بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى
أما بعد:
فيا أيها المؤمنون بالله وبرسوله: اتقوا الله حق التقوى، عظموا الله - جل وعلا - حق التعظيم فإن الحياة الدنيا إنما هي زمنٌ لعمل الصالحات، فمن عمل صالحاً فله العقبى الحسنة برحمة الله وبفضله، ومن لم يتق الله فلن تجد له مخرجاً، ومن لم يتق الله فستكون له عاقبة الخسران.
عباد الله: ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصحيحين أنه قال: ((لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر))[1] يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهذا الحديث نفي ما كان يعتقده أهل الجاهلية من الاعتقادات الباطلة التي تؤثر في القلب وتضعف الظن الحسن، بل قد تزيل الظن الحسن بالله - جل وعلا -، وقد يكون معها نسبة الله - جل وعلا - إلى النقص، إما بنفي القدرة وإما بجعل شريك آخر معه في العبادة أو في التأثير فيقول - عليه الصلاة والسلام - للمؤمنين بالله - جل وعلا - حق الإيمان، للذين يعتقدون أن الله - جل وعلا - هو الذي بيده ملكوت كل شيء، يقول - عليه الصلاة والسلام -: ((لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر)) يعني بقوله: ((لا عدوى)) يعني لا عدوى مؤثرة بطبعها لأن أهل الجاهلية كانوا يعتقدون أن العدوى تؤثر بنفسها تأثيراً لا مرد له، وتأثيراً لا صارف له.
وقوله - عليه الصلاة والسلام -: ((لا عدوى)) لا ينفي أصل وجود العدوى وهي انتقال المرض من المريض إلى الصحيح بسبب المخالطة بينهما، فإن الانتقال بسبب المخالطة حاصل ملاحظ مشهود، لكنه - عليه الصلاة والسلام - بقوله: ((لا عدوى)) لا ينفي أصل وجودها، وإنما ينفي ما كان يعتقده أهل الجاهلية في العدوى، من أن الصحيح إذا خالط المريض عدي بالمرض لا محالة، ولا يقع ذلك في اعتقادهم بقضاء الله وبقدره، ويقولون: إن ذلك لابد أن يكون، ولهذا قال - عليه الصلاة والسلام -: ((لا عدوى)) يعني أن المرض لا ينتقل من المريض إلى الصحيح عند مخالطة الصحيح للمريض بنفسه، وإنما انتقاله وإصابة الصحيح بالمرض عند المخالطة إنما هو بقضاء الله وبقدره، وقد يكون الانتقال وقد لا يكون، فليس كل مرض معدٍ, يجب أن ينتقل من المريض إلى الصحيح، بل إذا أذن الله بذلك انتقل، وإذا لم يأذن لم ينتقل، فهو واقع بقضاء الله وقدره، فالعدوى يعني بالمصاحبة والمخالطة من الصحيح للمريض سبب من الأسباب التي يحصل بها قضاء الله وقدر الله - جل وعلا -، وليست لازماً حتمياً كما كان يعتقد أهل الجاهلية، ولهذا ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((لا يورد ممرضٌ على مصح، ولا يُورد ممرض على مصح))[2].
يعني أن الإبل المريضة لا تورد على الإبل الصحيحة، لأن الخلطة سبب لانتقال المرض من الإبل المريضة إلى الصحيحة، وهذا فيه إثبات لوجود العدوى، ولكنه إثبات لسبب، والسبب يتقى، لأنه قد يحصل منه المكروه كما أنه إذا باشر المرء أسباب الهلاك حصل له الهلاك بقدر الله وبقضائه، كما أنه إذا أكل حصل له الشبع، وإذا شرب حصل له الري، فذلك كله لأنها أسباب.
وقال - عليه الصلاة والسلام -: ((فرَّ من المجذوم فرارك من الأسد))[3] لأن المخالطة سبب لانتقال المرض من المجذوم إلى الصحيح، لهذا كان - عليه الصلاة والسلام -، لتثبيت هذا النفي من أن العدوى لا تنتقل بنفسها، وأن المرء يجب عليه ألا يباشر أسباب الهلاك، ويجب عليه أيضاً أن يتوكل على الله حق التوكل، وأن يعلم أن ما قدر الله وقضى لابد كائنٌ لا محالة.
لهذا كان - عليه الصلاة والسلام - مرةً يأكل مع مجذوم، فأدخل يده معه في الطعام ليبين للناس أن انتقال ذلك المرض ليس بأمر حتمي وإنما هو سبب، والذين يمضي المسببات بالأسباب هو الله - جل وعلا -، الذي بيده ملكوت كل شيء، الذي يجير ولا يجار عليه، ثم قال - عليه الصلاة والسلام - بعد قوله: ((لا عدوى ولا طيرة)) قال: ((ولا طيرة)) لأن الطيرة أمرٌ كان يعتقده أهل الجاهلية بل ربما لم تسلم منه نفسٌ كما قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: (ما منا إلا، ولكن الله يذهبه بالتوكل)[4] قوله: (ما منا إلا) يعني ما منا إلا تخالط الطيرة قلبه، ولهذا نجد أن أكثر الناس ربما وقع في أنفسهم بعض ظن السوء وبعض التشاؤم إما بريح مقبلة وإما بسواه.
وإذا أراد بعضهم السفر ورأى شيئاً يكرهه ظن أنه سيصيبه هلاك لأنه أصابه نوع تطير، والمؤمن يجب عليه أن يتوكل على الله حق التوكل كما قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: (ولكن الله يذهبُه بالتوكل) فالطيرة باطلة ولا أثر لما يجري في ملكوت الله على قدر الله وقضائه.
يعني لا تستدل بكل شيء يحصل على المكروه، ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكره الطيرة ويحب الفأل لأن الفأل فيه حُسن ظن بالله - جل وعلا -، والمؤمن مأمور أن يحسن الظن بربه - جل وعلا -.
وأما الطيرة ففيها سوء ظن بالله، بأن يفعل بك المكروه، وبهذا كانت من اعتقادات أهل الجاهلية ونهى عنه - عليه الصلاة والسلام - بقوله: ((ولا طيرة)).
ثم قال - عليه الصلاة والسلام -: ((ولا هامة)) وذلك لأن أهل الجاهلية كانوا يعتقدون أن الذي قتل يظل طائرٌ على قبره يصيح بالأخذ بثأره، وبعضهم يعتقد أن الهامة طائرٌ تدخل فيه روح الميت فتنتقل بعد ذلك إلى حي آخر، فأبطل ذلك - عليه الصلاة والسلام -، لأن ذلك مخالف لما يمضيه الله - جل وعلا - في ملكوته، ولأن ذلك باطل من أصله، اعتقادات لا أصل لها ولا نصيب لها من الصحة.
ثم قال - عليه الصلاة والسلام -: ((ولا صفر)) وقد ذهب أكثر أهل العلم إلى أن معنى قوله - عليه الصلاة والسلام -: ((ولا صفر)) يعني لا تشاؤم بصفر وهو الشهر المعروف الذي نستقبل أيامه.
ثم لما قال - عليه الصلاة والسلام -: ((لا صفر)) دلنا على إبطال كل ما كانت تعتقده الجاهلية في شهر صفر، فإنهم كانوا يتشاءمون بصفر ويعتقدون أنه شهر فيه حلول المكاره وحلول المصائب، فلا يتزوج من أراد الزواج في شهر صفر لاعتقاده أنه لا يوفق، ومن أراد تجارة فإنه لا يمضي صفقته في شهر صفر لاعتقاده أنه لا يربح، ومن أراد التحرك والمضيّ في شئونه البعيدة عن بلده فإنه لا يذهب في ذلك الشهر لاعتقاده أنه شهر تحصل فيه المكاره والموبقات، ولهذا أبطل - عليه الصلاة والسلام - هذا الاعتقاد الزائف فشهر صفر شهر من أشهر الله، وزمان من أزمنة الله، لا يحصل الأمر فيه إلا بقضاء الله وقدره، ولم يختص الله - جل وعلا - هذا الشهر بوقوع مكاره ولا بوقوع مصائب، بل حصلت في هذا الشهر في تاريخ المسلمين فتوحات كبرى وحصل للمؤمنين فيه مكاسب كبيرة يعلمها من يعلمها، ولهذا يجب علينا أن ننتبه لهذه الأصول التي مردها إلى الاعتقاد، فإن التشاؤم بالأزمنة والتشاؤم بالأشهر وببعض الأيام أمر يبطله الإسلام، لأننا يجب علينا أن نعتقد الاعتقاد الصحيح المبَّرأ من كل ما كان عليه أهل الجاهلية، وقد بين ذلك - عليه الصلاة والسلام - في أحاديث كثيرة ضرورة تخلص القلب من ظن السوء بربه ومن الاعتقاد السيئ في الأمكنة أو في الأشهر والأزمنة، كما أن بعض الناس يعتقد أن يوم الأربعاء يوم يحصل فيه ما يحصل من السوء، وربما صرفهم ذلك عن أن يمضوا في شئونهم.
ولهذا ينبغي علينا أيها المؤمنون أن ننبه إلى هذه الأصول وإلى الاعتقاد الصحيح وأن لا يدخل علينا اعتقادات باطلة ولا تشاؤم بأزمنة ولا بأمكنة، لأن هذا مخالف لما أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - وللاعتقاد الناصع السليم الذي جاء به دين الإسلام.
أسأل الله لي ولكم التوفيق والرشاد والهدى والسداد وأن يجعلنا معتقدين في الله الظن الحسن دائماً، وأن نعتقد أن الله - جل وعلا - مفيضٌ للخيرات على عباده.
ثم لنعلم أن ما عند الله - جل وعلا - إنما يجلب بطاعته، وأن المكاره المتوقعة أو الحادثة الحاصلة الموجودة إنما تدفع بالدعاء تارة وبطاعات الله تارة ومن يتوكل على الله فهو حسبه وقال - جل وعلا -: ومن يتق الله يجعل له من أمره يسراً [الطلاق: 4].
فلا يرد القدر والقضاء إلا الدعاء ولا تستدفع أسباب الهلاك وأسباب الفساد في النفس أو في ما حولك إلا بطاعة الله - جل وعلا -، جعلني الله وإياكم من المرحومين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر [سورة العصر].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه حقاً وتوبوا إليه صدقاً إنه هو الغفور الرحيم.
----------------------------------------
[1] رواه البخاري عن أبي هريرة ح (5757)، ونحوه في مسلم ح (2220).
[2] رواه مسلم عن أبي هريرة ح (2221).
[3] رواه أحمد عن أبي هريرة ح (9429)، ونحوه في البخاري في باب الجذام.
[4] رواه أبو داود ح (3910) عن ابن مسعود والترمذي ح (1614).
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فإن أحسن الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد بن عبد الله، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وعليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة ومن شذّ عن الجماعة شذ في النار.
ثم اعلموا رحمني الله وإياكم أن الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه فقال قولاً كريماً: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً [الأحزاب: 56]. وقال - عليه الصلاة والسلام -: ((من صلى عليّ صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشراً))[1].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء، الأئمة الحنفاء، الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
----------------------------------------
[1] رواه مسلم عن أبي هريرة ح (408).
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد