من عشاقِ المناصبِ، ومن ضحايا الغرامِ والغزلِ، ممن يُضحِّي أحدهم بكل ما يملكُ في سبيلِ مطلوبِهِ.
إن هذا هو المصابُ الجللُ، والخطبُ الفادحُ أن تجدَ أنصارَ الحقيقةِ ودعاةَ الحقِّ متخاذلينَ متضعضعينَ، يفقدونَ روحَ الصبرِ والمصابرةِ، وخلُقُ الجدِّ والمثابرةِ،
أيها الأخوةُ في اللهِ:
إن هذا الداءِ العضالِ ما أصابَ الأمةَ وانتشرَ فيها إلا بأسبابٍ, وأعظمُ تلكَ الأسبابِ الوهنُ ((حُبٌّ الدٌّنيا وكراهِيةُ الموتِ)).
يقولُ اللهُ جلَّ جلالُهُ: ((يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُم إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلتُم إِلَى الأَرضِ أَرَضِيتُم بِالحَيَاةِ الدٌّنيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الحَيَاةِ الدٌّنيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ)) (التوبة: 38).
فثقلةُ الأرضِ ومطامعِ الأرضِ وتصوراتُ الأرض، ثقلةُ الخوفِ على الحياةِ والخوفِ على المالِ والخوفِ على اللذائِذِ والمصالحِ والمتاعِ، ثقلةُ الدعَةِ والراحةِ والاستقرارِ، ثقلةُ اللذاتِ الفانيةِ والأجلِ المحدودِ والهدفِ القريبِ، ثقلةُ اللحمِ والدمِ والترابِ، تشدٌّ إلى أسفلَ، وجاذبيةُ الأرضِ تقاومُ رفرفةَ الأرواحِ وانطلاقَ الأشواقِ قال الله - تعالى -: ((إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبٌّونَ العَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُم يَوماً ثَقِيلاً)) (الإنسان: 27).
إن هؤلاءِ القريبي المطامِحِ والاهتماماتِ، الصغارَ المطالبِ والتصوراتِ، هؤلاء الصغار الزهيدين الذين يستغرقون في العاجلة، إنَّ هؤلاءِ لا يُطاعونَ في شيءٍ,، ولا يُتبعونَ في طريقٍ,، ولا يلتقونَ مع المؤمنينِ في هدفٍ, ولا غايةٍ,، ولا يؤبَهُ لما هم فيهِ من هذهِ العاجلةِ من ثراءٍ, وسلطانٍ, ومتاعٍ,، فإنما هي العاجلةُ، وإنما هو المتاعُ القليلُ، وإنما هُمُ الصغارُ الزهيدُونَ [2].
قدمَ ابنُ عمٍّ, لمحمدِ بن واسعٍ, عليهِ فقالَ لهُ: من أينَ أقبلتَ؟ قال من طلبِ الدٌّنيا. فقالَ لهُ هل أدرَكتها؟ فقالَ لهُ: لا فقالَ محمدٌ: يا سبحانَ اللهِ! أنتَ تطلُبُ شيئاً ولم تدركهُ، فكيفَ تدركُ شيئاً لم تطلبهُ؟!
أيها المسلمُ إنما خُلقت الدٌّنيا لتجوزَها لا لتحوزَها، ولتعبرَها لا لتعمرَها، فواعجَبا لِذي لبٍّ, كيف ينفقُ العمرَ الشريفَ في طلبِ الفانيِ الرذيلِ؟ إنَّ الهوى مِرعادٌ مِبراقٌ، بلا مطرٍ,، الدٌّنيا لا تساوي نقلَ أقدامِكَ في طلبِها، أرأيتَ غزالاً يغدو خلفَ كلبٍ,؟ إن الدنيا أسحرُ من هاروتَ وماروتَ، ذانِكَ يفرقانِ بين المرءِ وزوجهِ، وهذهِ تُفرقُ بين العبدِ وربهِ! وكيفَ لا، وهي التي سحرت سحرةَ بابلَ، إن الدٌّنيا إن أقبلت شغلت، وإن أدبرت قتلت.
أيها المسلمونَ:
ومن أسبابِ ضعفِ الهممِ سوءُ التربيةِ المنزليةِ.
فالتربيةُ المنزلية لها دورٌ عظيمٌ في توجيهِ الأولادِ سلباً أو إيجاباًº فالبيتُ هو المدرسةُ الأولى للأولادِ، والولدُ قبلَ أن تربيهِ المدرسةُ والمجتمعُ يربيهِ البيتُ والأسرةُ، وهُو مدينٌ لوالديهِ في سلوكِهِ المستقيمِ، كما أن والديهِ مسؤولانِ إلى حدٍ, كبيرٍ, عن انحرافِه وفسادهِ، فكم ممن أشقى ولدهُ، وفلذةِ كبدهُ في الدنيا والآخرةِ بإهمالِهِ، وتركِ تأديبِهِ، وإعانتِه على شهواتِهِ، ويزعُمُ أنه يُكرمُهُ وقد أهانَهُ، وأنه يرحمُهُ وقد ظلمُهُ، فكم من الناسِ من يُربِّي أولادَهُ على الميوعةِ والترفِ، والبذخِ والطيشِ، فينشأ الولدُ مترفاً منعماً، همهُ خاصةُ نفسِهِ فحسبُ، فلا يهتمٌّ بالآخرينِ، ولا يسألُ عن إخوانِهِ المسلمينَ، فلا يشاركُهم أفراحَهُم، ولا يشاطِرُهم أتراحَهم.
وكم من الناسِ من لا يُربِّى أولادهُ على معالي الأمورِ، وإنما يربيهم كما تُربِّي الخرافُ سواءٌ بسواءٍ,، فلا همَّ لهُ من أولادِهِ إلا مطعمِهِم وملبسهُم، وتلبيةُ كافةِ رغباتِهم، أما ما عدا ذلكَ فلا يخطُرُ له ببال، ومن هنا ينشأ الولدُ بليداً ساقطَ الهمةِ، قليلَ المروءةِ..
ومن الناسِ من هُو بعكسِ ما مضى، حيثُ تجدُهُ يشتدُ على أولادِهِ، ويقسو عليهم أكثرَ من اللازمِ.. ومنهم من يهزأ بهِم ولا يرى أنهم أهلٌ لشيءٍ, من المكرماتِ، ومنهم من لا يأبَهُ بمحادثةِ أولادهِ، ولا يُلقي بالاً لتعليمِهم آدابِ الحديثِ وطرائِقِه ومنهم من يشتدُ بالتقتير عليهم ورُبَّما قصرَ عليهم في حاجاتِهمُ الضروريةِ مع قدرتِهِ على توفِيرها لَهُم، إن هذه الأنماطَ من التربيةِ مما يحولُ بين الأولادِ وبين عزةِ النفسِ وما يتبعُها من قوةِ القلبِ وأصالةِ الرأيِ، بل هي مما يُولَّدُ الخوفَ في نفوسِهم، ومما يورثُهُم الذلةَ والمهانَة والخجلَ الشديدَ وفقدانَ الثقةِ بالنفسِ.
ومن أسبابِ دُنوِّ الهمةِ صحبةِ البطالينَ ومرافقةُ المخذلينَ:
إن مجالسةَ البطالينَ والمخذلينَ ومرافقتَهم تنساقُ بصاحِبها إلى الحضيضِ فكلما همَّ بالصعودِ عوقوهُ عن همتِهِ، وثنوهُ عن عزمتِه، تارةً بالتخذيلِ وتارةً بالتخويفِ، وتارةً بوضعِ العراقيلِ وهكَذا، ولو لم يأتِهِ من مجالسةِ هؤلاءِ إلا أنهُ يقارِنُ حالهُ بحالِهم، فيتعاظمُ في نفسِهِ، ويرى أنهُ أرفعُ منهم قدراً، وأعلا منهم منزلةً، فلا يسعى في إصلاحِ حالِهِ، ولا في رفعِ شأنِهِ، بل ربما قادهُ ذلك إلى مقارنةِ سيئاتِهِ بسئاتهِم، فيستقلٌّ سيئاتِه بجانِب سيئاتهم، فيجُرٌّهُ ذلكَ إلى الجرأةِ والإقدامِ على فعلِ الموبقاتِ والآثامِ..
ومن أعظمِ أسبابِ دنو الهِممِ أيها الأخوةُ: اختلاقُ المعاذيرِ، والتماسُ المسوغاتِ.
التي نسوِّغُ بها إخفاقَنا، ونعلقُ عليها عجزنا. وكثيراً ما تكونُ تلكَ المعاذيرِ مجردَ أوهامٍ, لا حقيقةً تحتها، فلا تزالُ تلك الأوهامُ تكبرُ شيئاً فشيئاً حتى تكوّنَ لنا سداً كبيراً منيعاً، حِجارتُهُ سوءُ الظَّنِّ أحياناً، وتخذيلُ النفسِ أحياناً، والشَّكٌّ في النتائجِ والخوفِ من الإخفاقِ أحايينَ أُخَرَ.. وقد تكونُ تلكَ المعاذيرِ سبباً حقيقياً لدنوِّ الهمةِ كقلةِ ذكاءٍ, أو كبرِ أو قلةِ التوفيقِ أو نحوِها إلا أنهُ لا يليقُ بالعاقلِ أن يستسلِمَ لها أو أن يسترسِلَ معها، فمَهما يكن من شيءٍ, فإنَّ الفرصةَ متاحةُ، وإن البابَ لمفتوحٌ على مصراعيهِ لمن أرادَ المعالي وسعى لها سعيَها، فالإنسانُ بتوفيقِ اللهِ ثم بعزمِهِ، وهمتِهِ وتربيتِهِ لنفسِهِ قادرٌ على التغلبِ على كثرِ من العقباتِ والصعابِ.
فهذا ابنُ عقيلٍ, الحنبليٌّ - رحمه الله - يقول: (وإني لأجدُ من حِرصي على العلمِ وأنا في عُشرِ الثَّمانينَ أشدَّ مما كنتُ أجدٌّهُ وأنا ابنُ عشرينَ سنةً)
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم..
الخطبة الثانية:
أيها المسلمونَ:
إنَّ اللهَ وضعَ أمةَ محمدٍ, موضعَ القيادةِ للبشريةِ حثاً لها على علوِّ الهمةِ فهي الأمةُ الوسطُ، وهي الشاهِدةُ على جميعِ الأممِ، وتلكَ مسؤوليةٌ عُظمى، وأمانةٌ كُبرى، تتطلبُ جداً، واخلاصاً وعزماً ومضاءً.. بل إن اللهَ توعدَ هذه الأمةَ أن يستبدِل غيرَها إن هي تولت عن القيادةِ، وأخلت بالأمانةِ قال - تعالى -: ((وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم)).
وفي ذلكَ غرسٌ لخلقِ الهمةِ في نُفُوسِ المسلمينَ، وحفزٌ لهم كي يتحلَّوا بخصالِ الهمةِ العاليةِ من اختراقِ للصعابِ، وتحملٍ, للمشاقِّ واستهانةٍ, بما يعترِضُهم من آلامٍ, ومتاعبَ.. ولقد كانت حياةُ رسولِ اللهِ r مليئةً بألوانٍ, من تربيةِ المسلمينَ على علو الهمةِ.
ولقد كانَ مثالاً يحتذى، ونهجاً يُقتفى في كرمِ نفسِهِ، وشرفِ همتِه، فهو أعلى البشريةِ همةً بكلِّ ما تحملُهُ هذه الكلمةُ من معنىً.
لهُ هممٌ لا مُنتهى لِكبارِها وهِمَّتُهُ الصٌّغرى أجلٌّ من الدهرِ
ثُمَّ إن أصحابَهُ الكرامَ، الذينَ وَرِثُوا عنهُ العلمَ والعمل، كانَ لهمُ القدحُ المُعلَّى، والنصيبُ الأوفى من هذا الخلقِ الأسمى.
فإن أتيتَ إلى عبادتهِم وجدتهم رُهبانَ الليلِ، الذين أضناهُمُ السهرُ، وأضنتهمُ العبادةُ،
وإن أتيتَ للجهادِ وجدتهم الأسودَ الخادرةَ، التي إذا غضبت لم يقم لغضبتِها شيءٌ
وإن أتيتَ للحكمةِ وجدت ينابيعها تتفجرُ من على ألسنتِهم.
وإن أتيتَ للعلمِ وجدتهم أعمقَ الناسِ فهماً، وأصفاهم قريحةً، وأقلٌّهم تكلفاً.
وما تحقق لهم ذلكَ إلا عِندما زكت نفوسُهم، وارتفعت هممُهُم، وقوي إيمانُهُم ويقينُهُم، فبارَكَ اللهُ في أعمارِهم، وزكَّى أقوالهم وأعمالهم، فكانوا أئمة هُدىً، ومصابيحَ دُجىً.
أسألُ اللهَ - تعالى -أن تجدَ هذهِ الكلماتِ قبولاً في القلوبِ، وأثراً في النفوسِ، وأن تكونَ سبباً لبعثِ الهممِ من مراقِدها، وإيقاظِ الأمةِ من سباتهِا وطولِ غفلتِها.
ثُمَّ إن لنا بعدَ اللهِ لأملاً في علماءِ الأمةِ ودعاتِها الأخيارِ، ورجالاتهِا الأغيارِ، وشبابِها الأبرارِ أن يُعيدوا ما مضى لأمتَّنا من مجدٍ, تليدٍ,، وعزٍّ, شامخٍ,، وأن ينفُخُوا الروحَ في الناسِ، وينذروهُم موتةَ اليأسِ، والجبنِ والخمولِ، عسى أن نسيرَ إلى حياةٍ, ساميةٍ,، وعزٍّ, لا يَبلى، وما ذلكَ على اللهِ بعزيزٍ,.
ولا بُعدَ في خيرٍ, وفي اللهِ مَطمعٌ ولا يأسَ من رَوح وفي القلبِ إيمانُ
هذا وصلٌّوا على المبعوث رحمة للعالمين.
----------------------------------------
[1] رواه الحاكم (1/48) والطبراني (6/181) وقد صححه الحاكم والهيثمي في المجمع (8/188) والعراقي في حمل الأسفار (3/259).
[2] الظلال (6/3786)
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد