من لأسرى المسلمين ؟!


 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

إنَّ الحمدَ لله نحمدهُ ونستعينهُ ونستهديهُ ونستغفره، ونعوذُ بالله من شرورِ أنفسنا ومن سيئاتِ أعمالنا، من يهدهِ اللهُ فلا مُضلَّ له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلاَّ الله وحدهُ لا شريك له، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدهُ ورسوله - صلى الله عليهِ وعلى آلهِ وصحبهِ وسلم- تسليماً كثيراً. ثُمَّ أمَّا بعد:

 

أمةَ الإسلام:

لا يزالُ الصراعُ بينَ الحقِ والباطلِ، بينَ النورِ والظلمةِ، بين الهدايةِِ والغوايةِِ، بين الإسلامِ والكفر، مستمراً إلى يومِ القيامة، هذا الصراعُ يعلو فيهِ أهلُ الإيمانِ غالباً، وفي بعضِ الأحايينِ يُصابون بالهزيمة، وما ذاكَ إلاَّ بسببِ ما أحاطَ بهم من عواملِ تأخرِ النصر، ونتيجةً لهذا الصراعِ فإنَّ اللهَ - تعالى -يصطفي من يشاءُ من عبادِه، فمنَّا من يفوزُ بشرفِ الشهادةِ في سبيلِ الله - تعالى -، ومنَّا من يُكلمُ كَلماً في سبيلِ الله - تعالى -، فتسبقُ بعضُ أعضائهِ إلى الجنةِ، ومنَّا من يُؤسرُ ويقعُ في أيدي عدوِنا، وهذهِ طبيعةُ المعاركِ، وميادينُ الجهاد، ومن يُقلبُ صفحاتِ التاريخِ ويُسائِلُها عن ذلكَ، فإنَّها ستحدُثهُ عن هذهِ الطبيعةِ والتي تُعدٌّ أمراً طبعياً لا غرابةَ فيه، فكم قُتِل من أبطال، وكم جُرحَ من رجال، وكم أُسرَ من فُرسَان، فهل وهنت نُفُوسُهُم، وهل جبُنت قُلوبُهم، ويا تُرى هل تسربَ الوهنُ والإحباطُ إلى قُلوبِهم من جراءِ وقُوعهِم في الأسر؟!! هذا خبيبٌ- رضي الله عنه- وقعَ أسيراً في أيدي المُشركينَ، فخرجُوا بهِ من الحرمِ ليقتلوه، فقال: دعُوني أُصلي ركعتين، ثم انصرفَ إليهم قائلاً: لولا أن تروا أنَّ ما بيَ جزعٌ من الموتِ لزدتُ، فكانَ أولَ من سنَ الركعتينِ عند القتلِ، ثُمَّ قال: اللهمَّ أحصهم عددا، واقتلهم بددا، ثم قال:

ولستُ أُبالي حين اُقتلُ مسلماً *** على أيِّ شقٍ, كانَ في اللهِ مصرعي

 

وذلكَ في ذاتِ الإلهِ وإن يشـأ *** يُبارك على أوصالِ شلوٍ, مُــمزقِ

 

ثُمَّ قَامَ إليهِ عُقبةُ بن الحارثِ فقتله، بل إنَّ اللهَ - تعالى -قد يلطُفُ بهذا الأسيرِ ويمنُ عليهِ بما يُثبتُ فؤاده، فخبيبٌ- رضي اللهُ عنهُ- عندما سُجنَ تقولُ إحدى النساءِ عنه: ما رأيتُ أسيراً قط خيراً من خُبيب، لقد رأيتهُ يأكلُ من قطفِ عنبٍ, وما بمكةَ يومئذٍ, من ثمره، وأنَّهُ لمُوثقٌ في الحديدِ، وما كانَ إلاَّ رزقاً رزقهُ اللهُ!!

 

وقد يُعذَبُ الأسيرُ ويُهان ويُبتلى، ليرفعَ الله منـزلَتَه، ويُعلي مكانتَه، يقولُ اللهُ - تعالى -: ((أَلَم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُترَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُم لَا يُفتَنُونَ* وَلَقَد فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبلِهِم فَلَيَعلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعلَمَنَّ الكَاذِبِينَ)) (سورة العنكبوت 3: 1)

 

أمةَ الإسلام:

هؤلاءِ الأسرى الذين وقعُوا في أيدي عدوِنا، أسرى في فلسطينَ، وأسرى في كُوبا وغيرِها من مناطقِ العالم، هؤلاءِ الرجال، هؤلاءِ الذينَ خرجوا لرفعِ رايةِ الجهاد، هؤلاءِ الذين خرجُوا لنُصرةِ إخوانهم، والدفاعِ عن حُرماتِ المسلمين، والذبِّ عن أعراضِهم، يومَ تخاذلَ الكثيرون، هؤلاءِ لهم حقٌ على الأمةِ أن يسعوا لنجدتِهم، والوقوفِ في محنتهِم، ها هُو رسولُ الله يأمرُ أمتُه بقوله:

((فكّوا العاني)) أي الأسير، قالَ الإمامُ مالك- رحمه الله -: واجبٌ على الناسِ أن يفدوا الأسارى بجميعِ أموالهمِ، وهذا لا خلافَ فيهِ لقولهِ- عليه السلام -: ((فكّوا العاني)).

 

وقد قال علماءُ الإسلام:

لو أنفقتِ الدولةُ خزينتَها على فداءِ أسرى المسلمينَ من الكفارِ ما كانَ هذا كثيراً، نعم ما كانَ هذا كثيراً، وأيٌّ مصيبةٍ, أعظمُ من أن يُهانَ مسلمٌ تحت علجٍ, من علوجِ النصارى الحاقدين، لقد رأيتم ورأينا ورأى العالمُ مقاطعَ من المأساةِ التي يعيشُها إخوانُنا في كُوبا، لقد نُقلوا إلى هُناكَ بعدَ أن حَلقُوا رُؤوسَهم ولحاهم، وجردوُهم من كلِ لباس، وأوثقوُهم من أعلى رؤوسِهم إلى أخمصِ أقدامهمِ، وقد عصبُوا عيونَهم، ونقَلُوهُم من باكستانَ إلى كوبا، في طائرةٍ, للبضائعِ، لقد حَرَمُوهُم حتى من حَواسِهم، فأيٌّ كرامةٍ, للإنسان، وأيٌّ كرامةٍ, للإنسانِ أن يُوضعَ في أقفاصٍ, حديدية، والتي تُذكِّرُ رؤيُتها بأقفاصِ الحيوانات، لا يخرجُ منها لقضاءِ حاجتهِ إلاَّ مرةً واحدة، وللتحقيقِ مراتٍِ, عديد، يخرجُ مكبلَ اليدينِ والقدمين، خافضَ الرأسِ، منكسرَ النفسِ، تجولُ في خَواطِرهِ أين عهدُ المسلمين؟

 

 أين عهدُ الفاتحين؟ أينَ أنتم يا مسلمون؟ يعيشُ أسرانا تحتَ حرارةِ شمسِ كُوبا الشديدةِ، وهذا في الشتاءِ فكيف يكونُ الحالُ في الصيفِ، حتى الليلِ الذي جعلَهُ اللهُ سكنا، هُم جعلوهُ ضياءً بتلكَ الأنوارِ الكاشفةِ، ففي النهارِ الشمسُ الحارقة، وفي الليلِ تلكَ الأضواءُ الكاشفة، فمتى يذوقُ لذةَ النوم، وأنَّى لهُ أن يتلذذَ بطعامٍ, وشرابٍ, وهو يُعاني ألمَين، ألمَ الأسرِ الذي يعيشُهُ تحتَ أيدي النصارى الحاقدين، وألمَ خذلِ المسلمينَ لهم، وعدمِ الوقوفِ في شدتهمِ، ونسيانِ قضيتهمِ، وكأنَّ شيئاً لم يكن.

 

كيف يطيبُ للمسلمينَ عيشٌ، ويهنأُ لهم طعامٌ، وإخوانُهم أُسارى بيدِ العدو، بيدِ عدوٍ, حاقدٍ, ظالم، كيفَ يتلذذُ الإنسانُ بنوم، وإخوانُنا هُناك يعيشونَ تحتَ وطأةِ النصارى الحاقدين!! كيف يرقئُ للإنسانِ دمعٌ وهو يرى إخوانَهُ هُناكَ في حالةِ بُئسٍ, وعناء؟!!

 

كيف يرضى المسلمونُ أن يُسلمُوا أبنائَهم إلى العدوِ الكافر، ويُرحَّلوا إلى أقاصي الأرضِ ولا يُحركون ساكنا، ولا يُسمعُ لهم صوتٌ.

 

أينَ موقفُ الدولِ؟

أينَ موقفُ القبائل؟

بل أين موقفُ أهاليهِم وأقربائهِم؟

إنَّهُ ينبغي عليهم التحرك، ويُفهموا العدوَ الأمريكيَ أنَّ هؤلاءِ الأسرى ليسُوا مقطوعينَ من الأرضِ، وأنَّ هُناكَ من يُتابعُ قضيتَهم، يجبُ أن يُفهموا أمريكا أنَّ أمرَ الأسرى لم ينتهِ بعد.

 

إنَّ السكوتَ عن هذا الأمرِ لا يُعذرُ به أحدٌ، خاصةً وقد شاهدنا المعاملةَ السيئةَ التي تَعَّرضَ لها هؤلاءِ المُجاهِدون الذين رفعوا رأسَ الأمةِ عالياً، والتي تنُمِ عن حقدِ دفينٍ, للإسلامِ وأهله.

 

أأسرانا سلاماً كيف أنتم ***  فقد عصفت رعودٌ في قلـوبِ

أأسرانا كِراماً كيف كُنتم ***  فليس الهونُ في قيدٍ, وطوبِ

وشرٌّ الذلِ خلفاً قد تركتُم ***  نَصرتم دينَ علامِ الــغيوبِ

وإنَّ الــعـزَّ حقاً قـد أصــبتم  *** وعِزٌّ العزِّ في جوفِ القلوبِ

أأسرانا نسينا بل خذلنا ***  ولم يفزع لكم أسدٌ غـضوبِ

فعالمنُا يُطيلُ اليومَ صمتاً ***  كأنَّ القومَ عُبّادُ الصـليبِ

على حقٍ, مضوا فيهِ يقيناً ***  فآهٍ, مِن جفـاءٍ, مِـن قــريبِ

 

أمةَ الإسلام:

لقد ضربَ المسلمونَ أروعَ الأمثلةِ في استنقاذِ الأسرى من أيدي العدو، فعندما رجعَ المنصورُ بن أبي عامرٍ, من إحدى غزواتهِ في شمالِ الأندلسِ، قابلَتُه امرأةٌ مسلمةٌ على أبوابِ قرطبةَ وقالت له: إنَّ ابني أسيرٌ عند النصارى ويجبُ عليك أن تفديَه أو تأتيَ به، فما دخلَ المنصورُ قرطبةَ، بل عادَ بجيشهِ حتى فكَ هذا الأسير، ولمَّا سمعَ الحكمُ بنُ هشام أميرُ الأندلسِ أنَّ امرأةً مسلمةً أُخذت سبيَّةً فنادت: واغوثاه يا حكم، فعظُمَ الأمرُ عليه، وجمعَ عسكَرَهُ واستعدَ وحشدَ وسارَ إلى بلدِ الفرنجِ سنةَ ستٍ, وتسعين ومائة، وأثخنَ في بلادِهم، وافتتَح عدَّةَ حصونٍ,، وخربَ البلادَ ونهبَها، وقتلَ الرجالَ وسبى الحريمَ، ونهبَ الأموالَ وقصدَ الناحيةَ التي كانت بها تلك المرأة، حتى خلَّصَها من الأسرِ ثم عادَ إلى قرطبة مظفرا [1].

 

 وبلغَ المعتصمُ أنَّ امرأةً شريفةً في الأسرِ عند علجٍ, من عُلوجِ الرومِ في عموريةَ، وأنَّهُ لطمَها على وجهها يوماً فصاحت وامعتصماه، فقال مجيباً لها: لبيكِ، لبيكِ فخرجَ في سبعينَ ألفِ مقاتلٍ, حتى وصلَ إلى عموريةَ وفتحَها، وطلبَ العلجُ صاحبَ الأسيرةِ الشريفةِ وضربَ عنقَهُ، وفكَّ قيودَ الشريفةِ [2].

 

هكذا كانَ قادةُ المسلمين، ما أن يَسمَعُوا صرخةَ مستغيثٍ, إلاَّ ويُبادِروا الإجابةَ، وينصروا المظلومَ، لقد كتبَ عمرُ بنُ عبدِ العزيز إلى بعضِ عُمَالهِ أن فادِ بأسرى المسلمين وإن أحاطَ ذلكَ بجميعِ ما عندَهم من المال [3]، وذكرَ أبُو غالبٍ,- همامُ بنُ المهذبِ المعري- في تاريخهِ أنَّهُ لما عقدَ سيفُ الدولةِ الفداءَ مع الرومِ، اشترى أسرى المسلمينَ بجميعِ ما كانَ معَهُ من المال[4]، وقد بلغَ ما أنفقَهُ أبُو العباسِ الخزاعي أميرُ الشامِ في فكاكِ أسرى المسلمين من التركِ ألفي ألفِ درهمٍ, [5].

 

وإن لم ينفع المالُ فإنَّهُ لا محالةَ من استخدامِ أسلوبِ التهديدِ والوعيدِ، لمَّا صَالحَ قُتيبةُ- رحمه الله - ملِكَ شُومان، كتبَ إلى نيزك طرخان، صاحبَ باذغيس في إطلاقِ من عنَدهُ من أُسرى المسلمين، وكتبَ إليهِ يتهددُهُ ويتوعدُه، فخافَهُ نيزك فأطلقَ الأسرى وبعثَ بهم إليه[6].

 

وكانَ للعلماءِ دورٌ كبيرٌ في الحثِ على استنقاذِ أسرى المسلمين، من خلالِ مكاتبةِ السلاطين، أو زيارةِ العدوِّ ومطالبتهِ بفكاكِ أسرى المسلمين، أو الدعاءِ بأن يُخلِصَهم اللهُ - تعالى -، فقد خرجَ شيخُ الإسلامِ اِبنُ تيميةَ إلى بولاي ـ أحدُ قادةِ التتارـ فاجتمعَ به، وطلبَ منهُ فكاكَ من كانَ معَه من أسارى المسلمين، فاستنقذَ كثيراً منهم، ثُمَّ عادَ - رحمه الله - تعالى[7].

 

و كتبَ- رحمه الله - إلى ملكِ قبرص رسالةً جاءَ فيها: (فيا أيٌّها الملكُ كيفَ تستحلُ سفكَ الدماءِ وسبىَ الحريمِ، وأخذَ الأموالِ بغيرِ حُجةٍِ, من اللهِ ورسله، ثُمَّ أما يعلمُ الملكُ أن بديارِنا من النصارى أهلَ الذمةِ والأمانِ مالا يُحصى عددُهم إلاَّ الله، ومعاملُتُنا فيهم معروفةٌ، فكيف يُعاملُونَ أسرى المسلمين بهذهِ المعاملاتِ التي لا يرضى بها ذُو مروءةٍ, ولا ذو دين)؟!!

 

ثُمَّ إنَّ كثيراً منهم إنما أُخذوا غدراً، والغدرُ حرامٌ في جميعِ المللِ والشرائعِ والسياسات، فكيف تستحلونَ أن تستولوا على من أُخذَ غدراً؟ أفتأ منونَ مع هذا أن يُقابِلَكم المُسلمونَ ببعضِ هذا، وتكونُونَ مغدُورين؟ واللهُ ناصرُهم ومعينُهمº لاسيما في هذه الأوقاتِ والأمةُ قد امتدت للجهادِ واستعدت للجلادِ، ورغبَ الصالحُونَ وأولياءُ الرحمنِ في طاعتهِ، وقد تولى الثغورَ الساحلية أمراءُ ذوو بأسٍ, شديدٍ,، وقد ظهرَ بعضُ أثِرهِم وهُم في ازدياد، ثُمَّ عندَ المسلمينَ من الرجالِ الفداويةِ، الذين يغتالون الملوكَ في فُرشِها وعلى أفراسِها، من قد بلغَ الملكُ خبرَهم قديماً وحديثا، وفيهم الصالُحُونَ الذين لا يَردٌّ اللهُ دعواتِهم، ولا يُخيبُ طلباتِهم، الذين يغضبُ الربُ لغضبهِم ويرضى لرضَاهُم.

 

فكيفَ يحسنُ أيٌّها الملكُ بقومٍ, يُجاوِرون المسلمينَ من أكثرِ الجهاتِ أن يُعاملوهُم هذه المعاملةَ، التي لا يرضَاها عاقلٌ ولا مسلمٌ ولا مُعاهد؟! )[8]

 

وذكرَ أبو سعيدِ الثعلبي: أنَّهُ لمَّا خرجَ إبراهيمُ ومحمدُ على أبي جعفرٍ, المنصور ـ الخليفةِ العباسيِ المعروف ـ أرادَ أهلُ الثغورِ أن يُعينوهُ عليهما فأبوا ذلك، فوقعَ في يدِ ملكِ الرومِ الألوفَ من المسلمين أسرى، وكان ملكُ الرومِ يحبٌّ أن يُفادى بهم ويأبى أبو جعفر.

 

فكتبَ الإمامُ الأوزاعي - رحمه الله - إلى أبي جعفرِ كتاباً قال فيه: (أمَّا بعد: فإنَّ اللهَ - تعالى -استرعاكَ أمرَ هذه الأمةِ لتكونََ فيها بالقسطِ قائما، وبنبيِهِ - صلى الله عليه وسلم - في خَفضِ الجناحِ والرأفةِ متشبها، وأسألُ اللهَ - تعالى -أن يُسكنَ على أميرِ المؤمنين دهماءَ هذه الأمةِ ويرزقَهُ رحمتَها، فإنَّ سايحةَ المشركين غلبت عامَ أولٍِ,، وموطؤُهم حريمُ المسلمين، واستنزالهُم العواتقَ والذراريَ من المعاقلِ والحُصُون، وكانَ ذلك بذنوبِ العباد، وما عفا اللهُ عنهُ أكثر، فبذنوبِ العبادِ استُنزلتِ العواتقُ والذراريُ من المعاقلِ والحصونِ، لا يُلقُونَ لهم ناصراً ولا عنهم مُدافعا، كاشفاتٍ, عن رؤسهِنَّ وأقدامهِن، فكانَ ذلكَ بمرأى ومسمع، وحيثُ ينظرُ اللهُ إلى خلقهِ وإعراضِهُم عنه، فليتقِ اللهَ أميرُ المؤمنين وليبتغِ بالمُفاداتِِ بهم من اللهِ سبيلا، وليخرج من محجةِِ اللهِ - تعالى -، فاِنَّ اللهَ - تعالى -قال لنبيهِ: ((وَمَا لَكُم لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالمُستَضعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالوِلدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخرِجنَا مِن هَذِهِ القَريَةِ الظَّالِمِ أَهلُهَا وَاجعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا)) (سورة النساء: 75).

واللهِ يا أميرَ المؤمنين ما لهم يومئذٍ, فيءٌ موقوف، ولا ذمةٌ تُؤدى خراجاً إلاَّ خاصةُ أموالهِم، وقد بلغني عن رسولِ الله- صلى الله عليه وسلم - أنَّهُ قال: ((إني لأسمعُ بكاءَ الصبي خلفي في الصلاةِ فأتجوزُ فيها مخافةَ أن تَفتَتِنَ أمُه)).

 

فكيفَ بتخلِيتِهِم يا أميرَ المؤمنين في أيدي عدوهِم، يَمتهنونَهم ويتكشَفُون منهم ما لا نستحلُهُ نحنُ إلاَّ بنكاحٍ, وأنت راعي اللهِ، واللهُ - تعالى -فوقَكَ ومستوفٍ, منكَ يومُ تُوضعُ الموازينُ القسطَ ليومِ القيامة فلا تُظلمُ نفسٌ شيئاً، وإن كانَ مثقالَ حبةٍ, من خردلٍ, أتينا بها وكفى بنا حاسبين، فلمَّا وصلَ إليهِ كتابُهُ أمرَ أبو جعفرٍ, بالفداء [9].

 

وكان العلماءُ يشعُرونَ بمعاناةِ الأمِ المسكينة، والأبُِ المكلومِ، فتخرجُ من قُلوبِهم دعواتٌ صادقة، ذكرَ ابنُ كثيرٍ,- رحمه الله - أنَّ امرأةً جاءت إلى الإمامِ بقيِ بنِ مخلد- رحمه الله - فقالت إنَّ ابني قد أسرته الإفرنج، وإنِّي لا أنامُ الليلَ من شوقي إليه، ولي دويرةٌ أُريدُ أن أَََََبيعَها لأستفكَّهُ، فإن رأيتَ أن تُشر على أحدٍِ, يأخذُها لأسعى في فكاكهِ بثمنِها، فليس يقرُ لي ليلٌ ولا نهارٌ، ولا أجدُ نوماً ولا صبراً، ولا قرارًا ولا راحةً، (وهذا حالُ الأمهاتِ في هذا الزمن، فكيفَ يغمضُ لها جفنٌ وابنها أسيرٌ في يدي عدوِّها فإلى الله المشتكى)، فقال بقي: نعم انصرفي حتى أنظرَ في ذلك إن شاءَ الله، وأطرقَ الشيخُ وحركَ شفتيهِ يدعو اللهَ - عز وجل - لولدِها بالخلاصِ من أيدي الفرنجِ، فذهبتِ المرأةُُ، فما كانَ إلاَّ قليلاً حتى جاءتِ الشيخَ وابنُها معها، فقالت: اسمع خبرَه يرحُمكَ الله، فقال: كيفَ كانَ أمرُك؟ فقال: إني كنُت فيمن نخدمُ الملك ونحنُ في القيودِ، فبينما أنا ذاتَ يومٍ, أمشي إذ سقطَ القيدُ من رجلي، فأقبلَ علىَّ الموكَلُ بي فشتمني، وقال: لم أزلتَ القيدَ من رجليك؟ فقلتُ: لا واللهِ ما شعرتُ بهِ ولكنهُ سقطَ ولم أشعر به، فجاءوا بالحدَّادِ فأعادوهُ وأجَادوه، وشدٌّوا مسمارَهُ وأبدوه، ثُمَّ قُمتُ فسقطَ أيضاً فأعادوهُ وأكدوهُ فسقطَ أيضاً، فسألوا رهبانَهم عن سببِ ذلك فقالوا: لهُ والدة؟ فقلتُ: نعم فقالوا: إنَّها قد دعت لكَ وقد استُجيبَ دعاؤُها أطلقوه، فأطلقوني وخفروني حتى وصلتُ إلى بلادِ الإسلامِ، فسألَهُ بقيُ بنُ مخلد عن الساعةِ التي سقطَ فيها القيدُ من رجلهِ، فإذا هي الساعةُ التي دعا فيها اللهَ لهُ ففرجَ عنه [10].

فهل يقتدي علماءُ المسلمين بهذه النماذجِ الفذة، ويقوموا بدورِهم، ويُحاولوا استنقاذَ أسرانا من أيدِ العدو الحاقد؟ هل يتحركُ العلماءُ لمُناصحةِ المسؤولينَ من أجلِ تحريك القضيةِ، وإثارةِ الموضوع؟!

اللهمَّ هل بلغت، اللهمَّ فاشهد.

باركَ الله لي ولكم في القرآن العظيم.

 

الخطبة الثانية

أمةَ الإسلام:

هذه رسالةٌ من أسيرٍ,، يُرسِلها إلى كلِ مسؤولٍ,، إلى كلِ عالمٍ,، إلى كلِ مسلمٍ,، إلى كلِ ذكرٍ, و أنثى، أيٌّها المسلمون: إنني أعيشُ حالةً عصيبة، لقد هدَّني المرضُ، وأضناني الجهدُ، فشمسٌ محرقةٌ مستمرةٌ حتى الغروب، ومعاملةٌ قاسية، فالقيدُ في يدي وقدمي كُلَّما دخلتُ وخرجت، أُحسُ بثقلِهما، وأيٌّ مرارةٍ, أعظمُ من أن تكونَ أسيراً في يدِ عدوٍ, حاقد، أيٌّ كمدٍ, أشدٌّ من أن أُركَعَ وأُهانَ أمامَ علجٍ, من علوجِ النصارى، ولكن إلى اللهِ أشكو غربتي، وقلةَ حيلتي، وهواني على الناسِ يا أرحمَ الراحمين، أنتَ ربُ المستضعفينَ وأنتَ ربي، إلى من تكلني، إلى بعيدٍ, يتجهمُني، أم إلى عدوٍ, ملكَتهُ أمري، إن لم يكن بكَ غضبٌ عليَّ فلا أبالي، ولكنَّ عافيَتُك هي أوسعُ لي، أعوذُ بنورِ وجهكَ الذي أشرقت له الظلماتُ، وصلُحَ عليه أمرُ الدنيا والآخرةِ من أن تُنزلَ بي غضبَكَ، أو تُحلَ عليّ سخطَك، لكَ العتُبى حتى ترضى ولا حولَ ولا قوةَ إلاَّ بك.

يا من يسمعُ رسالتي، ما أنا فيه من الضيقِ والضنكِ والحرج، كلٌّ هذا يهُونُ، كُلمَا تذكرتُ خُذلانَ المسلمين لنا، ونسيانَهم لقضيتنِا، وعدمَ إثارتِهم لموضوعِنا، وكأنَنَا أبناءُ كوكبٍ, آخر، وكأنَنَا لسنا مسلمين، إنَّهُ لمن العارِ أن تتحركَ هيئاتٌ غربيةٌ لتُدافعَ عنَّا وسطَ جُمودٍ, وخمولٍ, إسلامي تجاهَ قضيتنا، ومن العجيبِ أن تتوتَرَ العلاقاتُ بين استراليا وأمريكا بسببِ أسيرٍ, واحد، وتسوءُ العلاقةُ بينَ الحليفتينِ بريطانيا وأمريكا بسببِ خمسةِ أسرى بريطانيين، أما نحنُ فلا بواكي لنا مع أنَّ عددَنا قد فاقَ المائةَ والخمسين أسيراً، بل إنَّهُ لولا تصريحُ أمريكا بجنسياتِنا لواصلت الدولُ العربيةُ تجاهلَها وإنكارَها لوجُودِنا.

 

يا من يسمعُ رسالتَنا نحنُ الأسرى، إنَنَا سنقفُ خصماً لكم جميعاً يومَ نقفُ بين يديَ اللهِ - تعالى -ونقولُ: يا ربُ هؤلاءِ علِموا أمرَ نبيِكَ محمدٍ, بفكِ الأسير، ولم يمتثلُوا ولم يفعلوا الأسبابَ التي يُمكنُ لهم فعلَها.

إننا نناشدُ كلَ غيورٍ,، نناشدُهُم برابطةِ الإيمانِ التي بيننا، أن يتحركُوا لأحياءِ قضيتُِنا من خلالِ وضعِ المُحامِين للمطالبةِ بفكِ ما نحنُ فيه، والكلامِ في موضُوعِنا من خلالِ وسائلِ الإعلام، والضغطِ على أمريكا وتهدِدِها بقطعِ المصالحِ إذا لم تُخلِ سراحَنا، والذي لا يستطيعُ أن يقدمَ شيئاً فلا أقلَ من أن يرفعَ يديهِ في الثلثِ الأخيرِ من الليل يدعو اللهَ - تعالى -على الظالمِ والمتخاذلِ، وأن يُفرِّجَ هَمنا وينفسَ كربنا، يقولُ النبي : ((من خذلَ مسلماً في موطنٍ, وهو قادرٌ على نصرهِ خذلَه الله في موطنٍ, يُحبُ أن يُنصرَ فيه)).

وقال : ((من نفَّسَ عن مؤمنٍ, كربةً من كُربِ الدنيا نفسّ الله عنهُ كُربةً من كربِ يومِ القيامة)).

وإن نسيتُمونا فلا تنسوا أهلِينا وذرا رينا، وكفالتَهم ورعايتَهُم فنحنُ نحتسبُ أنفسَنا وإلى اللهِ المشتكى، وأخيراً إلى الوالدِ والوالدةِ العزيزين الكريمين، اصبرا واحتسبا، وأكثرا من قولِ لا حولَ ولا قوةَ إلاَّ بالله، كما أوصى بذلكَ النبيٌّ ، فقد جاءَ عوفُ بن مالكٍ, الأشجعي إليهِ وقال يا رسولَ الله: إن ابني أسَرهُ العدوُ وجزِعت أمهُ فما تأمرُني؟ قال: ((آمرُك وإيَّاها أن تستكثروا من قولِ لا حولَ ولا قوةَ إلاَّ بالله)) فقالت المرأةُ نِعمَ ما أمرَكَ به، فجعلا يُكثرانِ منها، فغفلَ عنهُ العدوُ فاستاقَ غنمَهم، فجاءَ بها إلى أبيهِ وهي أربعةُ آلافِ شاةٍ,، فنزلت: ((وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجعَل لَّهُ مَخرَجًا)) (سورة الطلاق: 2).

 

وأخيراً:

لا تنسوا قضيتَنا نحنُ الأسرى، نحنُ أبناؤُكم في كُوبا، لا تنسوا قضيَتَنا، لا تنسوا قضيتنا.

أيٌّها المسلمون:

هذهِ رسائلُ حرى أُوجهُها

أولاً إلى العلماءِ:

نَعم العلماءُ الذين هُم ورثُة الأنبياءِ، وعليهم من المسؤوليةِ ما ليسَ على غيرهِم، لقد رأيتُم أيٌّها العلماءُ دَورُ َأسلافِكم في جُهدهِم في استنقاذِ أسرى المسلمين، رأيتم ما فعلَهُ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ، ورأيتم ما فعلَهُ الإمامُ الأوزاعُي، وغيرهُم كثير، فأينَ دَورُكم في تحريكِ القضيةِ، ومخاطبةِ أهلِ الشأنِ لمحاولةِ فكاكِ هؤلاءِ الأسرى، أو على الأقلِ تحسينُ المعاملةِ معهم، والحديثُ عنهم في وسائلِ الإعلامِ المختلفةِ لإثارةِ الرأي العامِ على العدو ِالحاقد، وبيانِ المخاطرِ الشرعيةِ من جَراءِ خُذلانِ هؤلاءِ الأسرى والسكوتِ عن قضيتهمِ، فاتقوا الله أيٌّها العلماء، وكُونُوا خيرَ خلفٍ, لخيرِ سلف.

 

الرسالُة الثانُية إلى أَهالي الأسرى:

إلى أهالي الأبطال، إلى أهالي الذينَ رفعُوا رُؤوسَنا، لتعلموا أنَّ أبناءَكم لم يُسجَنوا من أجلِ شهوةٍ, ساقطة، ولا من أجلِ جريمةٍ, تتوارى النفوسُ حياءً منها، بل إنَّ أبناءَكم تُفاخرُ بهم الدنيا، فما أُخذوا إلاَّ وهُم في ذَروةِ سنامِ الإسلام، يُجاهِدُونَ في سبيلِ الله، يحمُونَ الذمار، ويُقَاتِلُونَ الكفار، فلتهنأ لكم هذهِ المنـزلة، ولتهنأ لكم هذهِ المكرُمة، ولتقرَّ عيونُكم بهؤلاءِ الأبطال.

 

والرسالُة الثالثة:

إلى إخوانِنا في الله، إلى أحبابنا، إلى الذينَ نشعرُ بآلامِهم، ونحسُ بمُصابِهم، إلى إخوَانِنا الذين وقعُوا في الأسر، يا أبطالَ الإسلام، الصبرَ الصبرَ، والثباتَ الثباتَ، يا من شَمَختم في زمنِ الذلِ، أَبعثُ لكم هذه الأبياتِ رفعاً للهمم، ليكن لسانُ حالِكِم أيٌّها الفرسان:

 

سأحيا بالكرامةِ يا رِفاقي *** وأسحقُ دائماً أهلَ النفاقِِِ ِ

 

سأمضي في طريقي نحوَ عزٍ, *** ولو قَطَعَ العِدا كفي وساقي

 

سأمضي للشهادةِ في ثباتٍ, *** فإنِّي والمنيةُ في سباقِ ِ

 

فيا من تعرفوني لا تقولوا *** لماذا سُقتَ نفسَك للخِناق

 

فإني مؤمنٌ أهوى المعالي *** ولا أرضى بذلٍ, أو شقاق ِ

 

وأقصى غايتي إرضاءُ ربي *** ونيلُ الفوزِ في أعلى المراقي

 

فلو سفكُوا دمائي كلَ يومٍ, *** ولو وضعوا الحواجزَ في رفاقي

 

ولو جعلوا حياتي في جحيمٍ, *** وصار الكونُ أسودَ كالمـحاقِ

 

فلن يصلوا أيا أبتاهُ يوماً *** إلى قلبي ولن يثنوا مسـاقي

 

سأبقى صامداً زادي كتابي *** وقولُ المصطفى فيه ائتلاقـي

 

سأبقى يا أبي حصناً منيعاً *** سأبقى في سماءِ المجدِ راقي

 

وسوفَ أُعيدُ للأيامِ ذكرى *** صلاحِِِِِِِِِ الدينِ والأُسدِ البواقي

 

وسوفَ يجيءُ يومٌ فيه يشقى *** طواغيتُ الرياسةِ والنفاقِ

 

يذوقُ الناسُ بالشهواتِ هماً *** ويصلى البعضُُ منهم باحتراقِ

 

ولكني أعيشُ صفاءَ قلب *** أذوقُ بعزتي أحلى مذاقِ

 

أيٌّها المسلمون: وبعد هذا العرضِ الطويلِ أضعُ لكم النقاطَ على الحروفِ، فأقولَُ مُوصياً الجميعَ بما يلي:

أولاً: إحياءُ قضيةِ الأسرى إعلامياً، وتسليطُ الأضواءِ عليها، وفضح السياسةِ الأمريكيةِ تجاهَ المسلمين وقضايَاهم.

ثانياً: الاتصالُ بالهيئاتِ والمنظماتِ المُهتمةِ بحقوقِ الإنسانِ للتدخُلِ، وتخفيفِ وطأةِ العذابِ على الأسرى المُجاهدين.

ثالثاً: الضغطُ على الدولِ ومطالبتُهم بتقصي أخبارِ الأسرى، وإرجاعِهم إلى بلدانهم.

خامساً: تكوينُ هيئةٍ, من المُحامينَ المُخلصينَ لتحريكِ هذه القضيةِ داخلياً وخارجاً.

سادساً: إعلانُ الجهادِ لفكِ أسرى المسلمين كما فعلَ القادةُ والأئمةُ من قبل، وهذا ما فعلَهُ المنصورُ بنُ أبي عامر، وفعلَهُ المعتصمُ، وفعله الحكمُ بن هشامُ وغيرُهم من القادةِ الكبارِ.

 

----------------------------------------

[1] الكامل 5/370.

[2] شذرات الذهب (1/64).

[3] الحلية (5/312)

 [4] بغية الطلب في تاريخ حلب 6/2706.

[5] المنتظم 11/160.

[6] الكامل 4/243

[7] البداية(14/10).

[8] الفتاوى (28/622).

[9] الحلية 6/135.

[10] البداية والنهاية 11 /57

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply