بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى:
أما بعد: فيا أيها المؤمنون: اتقوا الله حق التقوى.
عباد الله: إن الله -جل جلاله- وتقدست أسماؤه يحب المنيبين من عباده، يحب الذين إذا فعلوا أمراً فيه مخالفة أو تفريط أو تضييع للواجب أنهم يرجعون إليه سريعاً وأنهم يقبلون على ربهم بتوبة وإنابة صالحة، فإن الله - جل وعلا - يحب التوابين ويحب المتطهرين، ونبيكم - صلى الله عليه وسلم - بين أن كل ابن آدم خطاء وقال فيما صح عنه - عليه الصلاة والسلام -: (كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون)[1].
وذلك أن ابن آدم يغلبه ظلمه لنفسه، وربما غلبته شهوته وحبه للدنيا حتى ينصرف عن الآخرة ويقبل على دنيا دون نظر إلى ما ينفعه وإلى ما يصلح حاله وإلى ما يصلح حاله في المآل، وفي العاجل والآجل وهذا من ضعف البشر.
أيها المؤمنون: ما منا إلا وعنده غلط وعنده خطأ وربما عنده تضييع للواجبات وربما انتهاك للمحرمات، كل منا فيه تقصير بحسبه، كل منا تعرض له الغفلة بحسب حاله، كل منا له من التقصير ما له، يعرف ذلك من نفسه، وهل يجوز لنا أن نبقى على أخطائنا وعلى تقصيرنا وعلى إعراض كثير منا دون إصلاحٍ, للأنفس ودون إصلاحٍ, لما حولنا ودون أن يوطن المرء المسلم نفسه على طاعة الله فكلنا خطاء ولكن خير الخطائين التوابون.
ولهذا قال أهل العلم: أن علاج الغلط وإن علاج التفريط بالأوامر وإن علاج ارتكاب المنهيات يكون بأمور منها: أن يتعلم المرء ما يجب عليه وأن يعلم حق الله - جل وعلا - عليه، فإذا علم حق الله عليه وعلم ما يجب عليه تجاه ربه فإنه لن يعصي الله ولن يفرط في أمره إذ معرفة الله بأسمائه وصفاته تلين القلب وتحمل المرء على أن يجل الله - جل وعلا - ثم يلزم العمل الصالح، فإذا لزم العمل الصالح فإنه ييسر له أن يتجنب المحرمات وييسر ويوفق إلى الإقبال على الطاعات، ولا شك أنه لا يجوز أن يسترسل المرء مع هوى نفسه وأن يجتنب الطاعات وهو مأمور بإتيانها وأن يقبل على المناهي وهو مأمور بتركها، وهو مأمور بترك المنهيات والإقبال على الواجبات، إذ حق الله - جل وعلا - أعظم وأجل وأرفع من حق النفس، ولذلك كان واجباً علينا أن نسعى في إصلاح أنفسنا وأن نقبل على أن يتعرف كل منا على خطأ نفسه وعلى ما فيها من العيوب كي يصلحها، فطوبى لمن شغله عيبه عن عيب الناس ثم إن من أسباب العلاج النافع ومن أسباب الإقبال على الله أن يرى المؤمن ما يقربه من جنات عدن، فيأتيه وهو محب لأننا إذا علمنا الثواب والعقاب حملنا ذلك على الإقبال على الطاعة وعن الابتعاد عن كل منهي عنه وإن لكل إعراض سبباً، وحق على المسلم أن يباعد نفسه عن أسباب الردى وعن أسباب الإعراض وعن أسباب ترك الإقبال على ما فيه صلاحه في الدنيا والآخرة.
عباد الله: منا المفرط في الصلاة، منا المفرط في ذلك الركن الأعظم، بل أعظم الأركان العملية في دين الإسلام، ألا وهو الصلاة، فربما أخرجها عن أوقاتها، وربما بعض منا لم يؤدها في المساجد مع الجماعة كما أمر الله - جل وعلا - وأمر به رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وهذا يجب عليه أن يتفطن في أسباب ذلك، فإن كان لا يعلم فضل الصلاة وفضل أدائها في الجماعة فليتعرف إلى أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - التي منها قوله: (الصلاة إلى الصلاة مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر)[2]، ثم ليتعرف على قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا عليه)[3]، يعني لو يعلم الناس ما في التبكير إلى الصف الأول والتبكير إلى الصلاة بعد سماع النداء من الأجر العظيم ثم لم يجدوا إلا أن يعملوا شركة ويتشاركوا فيما بينهم في ذلك الأجر ويزدحموا على الصف الأول لفعلوه، فإذا كان منا من يفرط في الصلاة فليراع نفسه بما جاء من فضل الصلاة وبأنها حق الله وبأنها واجب من واجبات الإسلام وركن من أركان الإسلام، ثم ليبتعد عن أسباب ترك الصلاة وعن أسباب التهاون بها من عدم أدائها مع الجماعة في المساجد فإن المرء إذا ترك الأسباب المفضية إلى غير الحق والهدى فإنه ييسر له أن يقبل على الخير والهدى وما فيه صلاحه.
كذلك المرء إذا كان صاحب مال وترك أداء الزكاة وترك حق الله - جل وعلا - في المال فإنه يجب عليه أن يتعرف إلى ما أوجب الله من حق المال، فإذا عرف ذلك وعرف الوعيد العظيم في تارك الزكاة، ومن لم يؤدها وعرف أن الزكاة قرينة الصلاة وما أعد الله - جل وعلا - للمتصدقين وأن الصدقات طهرة تزكي المال وتزكي صاحب المال، وهي طهرة للقلب وطهرة للمال وطهرة للنفس كما قال الله - جل وعلا -: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم} [التوبة: 103]إذا علم ذلك ثم تخلص من شح النفس، وعلم الأسباب التي تصرفه عن أداء حق الله في الزكاة أتى مطيعاً سريعاً فأدى حق الله في المال، طيبةً بذلك نفسه، مقبلاً غير مدبر، محباً للإنفاق لا مبغضاً له، لأنه يعلم قول الله - جل وعلا -: {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم * يوم يحمى عليها في نار جهنم} [التوبة: 34-35]. نعم إن وعيد مانع الزكاة لشديد، كذلك من رأى المال وأنه كل شيء في حياته يقبل على المال وعلى اكتسابه، سواء كان من غش في البيوعات أو كان من أكل الربا الذي توعد الله فاعله بحرب من عنده أو كان بأكلٍ, للرشوة وغش للأمانة أو كان بغير ذلك من أكل مال اليتيم أو أكل الأموال ظلماً أو التعدي على حقوق الناس بالغصب وبأكل أموالهم، إذا زينت له نفسه حب المال وغشي قلبه حب المال وحب الدنيا فليعلم أنه مسؤول عن ماله وأن المال الحرام إذا نبت منه جسده ونبت منه جسد أولاده من أولاد أو بنات وأطعمه أهله فإن ذلك وبال عليه وعلى من بعده لأن المال الحرام يرفع صاحبه يديه إلى الله فلا تستجاب له دعوة، ويخذل في أيام حاجته من مرض أو فاقة وإن عاقبة المال الحرام إلى قلة، في عدده وفي صنفه، إذا تبين للمرء ما أوجب الله - جل وعلا - من اكتساب المال في المباحات ومن المباحات, وأنه يجب عليه أن يبتعد عن المحرمات وأن المال الحرام يعذب به صاحبه يوم القيامة أمام الناس وأنه لا نفع فيه، فليحذر ذلك، فإنه مع العلم بذلك إنه مع العلم ومع ترك أسباب محبة المال الباطلة التي تحمل صاحبها على كسب المال من الحرام يرجى أن يصلح غلطه وأن يتوب من ذنبه وأن يقبل على اكتساب المال المباح، فإن المال إنما هو في بركته لا في عدده، فكم من أناس بلغت أموالهم كذا وكذا، فلم تنفعهم وربما كانت وبالاً عليهم.
كذلك إذا رأى المرء في نفسه ومن نفسه تقصيراً في حقوق أهله وفي حقوق ولده وفي رعايته لأمانة بيته، إذا رأى ذلك فليسرع إلى تصحيح ذلك وليسرع إلى مجانبة الأسباب التي تحمله على أن يضيع بيته وأن يضيع تربية أهله وتربية ولده وليتذكر قوله - عليه الصلاة والسلام -: (كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته)[4]، وإنه لا يجوز لنا أن نرى تقصير أنفسنا وأخطاءنا ثم لا نتبع ذلك بإصلاح، من كان شحيحاً في بيته فليعلم أنه مسئول وأن الله أوجب عليه الإنفاق فليسارع في الإنفاق بما أوجب الله عليه، ومن كان مبذراً مسرفاً في بيته فليتذكر قول الله - جل وعلا- : {ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط} [الإسراء: 29] فنهى - جل وعلا - عن الطرفين، طرف التفريط والإفراط، طرف الإسراف وطرف الشح، فلنحمل أنفسنا ولنعتبر بأخطائنا ولنتدبر حالنا، فإننا إذا كنا راغبين في دار الخلد وراغبين في رضى الله فإننا سنسرع حتماً في إصلاح أخطائنا وفي إصلاح ما يجعلنا نفرط في أوامر الله أو نقبل على محرمات الله.
كذلك إذا رأى المرء منا نفسه مسرعة في اغتياب الناس لا يرعى المرء لسانه ولا يرعى للسانه إحصاناً فإنه إذا كان كذلك يجب عليه أن يتفكر في لسانه وأن اللسان صغير جِرمه ولكن جُرمه كبير، نعم إن اللسان يوقع المرء في المهالك ويوقع المرء في الموبقات، فقد سأل الصحابي الجليل معاذ - رضي الله عنه - نبينا - صلى الله عليه وسلم - فقال أو إنا يا رسول الله لمؤاخذون بما نقول؟ قال: (ثكلت أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم) أو قال: (على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم)[5] فليتذكر كل منا ممن أطلق لسانه في غيبة الناس وجعل مجالسه مع أصحابه في غيبة ونميمة، بل جعل مجالسه في إظهار النفس واحتقار الآخرين، يحتقر عباد الله المؤمنين ويحتقر الناس ويغتاب هذا ويقذف هذا ويشتم ذاك ويطعن ذاك، ويعتقد أن هذا فيه سلوةٌ للنفس وإنما ذلك مكتوب عليه، يكتب عليه كل ما تلفظ به من خير أو شر فيأتي يوم القيامة بحسناتٍ, ولكن يعطى منها من اغتابه أو من شتمه أو من تعرض له بقذف ونحو ذلك، فيبقى يوم القيامة فقيراً مسكيناً، واللسان هو أحق ما يكون بطول صمتٍ, إلا فيما ينفع {لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس} [النساء: 114].
نعم أيها المؤمنون: منا من يجعل مجالسه في غيبة ونميمة، وربما كان في أمور أعظم، وهذا مما يجب أن نتوب منه وأن نحصن أنفسنا وأن نجعل لساننا وألسنتنا تنطق فيما يعود علينا نفعه {فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين * والوزن يومئذ الحق} [الأعراف: 7، 8] من كان منا يرسل نظره ويرسل طرفه في رؤية النساء ويتبع النظرة النظرة ولا يرعى لنساء المسلمين حرمة ولا يرعى ذلك، ويعرف ذلك من نفسه ويعرف أن ذلك النظر يجلب عليه الموبقات ويجلب عليه أموراً منكرة ليعلم أن النظر سهم مسموم من سهام إبليس، فإن لم يحصن نفسه وإن لم يردع نفسه عن ذلك فإنه لا شك سيقع فيما بعد في أمور حرمها الله - جل وعلا -، ولهذا قال - عليه الصلاة والسلام -: (لا تتبع النظرة النظرة فإنما لك الأولى وليست لك الثانية)[6]، وسأله جرير - رضي الله عنه -، سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن نظر الفجأة فقال: (اصرف بصرك)[7] لأن النظرة لا يستهان بها، فمن كان مريضاً بالنظر يتتبع النساء وينظر إلى هذه إلى تلك فليعلم أن ذلك مرض في النفس فليبادر بعلاجه، فهذا أحق بالعلاج من أمراض البدن، وكذلك النظر إلى النساء في الأجهزة المختلفة فإنها تزين للقلب الفواحش وتزين للقلب المنكرات يعلم ذلك من علمه.
أيها المؤمنون: إن كلاً منا ولا شك عنده قصور وعنده تقصير وعنده غلط وعندنا جميعاً غفلة نسأل الله - جل وعلا - أن يجنبنا ذلك وأن يقيمنا على الحق والهدى، لكن لا يجوز أبداً أن نسترسل مع أخطائنا دون أن نحدث توبة وأن نحدث استغفاراً، فهذا نبينا - صلى الله عليه وسلم - يأمر الناس بقوله: (يا أيها الناس توبوا إلى ربكم، فإني أتوب إلى الله في اليوم مائة مرة)[8]، وهو المعصوم - عليه الصلاة والسلام - الذي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فما يفعل منا من هو مسترسل مع إعراضه يفرط في الواجبات ويغشى المحرمات ولا يحدث نفسه بتوبة نصوح بتوبة ونزاهة وقرب إلى ربه وأن يتأمل ما أعد الله للمؤمنين في جنات الخلد، فهل نعرض عما أعد الله وهل لا نستجيب إلى ما أمر الله، وهل لا نجعل الله - جل وعلا - أحب إلينا من أنفسنا ونجعل أمره مقدماً عندنا على أوامر النفس وشهوات النفس اللهم هيئ لنا من أمرنا رشداً ودلنا على الخير والهدى يا أكرم الأكرمين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون} [البقرة: 281].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المؤمنين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حق حمده وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن أحسن الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد بن عبد الله وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وعليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة، وعليكم بلزوم تقول الله فإن بالتقوى الفخار لنا والسعادة لنا والرفعة في هذه الدنيا والآخرة، فاتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
عباد الله: إن الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه وثنى بملائكته تعظيماً لأمره، وتشريفاً لمن أمر بالصلاة عليه فقال قولاً كريماً: {إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً} [الأحزاب: 56] اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء وعن الصحابة أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
-------
[1] رواه الترمذي عن أنس ح (2499)، وابن ماجه (4251).
[2] رواه مسلم بلفظ (الصلوات الخمس) ح (233).
[3] رواه البخاري ح (615)، ومسلم ح (437).
[4] رواه البخاري ح (893)، ومسلم ح (1829).
[5] رواه الترمذي عن معاذ ح (2616) وابن ماجه (3973).
[6] رواه الترمذي عن علي ح (277)، وأبو داود ح (2149).
[7] رواه أبو داود ح (2148) عن جرير.
[8] رواه أحمد عن ابن عمر ح (17391)، ونحوه في مسلم ح (2702).
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد