الرحمة في الإسلام


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الخطبة الأولى:

أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله - عز وجل -، فاتقوا الله رحمكم الله، واعتبروا بمن مضى من قبلكم، عاجلهم ريب المنون، وجاءهم ما كانوا يوعدون، هم السابقون وأنتم اللاحقون، سبقوكم بمضي الآجال، وأنتم على آثارهم تُشدٌّ بكم الرحال، {أَفَلَم يَسِيرُوا فِي لأرضِ فَتَكُونَ لَهُم قُلُوبٌ يَعقِلُونَ بِهَا أَو ءاذَانٌ يَسمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعمَى الأبصَـارُ وَلَـاكِن تَعمَى القُلُوبُ الَّتِي فِي الصٌّدُورِ [الحج: 46].

أيها المسلمون: الناس في حاجة إلى كَنَف رحيم، ورعاية حانية، وبشاشة سمحة، هم بحاجة إلى وُدٍّ, يسعهم، وحلم لا يضيق بجهلهم، ولا ينفر من ضعفهم، في حاجة إلى قلب كبير، يمنحهم ويعطيهم، ولا يتطلع إلى ما في أيديهم، يحمل همومهم، ولا يثقلهم بهمومه.

إن تبلٌّد الحس يهوي بالإنسان إلى منزلة بهيمية أو أحطّ، الإنسانُ بغير قلب رحيم أشبه بالآلة الصماء، وهو بغير روح ودود أشبه بالحجر الصلب.

إن الإنسان لا يتميّز في إنسانيته إلا بقلبه وروحه، لا في أكوام لحمه وعظامه. بالروح والقلب يحسٌّ ويشعر، وينفعل ويتأثر، ويرحم ويتألم.

الرحمة ـ أيها الإخوة في الله ـ كمال في الطبيعة البشرية، تجعل المرء يرقّ لآلام الخلق، فيسعى لإزالتها، كما يسعى في مواساتهم، كما يأسى لأخطائهم، فيتمنّى هدايتهم، ويتلمّس أعذارهم.

الرحمة صورة من كمال الفطرة وجمال الخلُق، تحمل صاحبها على البر، وتهبّ عليه في الأزمات نسيماً عليلاً تترطّب معه الحياة، وتأنس له الأفئدة.

في الحديث الصحيح: (جعل الله الرحمة مائة جزء، أنزل في الأرض جزءاً واحداً، فمن ذلك الجزء تتراحم الخلائق حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه)[1].

وربنا - سبحانه - متصفٌ بالرحمة صفةً لا تشبه صفات المخلوقين، فهو أرحم الراحمين، وخير الراحمين، وسعت رحمته كل شيء، وعمّ بها كل حي، وملائكة الرحمة ـ وهي تدعو للمؤمنين ـ أثنت على ربها، وتقربت إليه بهذه الصفة العظيمة، {رَبَّنَا وَسِعتَ كُـلَّ شَيء رَّحمَةً وَعِلماً فَاغفِر لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِم عَذَابَ الجَحِيمِ} [غافر: 7]، وفي الحديث القدسي: (إن رحمتي تغلب غضبي) مخرَّج في الصحيحين من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - [2]، وفي التنزيل العزيز: {وَقُل رَّبّ اغفِر وَارحَم وَأنتَ خَيرُ الرحِمِينَ} [المؤمنون: 118]، {فَاللَّهُ خَيرٌ حَـافِظًا وَهُوَ أَرحَمُ الرحِمِينَ} [يوسف: 64].

وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: قدم رسول الله بسبي، فإذا امرأةٌ من السبي تسعى قد تحلَّب ثديها، إذا وجدت صبيا في السبي أخذته فألزقته ببطنها فأرضعته، فقال رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- : (أتُرون هذه المرأة طارحةً ولدها في النار؟) قلنا: لا والله وهي تقدر على أن لا تطرحه، قال: (فالله - تعالى -أرحم بعباده من هذه بولدها) أخرجه البخاري[3].

أيها المسلمون، ورحمة الله سببٌ واصل بين الله وبين عباده، بها أرسل رسله إليهم، وأنزل كتبه عليهم، وبها هداهم، وبها يسكنهم دار ثوابه، وبها يرزقهم ويعافيهم وينعم عليهم، فبينهم وبينه سبب العبودية، وبينه وبينهم سبب الرحمة، {يأَيٌّهَا النَّاسُ قَد جَاءتكُم مَّوعِظَةٌ مّن رَّبّكُم وَشِفَاء لِمَا فِي الصٌّدُورِ وَهُدًى وَرَحمَةٌ لّلمُؤمِنِينَ قُل بِفَضلِ اللَّهِ وَبِرَحمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَليَفرَحُوا هُوَ خَيرٌ مّمَّا يَجمَعُونَ} [يونس: 57، 58].

الرحمة تحصل للمؤمنين المهتدين بحسب هُداهم، فكلما كان نصيب العبد من الهدى أتمّ كان حظه من الرحمة أوفر، فبرحمته - سبحانه - شرع لهم شرائع الأوامر والنواهي، بل برحمته جعل في الدنيا ما جعل من الأكدار حتى لا يركنوا إليها فيرغبوا عن نعيم الآخرة، وأرسل نبيه محمداً بالرحمة، فهو نبي الرحمة للعالمين أجمعين، {وَمَا أَرسَلنَـاكَ إِلاَّ رَحمَةً لّلعَـالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، بعثه ربه فسكب في قلبه من العلم والحلم، وفي خُلُقه من الإيناس والبر، وفي طبعه من السهولة والرفق، وفي يده من السخاوة والندى ما جعله أزكى عباد الرحمن رحمة، وأوسعهم عاطفة، وأرحبهم صدراً، {فَبِمَا رَحمَةٍ, مّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُم وَلَو كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ القَلبِ لاَنفَضٌّوا مِن حَولِكَ} [آل عمران: 159]، {لَقَد جَاءكُم رَسُولٌ مّن أَنفُسِكُم عَزِيزٌ عَلَيهِ مَا عَنِتٌّم حَرِيصٌ عَلَيكُم بِالمُؤمِنِينَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 128].

والإسلام رسالة خير وسلام ورحمة للبشرية كلها، دعا إلى التراحم، وجعل الرحمة من دلائل كمال الإيمان، فالمسلم يلقى الناس وفي قلبه عطفٌ مدخور، وبرّ مكنون، يوسع لهم، ويخفف عنهم، ويواسيهم، فعن ابن مسعود - رضي الله عنه -، عن النبي أنه قال: (لن تؤمنوا حتى تراحموا)، قالوا: يا رسول الله، كلنا رحيم، قال: (إنه ليس برحمة أحدكم صاحبه، ولكنها رحمة العامة) رواه الطبراني ورجاله ثقات[4].

ليس المطلوب قصر الرحمة على من تعرف من قريب أو صديق، ولكنها رحمة عامة تسع العامة كلهم، وأحاديث رسول الله تُبرز هذا العموم في إسداء الرحمة، والحث على إفشائها وانتشارها. عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله: (لا يرحم الله من لا يرحم الناس) متفق عليه[5]، وفي الحديث الآخر: (من لا يرحم لا يُرحم)[6]، يقول ابن بطال - رحمه الله -: \"في هذا الحديث الحضّ على استعمال الرحمة للخلق، فيدخل المؤمن والكافر، والبهائم المملوك منها وغير المملوك، ويدخل في الرحمة التعاهد بالإطعام والمساعدة في الحمل وترك التعدي بالضرب\"[7].

عباد الله، ورحمة الله تُستجلب بطاعته وطاعة رسوله محمد، والاستقامة على أمر الإسلام، {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُم تُرحَمُونَ} [آل عمران: 132]، كما تُستجلب بتقوى الله، {وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُم تُرحَمُونَ} [الحجرات: 10]، {يا أَيٌّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَءامِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤتِكُم كِفلَينِ مِن رَّحمَتِهِ وَيَجعَل لَّكُم نُوراً تَمشُونَ بِهِ وَيَغفِر لَكُم وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [الحديد: 28].

ومن جالبات رحمة الله إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، {وَالمُؤمِنُونَ وَالمُؤمِنَـاتِ بَعضُهُم أَولِيَاء بَعضٍ, يَأمُرُونَ بِالمَعرُوفِ وَيَنهَونَ عَنِ المُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَواةَ وَيُؤتُونَ الزَّكَواةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَـئِكَ سَيَرحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 71]، والعبد بذنوبه وتقصيره فقير إلى رحمة الله، {لَولاَ تَستَغفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُم تُرحَمُونَ} [النمل: 46].

ومن أعظم ما تُستجلب به رحمة الله ـ عباد الله ـ الرحمة بعباده، ففي الحديث الصحيح: (الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء) رواه أبو داود والترمذي[8].

ومن أجل هذا ـ رحمكم الله ـ فإن المؤمن قويَّ الإيمان يتميّز بقلب حيّ مرهف لين رحيم، يرقّ للضعيف، ويألم للحزين، ويحنّ على المسكين، ويمدّ يده إلى الملهوف، وينفر من الإيذاء، ويكره الجريمة، فهو مصدر خير وبر وسلام لما حوله ومن حوله.

أيها المسلمون، وإذا كان الأمر كذلك فإن من أولى الناس وأحقهم بالرحمة وأمنِّهم بها وأولاهم بها الوالدين، فببرهما تُستجلب الرحمة، وبالإحسان إليهما تكون السعادة، {وَاخفِض لَهُمَا جَنَاحَ الذٌّلّ مِنَ الرَّحمَةِ وَقُل رَّبّ ارحَمهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا} [الإسراء: 24].

ثم من بعد ذلك الأولاد فلذات الأكباد، عن أسامة بن زيد - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله يأخذني فيقعدني على فخذه، ويقعد الحسن على فخذه الأخرى، ثم يضمهما ثم يقول: (اللهم ارحمهما، فإني أرحمهما) أخرجه البخاري[9].

والمشاهد أن في الناس أجلافاً تخلو قلوبهم من الرقة والحنوّ، في مسالكهم فظاظة، وفي ألفاظهم غلظة، قبَّل رسول الله الحسن والحسين - رضي الله عنهما -، وعنده الأقرع بن حابس، فقال الأقرع: إن لي عشرةً من الولد، ما قبّلت منهم أحداً، فنظر إليه رسول الله وقال: (من لا يَرحم لا يُرحم)[10]، وفي رواية: (أَوَأملك أن نزع الله الرحمة من قلبك؟!)[11] مخرج في الصحيحين من حديث عائشة وأبي هريرة - رضي الله عنهما -.

ويرتبط بالوالدين والأولاد حق ذوي الأرحام، فالرحم مشتقة من الرحمة في مبناها، فحرِي أن تستقيم معها في معناها، وفي الحديث: (الرحم شجنة من الرحمة، من وصلها وصله الله، ومن قطعها قطعه الله)[12]، ليس للمسلم أن يوصد قلبه وبيته دون أقاربه، أو يقطع علائقهم لا يسدي لهم عوناً، فلا يواسيهم في ألم، ولا يبادرهم في معروف.

إن الغلظة والجفاء والقطيعة والصدود في حق ذي الرحم تحرم العبد بركة الله وفضله، وتعرّضه لسخط الله ومقته، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله يقول: (الرحم شجنة من الرحمة تقول: يا رب، إني قُطعت، يا رب، إني ظُلمت، يا رب، إني أُسيءَ إليّ، فيجيبها: ألا ترضين أن أصل من وصلك، وأقطع من قطعك؟!) أخرجه أحمد[13].

ومن مواطن الرحمة إحسان معاملة الخدم، والترفق بهم فيما يكلّفون به من أعمال، والتجاوز عن هفواتهم، وليحذر المرء من سطوة التصرف، فيسخّرهم ويسخر منهم، فإن الله إذا ملك أحداً شيئاً فاستبد به وأساء سلبه ما ملك، ويُخشى عليه من سوء المنقلب. وهذا أنس بن مالك - رضي الله عنه - يقول: خدمتُ رسول الله عشر سنين، فما قال لي: أفٍ, قط، وما قال لي لشيء صنعتُه: لم صنعته؟ ولا لشيء تركته: لم تركته؟) رواه مسلم[14]، وعن أبي مسعود البدري - رضي الله عنه - قال: كنت أضرب غلاماً لي بالسوط، فسمعت صوتاً خلفي: (اعلم أبا مسعود)، فلم أفهم الصوت من الغضب، فلما دنا فإذا هو رسول الله وإذا هو يقول: (اعلم ـ أبا مسعود ـ أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام)، فقلت: يا رسول الله، هو حرّ لوجه الله، فقال: (أما لو لم تفعل لفحتك النار)[15]، وجاءه - عليه الصلاة والسلام - رجل يسأله: كم أعفو عن الخادم؟ فقال: (كل يوم سبعين مرة) أخرجه أبو داود[16].

وفي الناس أقوام شداد قساة ينتهزون بعض الخدم، فيوقعون بهم أنواع الأذى، وقد شدد الإسلام في ذلك وغلّظ، يقول رسول الله: (من ضرب سوطاً ظلماً اقتُصَّ منه يوم القيامة)[17].

وممّن تتطلب حالتهم الرحمة المرضى وذوو العاهات والإعاقات، فهم يعيشون في الحياة بوسائل منقوصة، تعوق مسيرهم، وتحول دون تحقيق كل مقاصدهم، وتضيق بها صدورهم، وتحرج نفوسهم. فلقد قيّدتهم عللُهم، واجتمع عليهم حرّ الداء، مع مرّ الدواء، فيجب الترفق بهم، والحذر من الإساءة إليهم، أو الاستهانة بمتطلبات راحتهم، فإن القسوة معهم جرم عظيم، {لَّيسَ عَلَى الأَعمَى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأَعرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى المَرِيضِ حَرَجٌ} [النور: 61].

أما الصغار والأطفال فإنهم محتاجون إلى عناية خاصة، ورحمة راحمة، فليس منا من لم يوقر كبيرنا ويرحم صغيرنا، والنفوس ذات الفطر السليمة تتعلّق بالصغير حتى يكبر، والمريض حتى يُشفى، والغائب حتى يحضر، وفي الحديث: (ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويعرف شرف كبيرنا) أخرجه أحمد والترمذي، وقال الترمذي: \"حديث حسن صحيح\"[18].

أيها الإخوة المسلمون، وتعاليم الإسلام وآداب الدين في هذا الباب تتجاوز الإنسان الناطق إلى الحيوان الأعجم، فجنات عدن تفتح أبوابها لامرأة بغيّ سقت كلباً فغفر الله لها[19]، ونار جهنم فتحت أبوابها لامرأة حبست هرة حتى ماتت، لا هي أطعمتها وسقتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض[20]، فإذا كانت الرحمة بكلب تغفر ذنوب البغايا، فإن الرحمة بالبشر تصنع العجائب، وفي المقابل، فإذا كان حبس هرة أوجب النار، فكيف بحبس البرآء من البشر؟!

وتترقَّى تعاليم ديننا في الرحمة بالبهائم حتى في حال ذبحها، والمشروع من قتلها، يقول - عليه الصلاة والسلام -: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليُحدَّ أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته)[21].

وبعد أيها الناس، فبالرحمة تجتمع القلوب، وبالرفق تتآلف النفوس، والقلب يتبلّد مع اللهو الطويل والمرح الدائم، لا يشعر بحاجة محتاج، ولا يحسّ بألم متألم، ولا يشاطر في بؤس بائس ولا حزن محزون، جاء رجل إلى النبي يشكو قسوة قلبه فقال له: (أتحبّ أن يلين قلبك؟! ارحم اليتيم، وامسح رأسه، وأطعمه من طعامك يلن قلبك)[22]، والرحمة لا تُنزع إلا من شقي عياذا بالله.

 

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {أَهُم يَقسِمُونَ رَحمَةَ رَبّكَ نَحنُ قَسَمنَا بَينَهُم مَّعِيشَتَهُم فِى الحَيَواةِ الدٌّنيَا وَرَفَعنَا بَعضَهُم فَوقَ بَعضٍ, دَرَجَـاتٍ, لّيَتَّخِذَ بَعضُهُم بَعضاً سُخرِيّاً وَرَحمَةُ رَبّكَ خَيرٌ مّمَّا يَجمَعُونَ} [الزخرف: 22].

نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمد، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله، يعلم مكنونات الصدور ومخفيات الضمائر، أحمده - سبحانه - وأشكره على ما أولى من وافر النعم والفضل المتكاثر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له هو الأول والآخر، والباطن والظاهر، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده الله ورسوله المطهّر الطاهر، كريم الأصل زكي المآثر، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أولي الفضائل والمفاخر، والتابعين ومن تبعهم بإحسان وعلى درب الحق سائر.

أما بعد:

فيا عباد الله، الرحمة ليست حنانا لا عقل معه، وليست شفقة تتنكر للعدل والنظام، كلا، بل إنها خُلُق يرعى الحقوق كلَّها، قد تأخذ الرحمة صورةَ الحزم حين يؤخذ الصغير إلى المدرسة من أجل التربية وطلب العلم، فيُلزم بذلك إلزاماً، ويُكفّ عن اللعب كفاً، ولو تُرِكوا وما أرادوا لم يحسنوا صنعاً، ولم يبنوا مجداً.

والطبيب يمزّق اللحم ويهشم العظم ويبتر العضو، وما فعل ذلك ـ أحسن الله إليه ـ إلا رحمة بالمريض وعلاجه، ناهيكم بإقامة الحدود، والأخذ على أيدي السفهاء، وأطرهم على الحق أطراً، فهي الرحمة في مآلاتها، والحياة في كمالاتها، {وَلَكُم فِي القِصَاصِ حَيَوةٌ يأُولِي الأَلبَـابِ لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ} [البقرة: 179].

والشفقة على المجرمين تخفي أشدّ أنواع القسوة على الجماعة، إنها تشجّع الشواذ على الإجرام، والشفقة على المجرمين سماها القرآن الكريم رأفة، ولم يسمها رحمة، فقال في عقاب الزناة والزواني: {وَلاَ تَأخُذكُم بِهِمَا رَأفَةٌ فِى دِينِ اللَّهِ} [النور: 2].

إن القسوة التي استنكرها الإسلام جفاف في النفس، لا ترتبط بتحقيق عدل، ولا بمسلك إنصاف، ولكنها شدةٌ وانحراف في دائرة مجردة وهوى مضل.

أيها المسلمون، وقد يستوقف المتأمل معنى الشدة على الكافرين في مقابل الرحمة بالمؤمنين في قول الله - عز وجل -: {مٌّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاء بَينَهُم} [الفتح: 29]، والحق أن الإسلام قد جاء بالرحمة العامة، لا يُستثنى منها إنسان ولا دابة ولا طير، بيد أن هناك من الناس والدواب من يكون مصدر خطر ومثار رُهب فيكون من رعاية مصلحة الجماعة كلها أن يُحبس شره ويُكف ضرره، بل إن الشدة معه رحمةٌ به وبغيره.

الإسلام رسالة خير وسلام ورحمة للبشرية كلها، بل للدنيا كلها، ولكن ذئاب البشر أبوا إلا اعتراض الرحمة المرسلة، ووضع العوائق في طريقها حتى لا تصل إلى الناس، فيهلكوا في أودية الحيرات والجهالة، فلم يك بدٌّ من إزالة هذه العوائق، والإغلاظ لأصحابها، ويوم ينقطع تعرٌّضهم وتحديهم تشملهم هذه الرحمة العامة، فليس في الرحمة قصور، ولكن القصور فيمن حرم نفسه متنزّلاتها، اقرؤوا قول الله - عز وجل -: {وَرَحمَتِى وَسِعَت كُلَّ شَىء فَسَأَكتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤتُونَ الزَّكَـوةَ وَالَّذِينَ هُم بِـئَايَـاتِنَا يُؤمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِىَّ الامّىَّ} [الأعراف: 156، 157].

ألا فاتقوا الله رحمكم الله، وتواصوا بالحق، وتواصوا بالصبر، وتواصوا بالمرحمة.

 

ثم صلوا وسلموا على نبيكم نبي الرحمة، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة محمد رسول الله، فقد أمركم بذلك ربكم جل في علاه، فقال في محكم تنزيله، وهو الصادق في قيله قولاً كريماً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَـائِكَـتَهُ يُصَلٌّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيٌّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا صَلٌّوا عَلَيهِ وَسَلّمُوا تَسلِيماً} [الأحزاب: 56].

اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين...

 

----------------------------------------

[1] أخرجه البخاري في الأدب (6000)، ومسلم في التوبة (2752) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

[2] أخرجه البخاري في التوحيد (7404)، ومسلم في التوبة (2751).

[3] أخرجه البخاري في الأدب (5999)، ومسلم في التوبة (2754).

[4] عزاه المنذري في الترغيب (3/140) للطبراني من حديث أبي موسى - رضي الله عنه -، وقال: \"رواته رواة الصحيح\"، وكذا الهيثمي في المجمع (8/186)، وحسنه لغيره الألباني في صحيح الترغيب (2253).

[5] أخرجه البخاري في التوحيد (7376)، ومسلم في الفضائل (2319) من حديث جرير بن عبد الله البجلي - رضي الله عنه -.

[6] أخرجه البخاري في الأدب (6013) واللفظ له، ومسلم في الفضائل (2319) من حديث جرير بن عبد الله - رضي الله عنه -.

[7] انظر: فتح الباري (10/440) بتصرف يسير.

[8] أخرجه أبو داود في الأدب (4941)، والترمذي في البر (1924)، وكذا أحمد (2/160) من حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما -، وقال الترمذي: \"حديث حسن صحيح\"، وصححه الحاكم (4/159)، ووافقه الذهبي، وأثبته الحافظ في الفتح (3/158)، وهو في السلسلة الصحيحة (925).

[9] أخرجه البخاري في الأدب (6003).

[10] أخرجه البخاري في الأدب (5997)، ومسلم في الفضائل (2318) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

[11] أخرجه البخاري في الأدب (5998)، ومسلم في الفضائل (2317) من حديث عائشة - رضي الله عنه -.

[12] تقدم تخريجه تحت رقم (8).

[13] أخرجه أحمد (2/383)، وأصل الحديث في البخاري، كتاب التفسير (4832) بنحوه.

[14] أخرجه البخاري في الأدب (6038)، ومسلم في الفضائل (2309).

[15] أخرجه مسلم في الأيمان (1659).

[16] أخرجه أحمد (2/111)، وأبو داود في الأدب (5164)، والترمذي في البر (1949) من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -، وقال الترمذي: \"حديث حسن غريب\"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (2289).

[17] أخرجه البخاري في الأدب المفرد (185)، والطبراني في الأوسط (1445) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، وعزاه إليه وإلى البزار والمنذري في الترغيب (3/152) وحسن إسناده (3/152)، وكذا الهيثمي في المجمع (10/353)، وقواه الألباني في السلسلة الصحيحة (5/467).

[18] أخرجه أحمد (2/207)، والبخاري في الأدب المفرد (358)، وأبو داود في الأدب (4943)، والترمذي في البر (1920) من حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما -، وصححه الحاكم (1/131)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (2196).

[19] أخرج هذه القصة البخاري في بدء الخلق (3321)، ومسلم في السلام (2245) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

[20] أخرج هذه القصة البخاري في أحاديث الأنبياء (3482)، ومسلم في السلام (2242) من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -.

[21] أخرجه مسلم في العيد (1955) من حديث شداد بن أوس - رضي الله عنه -.

[22] قال المنذري في الترغيب (3/237): \"رواه الطبراني من رواية بقية، وفيه راو لم يسمّ أيضاً\"، وكذا في مجمع الزوائد (8/160)، وقال الألباني في صحيح الترغيب (2744): \"حسن لغيره\".

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply