بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى
أما بعد:
هاهي الأيام تطوى يوماً بعد يوم، وأسبوعاً تلو أسبوع، وشهراً يعقبه شهر. تمر بنا من أعمارنا ونفرح بمرورها وهي تقربنا من آجالنا وتنقص من أعمارنا، والكثير منا في سهو ولهو وغفلة.
أيها المؤمنون، هذه الأيام مطيتنا إلى الله والدار الآخرة تحملنا وتسوقنا إلى لقاء الله ويا له من لقاء.
لقاء الأحبة ـ عباد الله ـ لقاء مشوق تشتاق إليه نفس المؤمن وتفرح به، وعلى العكس من ذلك حال المنافق والكافر والفاجر الفاسق، وقد أخبرنا - صلى الله عليه وسلم - بذلك: ((من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه)) قالت فقلت: يا نبي الله أكراهية الموت؟ فكلنا نكره الموت. فقال: ((ليس كذلك ولكن المؤمن إذا بشر برحمة الله ورضوانه وجنته أحب لقاء الله فأحب الله لقاءه وإن الكافر إذا بشر بعذاب الله وسخطه كره لقاء الله وكره الله لقاءه)).
أيها الموحدون: والكثير منا اليوم يكره الموت لا كما قالت عائشة، فإن كراهية الموت التي هي من الطبيعة أمر خارج عن الإرادة، لكن الكثير يكره الموت لأنه لم يستعد للقاء الله، ولم يعمل عملاً يقدم به على الله وهو فرح مستبشر. الكثير منا مفرط مقصر في الفرائض قبل النوافل وفي الواجبات قبل المستحبات، لذا فإننا غير مستعدين للموت.
وقد أشار إلى هذا المعنى بعض السلف - رحمه الله - عندما سئل: ما بالنا نكره الموت؟ فقال - رحمه الله -: لأنكم عمرتم دنياكم وخربتم آخرتكم، فكرهتم الانتقال من العمران إلى الخراب. نعم، إنه والله السبب الرئيس لكراهيتنا للموت.
ولكن بشراكم أيها المؤمنون، فإن لله - جل وعلا - منح وعطايا يحبو بها عباده في كل حين، وهذه هي حال الكريم مع عباده الفقراء المحتاجون إليه، وكل يوم هو في شأن. يستر ذنباً، ويعفو عن زلة، ويمحو سيئة، ويقبل توبة، ويرفع درجة.
وحال العباد والله المستعان ما بين لهو وغفلة وانشغال بدنيا يموت ويفارقها ويرثها من بعده قوم آخرون.
ومن هذه المنح التي طالما امتن الله بها على عباده هذا الشهر الكريم العظيم الذي أنزل فيه القرآن. هذا الشهر الذي فيه ليلة واحدة هي خير من ألف شهر. أنزل الله فيها سورة كاملة. قال - تعالى -: إِنَّا أَنزَلنَـ?هُ فِى لَيلَةِ ?لقَدرِ وَمَا أَدرَاكَ مَا لَيلَةُ ?لقَدرِ لَيلَةُ ?لقَدرِ خَيرٌ مّن أَلفِ شَهرٍ, تَنَزَّلُ ?لمَلَـ?ئِكَةُ وَ?لرٌّوحُ فِيهَا بِإِذنِ رَبّهِم مّن كُلّ أَمرٍ, سَلَـ?مٌ هِىَ حَتَّى? مَطلَعِ ?لفَجرِ [سورة القدر]. وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((أتاكم رمضان، شهر مبارك فرض الله - عز وجل - عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب السماء وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه مردة الشياطين، لله فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم)) [رواه النسائي]. وعند ابن ماجه والترمذي من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا كانت أول ليلة من رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب ونادى مناد يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار، وذلك في كل ليلة)).
هذه أيها المؤمنون واحدة من المنح التي يمنحنا الله إياها لكي ننال بها جنة عرضها السماوات والأرض، فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. ومع ذلك يمر رمضان على بعض المسلمين هداهم الله كغيره من الشهور بل إنه وللأسف قد يكون أسوأ حالاً عند البعض، وعند الترمذي من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل علي، ورغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له، ورغم أنف رجل أدرك عنده أبواه الكبر فلم يدخلاه الجنة)).
فيا أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - هذا موسمكم قد حل، وضيفكم قد أطل، فأين كرم الضيافة وأنتم أهل الكرم؟ وأين البشاشة والفرح وضيفكم خير الضيوف؟.
عباد الله: إن من بلغه الله رمضان منا لفي نعمة عظيمة عليه شكرها، وشكر هذه النعمة يكون بفعل الطاعات واجتناب المحرمات.
إن هذا الشهر الكريم قد مر بأقوام عباد زهّاد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورضي الله عن الصحابة أجمعين ثم مر من بعدهم على التابعين فرأى منهم ما يشبه ذلك من العبادة والطاعة، لكنه اليوم يشكو إلى الله حالنا. صلاة قليلة الخشوع، قليلة القراءة، قصيرة الوقت، قليلة الركعات، وفوق ذلك كله لا يقوم بها إلا القليل، والكثرة الكاثرة قد حبسهم العذر عن حضور منازل الرحمة وبيوت الغفران. وليت شعري ماهو العذر الذي حبس الكثير عن قيام رمضان؟! فهم ما بين..مشغول بدنياه، محبوس في متجره، فهذه فرصة العام ليجمع من المال ما لا يجمعه طوال العام، ويسوق من البضائع ما تكدس عنده طوال الأشهر الماضية.أو لاعب لاه مشغول بلعبه، ولا يحلو عمل المباريات لكثير من الشباب في رمضان إلا وقت صلاة التراويح.أو ما بين مسلسل عند جهاز التلفزيون سلسلته المسلسلات والأفلام، وكبلته بالقيود والآثام، والبرامج التي تكثر وتتنوع في رمضان صداً عن ذكر الله وإلهاءً عن الصلاة.
أما الصنف الرابع ففي الأسواق يتجول لا يحلو له التسوق والتبضع إلا في ليالي هذا الشهر المبارك، هذا إن لم يكن هناك من لا يريد التبضع بل يبحث عن شيء آخر.. ولم كل هذا؟! من أجل العيد.. يضيع شهر رمضان كله في الأسواق المكتظة بالنساء والشباب، نظرات محرمة، وفتن وبلايا، وكل ذلك من أجل العيد، فلله كم ربح الشيطان في هذه الصفقة من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -؟
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي خلّص قلوب عباده المتقين من ظُلم الشهوات، وأخلص عقولهم عن ظُلَم الشبهات. أحمده حمد من رأى آيات قدرته الباهرة، وبراهين عظمته القاهرة، وأشكره شكر من اعترف بمجده وكماله، واغترف من بحر جوده وأفضاله.
وأشهد أن لا إله إلا الله فاطر الأرضين والسماوات، شهادة تقود قائلها إلى الجنات، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وحبيبه وخليله، والمبعوث إلى كافة البريات، بالآيات المعجزات، والمنعوت بأشرف الخلال الزاكيات. صلى الله عليه، وعلى آله الأئمة الهداة، وأصحابه الفضلاء الثقات، وعلى أتباعهم بإحسان، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
معاشر المؤمنين: إن البركات تتنزل في هذا الشهر الكريم. فهل من راغب؟ والرحمات تتنزل في هذا الشهر فهل من تائب؟ هذه أنهار الخير وبحاره تتدفق في ليالي هذا الشهر الكريم فأين الجادون؟ هل من مشمر للطاعة، باذل لمهر الحور العين. ليالٍ, تمر وتمضي كلمح البصر، ويذهب الجهد والتعب وتبقى حلاوة الطاعة. فهذا الثمن يا خاطب الحور، ومن يخطب الحسناء لم يغله المهر. صيام وقيام وصدقة وتلاوة قرآن ومجالس ذكر وغير ذلك من أعمال البر والطاعة. والثمن الجنة إن شاء الله. يقول: ((من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)) [رواه الشيخان]. ويقول: ((من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)) [رواه الشيخان]. ويقول: ((من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)) [رواه الشيخان]. فماذا تريد بعد ذلك يا عبد الله؟ هل هناك فرصة أعظم من هذه الفرصة؟ هل هناك عرض أفضل من هذا العرض؟ إنها الخسارة والله كل الخسارة، والغبن كل الغبن أن يفوت المرء هذه الفرصة على نفسه ويحرم نفسه هذا الخير العظيم، وهو لا يدري هل يجد فرصة ثانية مثل هذه الفرصة أو لا يجد. فلا إله إلا الله كم من مغبون قد حرم الخير في هذا الشهر المبارك. وكم من خاسر قد ضيع فرصة هذا الشهر، ولا يخسر على الله إلا هالك. نعوذ بالله من الخسران.
معاشر الإخوة الكرام: لماذا نعرض ونحن المحتاجون؟ لماذا نرفض ونحن الغارمون؟ إنه والله الشيطان الذي سول للكثير منا. فمرة يقول لنا: إِنَّ ?للَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [البقرة: 173]. وهي كلمة حق أريد بها باطل. يريد منا الشيطان ألا نعمل ثم نؤمل في رحمة الله، والله يقول: قَرِيبٌ مّنَ ?لمُحسِنِينَ [الأعراف: 56]. ومرة يقول لنا: لا زال في العمر متسع لنؤخر التوبة، ونحن نعلم أن الموت لا يعرف صغيراً ولا كبيراً. فسبحان الله كيف انتصر علينا مع علمنا بحيله ومكره، وقد بينها الله لنا في كتابه الكريم. ولكن هاهو الشيطان يصفد في هذا الشهر الكريم، فأين من يستغل هذه الفرصة ليبقى العدو الثاني، الذي هو النفس التي بين جنبينا، فلنستغل الفرصة ولنكرهها على طاعة الله حتى تصبح لها ديدناً لا تنفك عنه.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد