التوكل


 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الخطبة الأولى:

أما بعد:

عباد الله يقول - تعالى -: \" وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مٌّؤمِنِينَ \" [المائدة: 23]. ويقول - جل وعلا -: \" وَمَن يَتَوَكَّل عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسبُهُ \" [الطلاق: 3]. وقال عن أوليائه \" رَّبَّنَا عَلَيكَ تَوَكَّلنَا وَإِلَيكَ أَنَبنَا وَإِلَيكَ المَصِيرُ \" [الممتحنة: 4]. وقال لرسوله - صلى الله عليه وسلم -: \" فَتَوَكَّل عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الحَقّ المُبِينِ \" [النمل: 79]. وقال: \" فَإِذَا عَزَمتَ فَتَوَكَّل عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبٌّ المُتَوَكّلِينَ \" [آل عمران: 159]. قال جل في علاه: \" وَتَوَكَّل عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً \" [النساء: 81]. وقال عن أصحاب نبيه رضوان الله عليهم \" الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَد جَمَعُوا لَكُم فَاخشَوهُم فَزَادَهُم إِيمَـاناً وَقَالُوا حَسبُنَا اللَّهُ وَنِعمَ الوَكِيلُ \" [آل عمران: 173]. وفي الصحيحين في حديث السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب ((هم الذين لا يسترقون ولا يتطيرون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون)).

وفي صحيح البخاري عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: ((حسبنا الله ونعم الوكيل. قالها إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - حين ألقي في النار. وقالها محمد - صلى الله عليه وسلم - حين قالوا له إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل)).

وعند الترمذي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - مرفوعاً: ((لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لزرقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً)) وفي السنن من حديث أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قال حين يخرج من بيته: ((بسم الله توكلت على الله ولا حول ولا قوة إلا بالله. يقال له: هديت ووقيت وكفيت فيقول الشيطان لشيطان آخر: كيف لك برجل قد هدي ووقي وكفي؟)).

أيها الموحدون، هذا كلام الله وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم - في التوكل. وما ذكرناه قليل من كثير من الآيات والأحاديث في فضل التوكل وأهميته.

 

التوكل عباد الله عبادة عظيمة القدر قد ضل عنه كثير من المسلمين ما بين جهل بماهية التوكل أو عجز وتفريط في هذه العبادة، قال أهل العلم: التوكل نصف الدين والنصف الثاني الإنابة. فإن الدين استعانة وعبادة فالتوكل هو الاستعانة ـ أي بالله ـ والإنابة هي العبادة.

 

ومصداق ذلك في قوله - تعالى -: إياك نعبد وإياك نستعين ومعناها: نحن لا نعبد إلا أنت يا الله، وبك نستعين على عبادتك، فإنه لا معين لنا إلا أنت.

 

ويقول سهل بن عبد الله التستري: العلم كله باب من التعبد، والتعبد كله باب من الورع، والورع كله باب من الزهد، والزهد كله باب من التوكل.

 

والمتوكلون على الله أنواع وأقسام، فأولياؤه وخاصته يتوكلون عليه في الإيمان ونصرة دينه وإعلاء كلمته وجهاد أعدائه، وأقل من هؤلاء مرتبة من يتوكل عليه في استقامته في نفسه وإصلاحها، وأقل من هؤلاء مرتبة من يتوكل على الله في أمر يناله منه، من رزق أو عافية أو نصر على عدو أو زوجة أو ولد، وأفضل التوكل التوكل في الواجب، وهو واجب الخلق وواجب النفس، وأوسع التوكل وأنفعه التوكل في التأثير في الخارج في مصلحة دينية أو رفع مفسدة دينية، وهو توكل الأنبياء في إقامة دين الله ودفع فساد المفسدين في الأرض.

 

ثم الناس بعد ذلك في التوكل على حسب هممهم ومقاصدهم، فمن متوكل على الله في حصول الملك، ومن متوكل على الله في الحصول على رغيف خبز. ومن صدق توكله على الله في حصول شيء ناله. فإن كان محبوباً لله مرضياً كانت له فيه العاقبة المحمودة، وإن كان مسخوطاً مبغوضاً كان ما حصل له بتوكله مضرة عليه.

 

واعلم هداني الله وإياك للصواب أن التوكل من أعمال القلوب لا من أعمال الجوارح، قال الإمام أحمد - رحمه الله -: التوكل: عمل القلب. معنى ذلك أنه عمل قلبي، ليس بقول اللسان ولا عمل الجوارح.

 

وأما تعريف التوكل فقد قال بعض أهل العلم التوكل: هو علم القلب بكفاية الرب للعبد. وقال غيره: هو انطراح القلب بين يدي الرب، وهو ترك الاختيار والاسترسال مع مجاري القدر. وقال غيره: هو الرضا بالمقدور.

 

والتوكل عباد الله درجات منها الدرجة الأولى معرفة بالرب وصفاته من قدرة الله وكفايته وقيوميته وانتهاء الأمور إلى علمه وصدورها عن مشيئته وقدرته، وهذه المعرفة هي أول درجة يضع بها العبد قدمه في مقام التوكل. فكل من كان بالله أعلم وأعرف كان توكله أصح وأقوى.

 

الدرجة الثانية من درجات التوكل: إثبات الأسباب والمسببات. وإن من جهل بعض الناس أنهم تركوا الأخذ بالأسباب وظنوا أن هذا هو التوكل وأنهم ينتظرون من الله أن يرزقهم ويطعمهم ويسقيهم وهم نائمون على فرشهم دون عمل ولا ضرب في الأرض للحصول على ذلك.

 

وهذا عباد الله هو العجز الذي نهى عنه - صلى الله عليه وسلم - ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان)) ولكن ليعلم المتوكل أنه يأخذ بالأسباب ولا يتعلق قلبه بها إنما القلب متعلق بالله. فأنت تطلب الوظيفة ولكن لا يتعلق قلبك بها، وتجمع مالا تغني به ورثتك من أهل وأبناء ولكن يبقى تعلقك بالله لا بهذا المال.

 

والأخذ بالأسباب من سنة المصطفى - عليه أفضل الصلاة والسلام - فقد لبس درعين يوم أحد ولم يترك لبس الدروع محتجاً بأنه متوكل على الله. وقد كان يدخر لأهله قوت سنة -كما في صحيح البخاري- وهو سيد المتوكلين.

 

الخطبة الثانية:

 الحمد لله وكفى، وصلاة وسلاماً على النبي المصطفى، وعلى آله وصحبه ممن وفى، ومن اتبع هداهم واستن بسنتهم واقتفى.

وبعد:

الدرجة الثالثة من درجات التوكل: رسوخ القلب في مقام توحيد التوكل. فإنه لا يستقيم توكل العبد حتى يصح له توحيده. فكيف يكون متوكلاً من يعتقد أن الولي الفلاني حياً كان أو ميتاً ينفع ويضر من دون الله. بل هذا قد أفسد توكله على الله وأفسد دينه كله.

 

الدرجة الرابعة من درجات التوكل: اعتماد القلب على الله واستناده إليه وسكونه إليه. بحيث لا يبقى فيه اضطراب من تشويش الأسباب أو السكون إليها. فبعض الناس لا يطمئن قلبه إلا إذا عمل بالأسباب، وإذا قدر الله عليه عدم الحصول على الأسباب لم يهدأ له بال، فهذا توكله ناقص، وعلامة التوكل الحق أن لا يبالي الإنسان بوجود الأسباب وعدمها لأنه يعلم أن الأمر كله لله وأن الأمر بيده يقول للشيء كن فيكون.

 

الدرجة الخامسة: التفويض، وهو روح التوكل ولبه وحقيقته وهو جعل أمورك كلها إلى الله وإنزالها به طلباً واختياراً لا كرهاً واضطراراً بل كتفويض الابن العاجز الضعيف المغلوب على أمره كل أموره إلى أبيه العالم بشفقته عليه ورحمته به وتمام كفايته وحسن ولايته وتدبيره له، فهو يرى أن تدبير أبيه له خير من تدبيره لنفسه وقيام أبيه بمصالحه وتوليه لها خير من قيامه هو بمصالح نفسه وتوليه لها. وقد جاء التفويض في القرآن فيما حكاه ربنا عن مؤمن آل فرعون وقوله: وَأُفَوّضُ أَمرِى إِلَى اللَّهِ [غافر: 44]. والمفوض يفوض أمره إلى الله وهو يعلم أن ما يقضيه له الله خير ولو كان قضاء الله بخلاف ما يظنه خيراً أو يظهر له أنه ليس بخير، فهو يرضى به، لأنه يعلم أنه خير ولو خفيت عليه جهة المصلحة فيه.

 

والدرجة السادسة: الرضا وهي ثمرة للتفويض وثمرة للتوكل ولذلك فسر بعض العلماء التوكل بأنه الرضا بما يقضيه الله للعبد.

 

وكان بعض العلماء يقول المقدور يحيط به أمران: التوكل قبله والرضا بعده. فمن توكل على الله قبل الفعل ورضي بالمقضي له بعد الفعل فقد قام بالعبودية. وهذا هو معنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في دعاء الاستخارة: ((اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم)) فهذا توكل وتفويض ثم قال: ((فإنك تعلم ولا أعلم، وتقدر ولا أقدر وأنت علام الغيوب)) فهذا تبرؤ إلى الله من العلم والحول والقوة ثم توسل إليه بأسمائه وصفاته ثم سؤال له أن يقضي له الخير ويقدره له.

 

وهكذا عباد الله يعلمنا رسول الله التوكل من خلال دعاء الاستخارة. فأين المتوكلون؟ الذين قد تعلقت قلوبهم بالله فلا يرجون إلا الله ولا يدعون إلا الله، الذين يعملون الأسباب وتعلقهم بمسبب الأسباب. يعاملون الخلق واعتمادهم على الخالق. فطوبى لهم ويا فوزهم، وهم يأوون إلى من بيده مقاليد السماوات والأرض. وغيرهم يرجو مخلوقاً مثله لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً.

 

معاشر المؤمنين، إن المتوكل على الله لا يطلب رزق الله بمعصيته، ولا يخاف في هذه المسألة إلا الله. يعلم أن رزقه بيد الله لا بيد فلان، يعلم أن رزقه قد كتب له وهو في بطن أمه يقول كما في الصحيحين: ((إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً وأربعين ليلة ثم يكون علقة مثله ثم يكون مضغة مثله ثم يبعث إليه الملك فيؤذن بأربع كلمات فيكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد ثم ينفخ فيه الروح، فإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى لا يكون بينها وبينه إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخل النار، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكن بينها وبينه إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل عمل أهل الجنة فيدخلها)).

 

 فإذا كان الرزق قد كتب لك، وهو آت إليك وإن لم تأته، فلماذا الخوف ولماذا الوقوع في المشتبهات والمحرمات من أجل كسب الرزق.

 

عباد الله، في الحديث عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أيها الناس اتقوا الله وأجملوا في الطلب، فإن نفساً لن تموت حتى تستوفي رزقها، وإن أبطأ عنها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، خذوا ما حل، ودعوا ما حرم)) [رواه بن ماجه].

 

أيها المؤمنون، خرق للتوكل أن يترك العبد العمل بالأسباب كما أن التعلق بالأسباب أيضاً خرق للتوكل. فبعض الناس يترك العمل بالأسباب زعماً منه أنه متوكل على الله، وقد ذم الله قوماً تركوا العمل بالأسباب وزعموا أنهم متوكلون. روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: (كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون ويقولون: نحن المتوكلون، فإذا قدموا مكة سألوا الناس فأنزل الله - تعالى -: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيرَ الزَّادِ التَّقوَىا [البقرة: 197]).

فالأخذ بالأسباب من التوكل على الله، لكن المهم أن يبقى قلب العبد بعد أن يعمل بالأسباب معلقاً بالله - تعالى -لأنه - سبحانه - مسبب الأسباب والقادر على كل شيء.

  

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply