ظاهرة التهاون بالطلاق


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

 

الخطبة الأولى:

أما بعد: (فاتّقوا الله عبادَ الله، اتّقوه حقَّ تقاته ولا تموتنّ إلاّ وأنتم مسلمون، اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيكُم رَقِيبًا)(النساء:1).

واعلموا ـ عبادَ الله أنّ الله -عز وجل- يمتنٌّ علينا بنعمِه، ويذكِّرنا بمِنَنه، ويبيِّن لنا آياتِه الدّالةَ على فضلِه وإحسانه، يقول -سبحانه وتعالى-: (وَمِن آيَاتِهِ أَن خَلَقَ لَكُم مِن أَنفُسِكُم أَزوَاجًا لِتَسكُنُوا إِلَيهَا وَجَعَلَ بَينَكُم مَوَدَّةً وَرَحمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ, لِقَومٍ, يَتَفَكَّرُونَ)(الروم:21).

ففي هذه الآية الكريمةِ ينوِّه الله -جل وعلا- عن نعمةٍ, عظيمة امتنَّ بها على عباده، ألا وهي العلاقة بين الزّوجين التي يحصُل بها الأنسُ، ويتمّ بها السّرور، ويحصل بها السّكون والطمأنينة في هذه الحياة، فيجِب على العبدِ أن يرعاها حقَّ رعايتها، ولا يتسبَّب في زوالها وفِصامها بعدَ توكيد عُراها.

عبادَ الله، إنّ اللهَ خلق عبادَه متفاوتين متفاضلِين في التّدبير والتصرٌّف في شؤون الحياةِ وفي أسبابِ نيلِ السّعادة في الدّنيا والآخرة، ومِن أجل هذا التّفاوتِ جعل الله الخلقَ بين راعٍ, ومرعيّ، فاختار ولاةً للأمور ترعَى شؤونَ أمَمِهم، واسترعَى الرّجل على أهلِ بيته، واسترعى المرأةَ على بيت زوجها، فالبيتُ هو عِماد الحيَاة وقوامُ السّعادة واطمئنانُ النفوسِ واستقرارها، ولا يصلح إلاّ إذا قامَ الرّجل بواجبِه وأصلحَ أمرَ أهلِه وأحسن عشرتَهم، وكذا الحالُ في حقِّ الزّوجة، فعلى المرأةِ المسلمة أن تساهمَ بما يجب عليها لأولادها وزوجِها، فالمنزلُ هو المدرسةُ الأولى للحياة، وهو الأساس الذي يصلِح النّشء بإذن الله، ويربِّيهم التربيةَ الإسلاميّة الصالحة التي تقودهم إلى الحياة الطيّبةِ والسّعادة في الدارين.

عبادَ الله، إنّ ممّا ابتُلي به كثير من الناس اليومَ التهاونَ في أمر الطّلاق وجعلَه أمرًا ميسورًا، فيرمي أحدُهم الطلاقَ على زوجته لأتفهِ الأسباب ناسيًا كلَّ معروف لها، فيظلِمها ويظلم نفسَه وأولادَه، ثمّ يكون منه بعدَ ذلك النّدم والتحسٌّرُ على ما فات، وسببُ ذلك غالبًا سرعةُ الغضب والانفعال وسوءُ الخلق، فينهار البَيت، وتتشتّت الأسرة، فعلى الرّجل أن يضبطَ نفسه وأعصابَه ولا تستثيره المرأةُ، وعليه في مثل هذه الحالاتِ التي تنشأ من شدّة الغضب أن يغيِّر حالتَه كما أرشدَ إلى ذلك المعصوم بأن يغيِّر حالتَه في تلك اللحظةِ من قيامٍ, إلى جلوس، أو مِن جلوسٍ, إلى اضطجاع أو خروج من المنزل، حتى تهدَأ الأمور ويزول الغضبُ ويعودَ إلى صوابه، كما أنَّ عليه أن يتذكّر قولَه ووصيّتَه بحقِّ المرأة كما في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه- قال: قال رسول الله: ((واستوصوا بالنّساء خيرًا فإنّ المرأةَ خلِقت من ضِلَع، وإنّ أعوجَ شيء في الضِّلَع أعلاه، فإن ذهبتَ تقيمه كسرتَه، وإن تركتَه لم يزل أعوج، استوصُوا بالنّساء خيرًا))[1]، ويقول: ((لا يفرك مؤمنٌ مؤمنةً ـ أي: لا يبغِض ـ، إن كرِه منها خلُقًا رضيَ منها آخر))[2[.

فهذا الإرشادُ النّبويّ الكريم مِن أكبر الأسبابِ والدّواعي لحسنِ الخلُق والعِشرة بالمعروف، فينبغي أن يلحَظَ ما في زوجتِه من الأخلاقِ الحميدة والأمورِ التي تناسبُه، وأن يجعلها في مقابَلة ما كرِه من أخلاقها، فإنّ الزوجَ إذا تأمّل ما في زوجتِه من الأخلاق الطيّبة والمحاسِن التي يحبٌّها ونظَر إلى السّبب الذي دعاه إلى التضجٌّر منها وسوءِ عشرتها فإن كان منصِفًا غضَّ عن مساوئِها لاضمِحلالها في محاسِنها. وليعلَم العاقل أنّ الكمالَ متعذِّر، ولو لحظ أخلاقَه وتفقّد نفسَه لوجد فيه من العيوب أكثرَ ممّا هو في المرأة أو مثلها، ولا يكاد يصفو مع زوجةٍ, ولا غيرها من الأقارب أو الأصدقاء، وليتذكّر قول الله -عز وجل-: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالمَعرُوفِ فَإِن كَرِهتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكرَهُوا شَيئًا وَيَجعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيرًا كَثِيرًا)(النساء: 19).

عبادَ الله، إنّ العقلَ السليم والفطرةَ النقيّة والضمير المنصِفَ يترفّع عن هضمِ الزّوجة حقَّها، ولا تستسِيغ نفسٌ كريمة ظلمَ امرأةٍ, ضعيفة نشأت بعيدةً عنه ثمّ امتزجَت العلاقةُ بينهما وسكنت نفسُ كلٍّ, منهما إلى الآخر كما قال -سبحانه-: (وَمِن آيَاتِهِ أَن خَلَقَ لَكُم مِن أَنفُسِكُم أَزوَاجًا لِتَسكُنُوا إِلَيهَا وَجَعَلَ بَينَكُم مَوَدَّةً وَرَحمَةً)[الروم: 21]، وهي مع هذه المودّة والرّحمة تكون رهينةَ طاعةِ زوجِها والقائمة بأمر بيتِها ومتعة نفسه وموضع حرثِه، وبعد هذا كلّه يتجرّأ على مضارّتها أو مضايقتِها أو نيلِها بإهانة أو هضمٍ, أو ضرب ثمّ انفصال وطلاق.

أيّتها المرأة التي امتنّ الله عليها بالعزّة والكرامة والصّيانة والعفّةِ وجعلها مربّيةً وعميدةَ أسرة، حافظي على نعمتِك بتحسين خلُقك ومعاملتك لزوجِك المعاملةَ الحسنة، فإنّ حقَّ الزوج عظيم، واحتسِبي الأجرَ من الله في طاعتِه وخدمتِه والقيام بأمرِه وشأنِه والصبرِ على ما يصدُر منه والتّغاضي عن الأمور التي لا تخلٌّ بدينٍ, ولا مروءة والبعد عن الظّنون السيِّئة والاتّهامات الوهميّة والعباراتِ المؤذية، وخذِي عبرةً ممّا تسمَعين مِن المشاكلِ الزوجيّة وما ينتُج عنها مِن فُرقة وتشتيتٍ, للأولاد.

أيّها الأزواجُ والزّواجات، ليحافِظ كلُّ منكما على حسنِ الصّحبة، وليتدرّع بالصبر والتحمّل لما قد يصدُر من صاحبِه، وليتَّصِف بحسن الخلُق والمعاشرةِ الحسنة، وإن رأى ما يكرَه من صاحبِه فليقابل ذلك بالحِلم والصّفح حتى يهدأ قبيلُه ويعودَ إلى رشده، فيعترف بالفضلِ لصاحبِه.

وتذكّروا أنَّ لكلّ واحدٍ, من الزّوجين حقوقًا على الآخر يجب عليه القيامُ بها كما قال -عز وجل-: (وَلَهُنَّ مِثلُ الَّذِي عَلَيهِنَّ بِالمَعرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيهِنَّ دَرَجَةٌ)(البقرة: 228).

فاتّقوا الله عبادَ الله، وتدرّعوا بالصّبر والحِلم والتّغاضي عن بعضِ الأمور، فإنّ الكمالَ متعذِّر، والصّفح مِن شِيَم الكِرام.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالمَعرُوفِ فَإِن كَرِهتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكرَهُوا شَيئًا وَيَجعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيرًا كَثِيرًا)(النساء: 19).

نفعني الله وإيّاكم بالذّكر الحكيم وبهدي سيّد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.

[1] أخرجه البخاري في النكاح (5186)، ومسلم في الرضاع (1468).

 [2] أخرجه مسلم في الرضاع (1469) عن أبي هريرة -رضي الله عنه -.

 

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله على إحسانِه، والشّكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له الإلهُ الحقّ المبين، وأشهد أنّ سيّدنا ونبيّنا محمّدًا عبده ورسوله أفضل الخلقِ أجمعين، اللهمّ صلِّ وسلّم على عبدك ورسولك محمّد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتّقوا الله عبادَ الله، اتّقوه حقَّ تقاته ولا تموتنَّ إلا وأنتم مسلمون.

واعلموا أنّ الله -سبحانه وتعالى- فضّل بعضَ الأوقات على بعض، وشرّف بعضَ الشّهور والأيّام واللّيالي على غيرها، وجعلها متَّجَرًا لعبادِه المؤمنين. ومن أهمّها وأفضلِها شهرُ رمضان الذي أنزِل فيه القرآن، جعله الله -سبحانه وتعالى- شهرًا مباركًا وموسِمًا عظيمًا من مواسم الخيرات، يجود فيه الرّبّ -سبحانه وتعالى- على عبادِه برفعِ الدّرجات وغفران السيّئات، وقد قرُب قدومه عليكم وحلولُه بين أظهرِكم، فاستقبِلوه بالفرَح والاستبشار، فَبِذَلِكَ فَليَفرَحُوا هُوَ خَيرٌ مِمَّا يَجمَعُونَ(يونس: 58).

فيه ليلةٌ خيرٌ من ألف شهر، جعل الله صيامَه فريضةً وقيام ليله تطوّعًا، من فطّر فيه صائمًا كان مغفرةً لذنوبه وعتقَ رقبته من النّار وكان له مثلُ أجرِه من غيرِ أن ينقصَ من أجره شيئ، شهر أوّلُه رحمَة وأوسطُه مغفِرة وآخرُه عتقٌ من النّار، مَن أشبَع فيه صائمًا سقاه الله من حوضِ نبيّه شربةً لا يظمأ بعدَها حتّى يدخلَ الجنّة.

(شَهرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ القُرآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ, مِن الهُدَى وَالفُرقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُم الشَّهرَ فَليَصُمهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَو عَلَى سَفَرٍ, فَعِدَّةٌ مِن أَيَّامٍ, أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُم اليُسرَ وَلا يُرِيدُ بِكُم العُسرَ وَلِتُكمِلُوا العِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُم وَلَعَلَّكُم تَشكُرُونَ)(البقرة: 185).

عبادَ الله، إنّ الله أمركم بأمرٍ, بدأ فيه بنفسِه فقال -سبحانه وتعالى- قولاً كريمًا: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلٌّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلٌّوا عَلَيهِ وَسَلِّمُوا تَسلِيمًا)(الأحزاب: 56).

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply