بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فأوصيكم ـ أيّها الناس ـ ونفسي بتقوى الله - عز وجل - التي هي معتصَم عند البلايا، وسلوان في الهمّ والرزايا.
واعلموا ـ حفظكم الله ورعاكم ـ أنّ الابتلاء سنّة ربّانية ماضية، هي مِن مقتضيات حكمةِ الله - سبحانه - وعدله، متمثِّلاً وقعُه بجلاء في الفقر والغنى والصحّة والمرض والخوف والأمن والنقص والكثرة، بل وفي كلّ ما نحبّ ونكرَه، لا نخرج من دائرة الابتلاء، يقول الله - تعالى -: ( وَبَلَونَـاهُم بِالحَسَنَـاتِ وَالسَّيّئَاتِ لَعَلَّهُم يَرجِعُونَ ) [الأعراف: 168]، ويقول - سبحانه -: ( وَنَبلُوكُم بِالشَّرّ وَالخَيرِ فِتنَةً وَإِلَينَا تُرجَعُونَ ) [الأنبياء: 35]، يقول ابن عباس رضي الله - تعالى -عنهما: (نبتليكم بالشدّة والرخاء، والصحّة والسّقم والغنى والفقر والحلال والحرام والطّاعة والمعصية والهدى والضلالة)[1].
عبادَ الله، العاقل الحصيفُ يجب عليه حتمًا أن يوقنَ أنّ الأشياء كلَّها قد فُرِغ منها، وأنّ الله - سبحانه - قدّر صغيرها وكبيرَها، وعلم ما كان وما سيكون وأن لو كان كيف يكون، ( وَمَا مِن دَابَّةٍ, فِى الأرضِ وَلاَ طَائِرٍ, يَطِيرُ بِجَنَاحَيهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمثَـالُكُم مَّا فَرَّطنَا فِى الكِتَـابِ مِن شَيء) [الأنعام: 38]، يقول الرسول: ((أوّلَ ما خلق الله القلمَ قال له: اكتب، قال: ربِّ، وماذا أكتب؟ قال: اكتب مقاديرَ كلّ شيء حتى تقوم الساعة)) رواه أبو داود[2].
فالمقاديرُ ـ عبادَ الله ـ كائنة لا محالة، وما لا يكون فلا حيلةَ للخلق في تكوينِه، وإذا ما قدِّر على المرء حالُ شدّة وتنكَّظته الأمورُ فيجب عليه حينئذٍ, أن يتّزرَ بإزار له طرفان: أحدهما الصبر والآخر الرّضا، ليستوفيَ كمالَ الأجر لفعله ذلك، فكم من شدّة قد صعُبت وتعذّر زوالها على العالَم بأسره ثمّ فُرِّج عنها بالسّهل في أقلَّ من لحظة، قيل للحسن: يا أبا سعيد، من أين أُتي هذا الخلق؟ قال: من قلّة الرضا عن الله، قيل: ومن أين أتي قلّة الرضا عن الله؟ قال: مِن قلة المعرفة بالله.
ولمّا جيء بسعيد بن جبير إلى الحجّاج ليقتلَه بكى رجلٌ فقال له سعيد: ما يبكيك؟ قال: لِما أصابك، قال سعيد: فلا تبكِ إذًاº لقد كان في عِلم الله أن يكونَ هذا الأمر ثمّ تلا: (مَا أَصَابَ مِن مٌّصِيبَةٍ, فِى الأَرضِ وَلاَ فِى أَنفُسِكُم إِلاَّ فِى كِتَـابٍ, مّن قَبلِ أَن نَّبرَأَهَا ) [الحديد: 22][3].
وما يصيب الإنسانَ إن كان يسرّه فهو نعمةٌ بيّنة، وإن كان يسوؤه فهو نعمة أيضًاº إمّا مِن جهة أنه يكفِّر خطاياه ويُثاب بالصّبر عليه، وإمّا من جهة أنّ فيه حكمةً ورحمة لا يعلمها إلا الله، ( وَعَسَى أَن تَكرَهُوا شَيئًا وَهُوَ خَيرٌ لَّكُم وَعَسَى أَن تُحِبٌّوا شَيئًا وَهُوَ شَرُّ لَّكُم وَاللَّهُ يَعلَمُ وَأَنتُم لاَ تَعلَمُونَ ) [البقرة: 216]، وصدق رسول الله إذ يقول: ((عجبًا لأمر المؤمن إنّ أمره كلّه خير، إن أصابته سرّاء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضرّاء صبر فكان خيرًا له، ولا يكون ذلك إلا للمؤمن)) رواه مسلم[4].
أيّها النّاس، إنّ البشرَ قاطبةً مجمعون إجماعًا لا خِداج فيه على أنّ الصحّة تاجٌ فوق رؤوس الأصحّاء لا يراه إلا المَرضى، وأنّ الصحّة والعافية نعمةٌ مغبون فيها كثيرٌ من النّاس.
الأمراض والأسقامُ ـ عبادَ الله ـ أدواء منتشرةٌ انتشارَ النّار في يابِس الحطَب، لا ينفكّ منها عَصر، ولا يستقلّ عنها مِصر، ولا يسلم منها بشرٌ ولا يكاد إلاّ من رحم اللهº إذ كلّها أعراض متوقّعة، وهيهات هيهاتَ أن تخلوَ الحياة منها، وإذا لم يصَب أحدٌ بسيلِها الطامّ ضربَه رشاشها المتناثرُ هنا أو هناك، وثمانيةٌ لا بدّ منها أن تمرَّ على الفتى، ولا بدّ أن تجريَ عليه هذه الثمانية: سرور وهمُّ واجتماع وفرقة ويسر وعسرٌ ثمّ سقم وعافية.
الأمراضُ والأسقام هي وإن كانت ذاتَ مرارةٍ, وثقل واشتدادٍ, وعرك إلا أنّ الباريَ جلّ شأنه جعل لها حكمًا وفوائدَ كثيرة، علمها من علمها وجهِلها من جهلها، ولقد حدّث ابن القيم - رحمه الله - عن نفسه في كتابه شِفاء العليل أنّه أحصى ما للأمراض مِن فوائدَ وحكم، فزادت على مائة فائدة، وقال أيضًا: \"انتفاعُ القلب والرّوح بالآلام والأمراضِ أمر لا يحسّ به إلا مَن فيه حياة، فصحّة القلوب والأرواح موقوفة على آلام الأبدان ومشاقها\" انتهى كلامه - رحمه الله -[5].
إنّ الابتلاءَ بالأمراض والأسقام قد يكون هبةً من الله ورحمة، ليكفّر بها الخطايا ويرفعَ بها الدرجات، فلقد استأذنتِ الحمّى على النبيّ فقال: ((من هذه؟)) قالت: أمّ ملدم وهي كنية الحمى، فأمر بها إلى أهلِ قباء فلقوا مِنها ما يعلم الله، فأتوه فشكَوا ذلك إليه، فقال: ((ما شئتم؟ إن شئتم أن أدعوَ الله لكم فيكشفها عنكم، وإن شئتم أن تكونَ لكم طهورًا))، قالوا: يا رسول الله، أوَتفعل؟ قال: ((نعم))، قالوا: فدَعها. رواه أحمد والحاكم بسند جيد[6]. وقال: ((ما مِن مسلمٍ, يصيبه أذًى من مرض فما سواه إلاّ حطّ الله به سيّئاته كما تحطّ الشجرة ورقَها)) رواه البخاري ومسلم[7]. وقال رجل لرسول الله: أرأيتَ هذه الأمراضَ التي تصيبنا، ما لنا بها؟ قال: ((كفارات))، قال أبي بن كعب: وإن قلَّت؟! قال: ((وإن شوكةً فما فوقها)) رواه أحمد[8]. ولقد عادَ رسول الله مريضًا من وَعكٍ, كان به، فقال صلوات الله وسلامه عليه: ((أبشِر فإنّ الله - عز وجل - يقول: هي ناري أسلّطها على عبدي المؤمن في الدنيا، لتكونَ حظَّه من النار في الآخرة)) رواه أحمد وابن ماجه[9]، والوعك هو الحمّى.
فمِن هنا ـ عبادَ الله ـ نعلم النتائجَ الإيجابيّة التي يثمِرها المرض، ونعلم أنّ مذاقه كالصّبِر، ولكنّ عواقبه أحلى من الشّهد المصفى، فعلامَ إذًا يمذُل[10] أحدُنا من المرض يصيبه، أو يسبّه ويشتُمه، أو يعلّل نفسَه بليت وليت، وهل ينفع شيئًا ليت؟!
ألا فاعلموا أنّ رسولَ الله دخل على أمّ السائب فقال: ((ما لك ـ يا أمّ السائب ـ تُزَفزفين؟)) قالت: الحمّى لا بارك الله فيها، فقال: ((لا تسبِّي الحمّى، فإنّها تذهِب خطايا بني آدم كما يذهب الكير خبثَ الحديد)) رواه مسلم[11]. ولقد أصابَ أحدَ السلف مرضٌ في قدمه، فلم يتوجّع ولم يتأوّه، بل ابتسمَ واسترجع، فقيل له: يصيبك هذا ولا تتوجّع؟! فقال: إنّ حلاوةَ ثوابه أنستني مرارةَ وجعه.
وبعدُ عبادَ الله، فلا يُظنّ ممّا سبق أنّ المرضَ مطلَب منشود، لا وكلاّ، فإنّه لا ينبغي للمؤمن الغرّ أن يتمنّى البلاء، ولا أن يسألَ الله أن ينزلَ به المرض، فلقد قال رسول الله: ((سلوا اللهَ العفوَ والعافية، فإنّ أحدًا لم يعطَ بعد اليقين خيرًا من العافية)) رواه النسائي وابن ماجه[12]. وقال مطرّف: \"لأن أُعافى فأشكُر أحبٌّ إليّ من أن أبتلى فأصبر\"[13].
ومِن هنا نعلمُ جيّدًا أنّ المرض ليس مقصودًا لذاته، وإنّما لما يفضي إليه من الصّبر والاحتساب وحُسن المثوبة وحمدِ المنعم على كلّ حال، يقول شيخ الإسلام ابن تيميّة - رحمه الله -: \"المصائبُ التي تجري بلا اختيار العبدِ كالمرض وموتِ العزيز عليه وأخذِ اللصوص مالَه إنّما يثاب على الصّبر عليها لا على نفسِ ما يحدث مِن المصيبة، لكنّ المصيبةَ يكفَّر بها خطاياه، فإنّ الثواب إنّما يكون على الأعمالِ الاختيارية وما يتولّد عنها\" انتهى كلامه[14].
ومِن هذا المنطلَق ـ عباد الله ـ اجتمع الكافر والمسلم والبرٌّ والفاجر في مصيبة المرض على حدّ سواء، وافترقا في الثمرةِ والعاقبة، ولا يسوّي بينهما في ذلك إلا أليغ[15] أرعن واقع فيما قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: (إنّكم ترونَ الكافرَ من أصحِّ الناس جسمًا وأمرضهم قلبًا، وتلقون المؤمن من أصحِّ النّاس قلبًا وأمرضِهم جسمًا، وايمُ الله لو مرضَت قلوبُكم وصحَّت أجسامكم لكنتم أهونَ على الله مِن الجعلان)[16]. ودخل سلمان الفارسيّ - رضي الله عنه - على مريضٍ, يعوده فقال له: (أبشِر فإنّ مرضَ المؤمن يجعله الله له كفّارة ومستعتبًا، وإنّ مرضَ الفاجر كالبعير عقله أهلُه ثمّ أرسلوه، فلا يدري لم عُقل ولم أرسِل)[17].
عبادَ الله، إنّ الإسلامَ حينما يرغّب في الصبر على البلوى ويبيّن ما تنطوي عليه الأسقام من آثارٍ, شافية وحكمٍ, كافية فلا يفهم مخطِئ أنّه يمجّد الآلام ويكرِّم الأوجاعَ والأوصاب، إنّما يحمَد الإسلام لأهلِ البلوى وأصحابِ الأسقام رباطةَ جأشِهم وحسنَ يقينهم، ( مَّا يَفعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُم إِن شَكَرتُم وَءامَنتُم وَكَانَ اللَّهُ شَـاكِرًا عَلِيمًا ) [النساء: 147].
اشتكى عروة بنُ الزّبير الآكلةَ في رِجله، فقطعوها من ركبته وهو صامِت لم يأنّ، وفي ليلته تلك سقَط ولدٌ له مِن سطحٍ, فمات، فقال عروة: \"اللهمّ لك الحمد، كانوا سبعةً مِن الولد فأخذتَ واحدًا وأبقيتَ ستّة، وكان لي أطرافٌ أربعة فأخذتَ واحدًا وأبقيتَ ثلاثًا، فإن كنتَ قد أخذتَ فلقد أعطيتَ، ولئن كنتَ قد ابتليتَ لقد عافيتَ\"[18]، فرحمَ الله عروة وغفر له، فلقد كان بعضُ المرض عندَه أهونَ من بعض، وبلاؤه أهونَ من بلاء غيره، فهان عليه مرضه، وهانت عليه بلواه، وهذا هو ديدنُ المؤمن، ينظر بعين بصيرته، فيحمد الله على أمرين: أوّلهما دفعُ ما كان يمكن أن يحدثَ من هُنيزةٍ,[19] أكبر حيث علِم أنّ في الزّوايا خبايًا، وفي البَرايا رزايا، وثانيهما بقاءُ ما كان يمكِن أن يزولَ من صحّةٍ, غامرة وفضلٍ, جزيل، فهو ينظر إلى النّعمة الموجودة قبلَ أن ينظرَ إلى النّعمة المفقودة.
عباد الله، إنّ الأسقامَ إذا استحكمَت وتعقّدت حبالُها وترادفت حلقاتُها وطال ليلُها فالصّبر وحدَه هو العاصِم بأمر الله مِن الجزع عند الرّيَب، وهو الهداية الواقية من القنوط عند الكُرَب. فلا يرتاع المؤمن لغَيمة تظهر في الأفق ولو تبِعتها أخرى وثالثة، بيد أنّ الإنسان إبّان لَهيعته[20] يتجاهل الحقائقَ، فيُدهَش للصّعاب إذا لاقته، فيُنشِئ له مِن طبعه الجزوع ما يبغِّض إليه الصبرَ، ويجعله في حلقه مرَّ المذاق، فيتنَجنَج[21] ويضيق ويحاوِل أن يخرجَ من حالته على نَكَظ[22]، فينسى قولَ خالقِه: ( خُلِقَ الإنسَانُ مِن عَجَلٍ, سَأُورِيكُم ءايَـاتِي فَلاَ تَستَعجِلُونِ )[الأنبياء: 37].
واستمِعوا ـ يا رعاكم الله ـ إلى ما قصّه رسولنا عن مرَض أيّوبَ - عليه السلام -، فقد قال صلوات الله وسلامه عليه: ((إنّ أيّوب نبيَّ الله لبثَ في بلائه ثماني عشرةَ سنة، فرفضه القريب والبعيد إلاّ رجلين من إخوانه، كانا من أخصّ إخوانه، كانا يغدُوان إليه ويروحان، فقال أحدهما لصاحبه: تعلَم والله، لقد أذنبَ أيّوب ذنبًا ما أذنبه أحدٌ من العالمين، قال له صاحبه: وما ذاك؟ قال: منذ ثماني عشرةَ سنة لم - يرحمه الله - فيكشف ما به، فلمّا راحا إليه لم يصبِر الرّجل حتّى ذكر ذلك له، فقال أيّوب: لا أدري ما تقول، غيرَ أنّ الله يعلم أنّي كنتُ أمرّ على الرجلين يتنازعان فيذكران الله فأرجِع إلى بيتي فأكفِّر عنهما كراهيةَ أن يُذكَر الله إلاّ في حقّ، ـ قال: ـ وكان يخرجُ إلى حاجتِه، فإذا قضى حاجتَه أمسكتِ امرأته بيده، فلمّا كان ذاتَ يومٍ, أبطأ عليها، فأوحى الله إلى أيّوب في مكانِه: اركُض بِرِجلِكَ هَـذَا مُغتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ [ص: 42]، فاستبطأته فبلغته، فأقبلَ عليها قد أذهبَ الله ما به من البلاء، فهو أحسن ما كان، فلمّا رأَته قالت: أي بارك الله فيك، هل رأيت نبيَّ الله هذا المبتلى؟ والله على ذلك ما رأيتُ أحدًا كانَ أشبهَ به منك إذ كان صحيحًا، قال: فإنّي أنا هو، وكان له أندران[23]: أندر القمح وأندر الشعير، فبعث الله سحابتين، فلمّا كانت إحداهما على أندر القمح أفرغت فيه الذهب حتّى فاض، وأفرغت الأخرى على أندرِ الشعير الورق حتى فاض)) رواه ابن حبان والحاكم وصححه الذهبي[24].
فانظروا عبادَ الله، وانظروا ـ أيّها المرضى ـ إلى أيّوب وصبره، فلقد صدقتِ الحكمة ولقد صدق قائلها: الصبرُ صبرُ أيّوب، ثماني عشرة سنة وهو يتقلّب في مرضه لتكونَ عاقبة صبره يسرًا، وكثيرًا ما تكون الآلام طهورًا يسوقه الله بحكمتِه إلى المؤمنين الصّادقين لينزعَ منهم ما يستهوِي ألبابَهم مِن متاعِ الدنيا، فلا يطول انخداعُهم بها أو ركونهم إليها، ورُبّ ضارّة نافعة، بل كم من مِحنة محويّة في طيِّها مِنَح ورحماتٌ مطويّة.
اللهمّ إنّا نسألك العفوَ والعافية والمعافاةَ الدائمةَ في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كلّ ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنّه كان غفّارًا.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلّى الله وسلّم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فاتّقوا الله عباد الله، واعلموا أنّ ثمّةَ أمورًا يجب أن يعرفَها المرضى.
فمنها البشرَى لكلّ مريض أعاقه مرضُه عن القيام بالسّنن والنوافل التي كان يواظِب عليها إبّان صحّته بأنّها مكتوبة له لا يضيع أجرُها، فقد قال رسول الله: ((إذا مرض العبد أو سافر كتِب له ما كان يعمل صحيحًا مقيمًا)) رواه البخاري[25].
كما ينبغي التنبّه إلى ما يقع فيه بعضُ المصابين ببعضِ الأمراضِ لا سيّما النفسية منها من العلاج بالمعازف والغِناء الذي حرّمه الله ورسوله، فإنّ شفاء الأمّة لم يكن قطّ فيما حرّمه الله عليها، ومعلومٌ أنّ الأدوية ثلاثة: دواء مشروع كالرّقية والعسل وزمزم ونحو ذلك، ودواء مباح وهو ما لم يحرّمه الشارع ولم يأمر به، وأدوية محرّمة لا يجوز التداوي بها، وإنّ لكل داء دواءً، علمه من علمه وجهله من جهله.
ثمّ ليعلم المرضى أنّه لا ينبغي التهاونُ بالصلاة حالَ المرض، فيجب أن تصلَّى في وقتها إن استطاع، فإن لم يستطِع جمع بين الظهر والعصرِ وبين المغرب والعشاء رخصةً من الشارع الحكيم. كما يجِب عليه أن يتطهّر للصلاة التطهّرَ الشرعي، فإن لم يستطع فإنّه يتيمّم، فإن لم يستطع فإنّه يصلّي على حاله، ولا يدع الصلاة تفوت عن وقتهاº لأنّ الله يقول: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا استَطَعتُم [التغابن: 16]، ويقول - سبحانه -: لاَ تُكَلَّفُ نَفسٌ إِلاَّ وُسعَهَا [البقرة: 233].
ثمّ ليعلمِ المرضى أنّ الأنين والتوجّع له حالتان: الأولى أنين شكوى فيكرَه، والثانية أنينُ استراحة وتفريج فإنّه لا يكره، بذلك قال ابن القيّم وغيره من المحقّقين.
هذا وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على خير البريّة وأذكى البشريّة محمّد بن عبد الله بن عبد المطّلب صاحبِ الحوض والشّفاعة، فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال عزّ من قائل عليم: ( إِنَّ اللَّهَ وَمَلَـائِكَـتَهُ يُصَلٌّونَ عَلَى النَّبِي ياأَيٌّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا صَلٌّوا عَلَيهِ وَسَلّمُوا تَسلِيمًا ) [الأحزاب: 56].
اللهم صلّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنّك حميد مجيد. اللهمّ أعزّ الإسلام والمسلمين...
----------------------------------------
[1] أخرجه ابن جرير في تفسيره (17/25) من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وعزاه في الدر المنثور (5/629) لابن المنذر وابن أبي حاتم واللالكائي في السنة.
[2] سنن أبي داود: كتاب السنة (4700) من حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه -، وأخرجه أيضا الطيالسي (577)، وأحمد (5/317)، والترمذي في التفسير (3319) وقال: \"هذا حديث حسن صحيح غريب\"، وهو في صحيح سنن أبي داود (3933).
[3] أخرجه ابن سعد في الطبقات (6/264)، وأسلم بن سهل في تاريخ واسط (ص90)، وأبو نعيم في الحلية (4/289).
[4] صحيح مسلم: كتاب الزهد (2999) من حديث صهيب - رضي الله عنه -.
[5] شفاء العليل (ص250).
[6] مسند أحمد (3/316) من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما -، وأخرجه أيضا أبو يعلى (1892)، والبيهقي في الشعب (9967)، وصححه ابن حبان (2935)، والحاكم (1280)، وقال المنذري في الترغيب (4/153) والهيثمي في المجمع (2/306): \"رواة أحمد رواة الصحيح\"، وهو في صحيح الترغيب (3442).
[7] صحيح البخاري: كتاب المرضى (5647، 5648، 5660، 5661، 5667)، صحيح مسلم: كتاب البر (2571) من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -.
[8] مسند أحمد (3/23) من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، وأخرجه أيضا النسائي في الكبرى (7489)، وأبو يعلى (995)، والبيهقي في الشعب (9971)، وصححه ابن حبان (2928)، والحاكم (7854)، والحافظ في الإصابة (1/27)، وقال الهيثمي في المجمع (2/302): \"رجاله ثقات\"، وهو في صحيح الترغيب (3433).
[9] مسند أحمد (2/440)، سنن ابن ماجه: كتاب الطب (3470) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، وأخرجه أيضا ابن أبي شيبة (2/440)، والترمذي في الطب (2088)، والطبراني في الأوسط (10)، وأبو نعيم في الحلية (6/86)، والبيهقي في الكبرى (3/381)، وصححه الحاكم (1277)، وهو في السلسلة الصحيحة (557).
[10] أي: يضجر ويقلق.
[11] صحيح مسلم: كتاب البر (2575) من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما -.
[12] أخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة (882)، وابن ماجه في الدعاء، باب: الدعاء بالعفو والعافية (3849) من حديث أبي بكر - رضي الله عنه -، وأخرجه أيضا الطيالسي (5)، وأحمد (1/3، 5، 7، 8)، والبخاري في الأدب المفرد (724)، والترمذي في الدعوات، باب: في دعاء النبي (3558)، والبزار (75)، والحميدي (7)، وأبو يعلى (121)، قال الترمذي: \"هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه\"، وصححه الحاكم (1938)، والضياء المقدسي في المختارة (1/156)، والألباني في صحيح سنن ابن ماجه (3104).
[13] أخرجه هناد في الزهد (1/254)، وأبو نعيم في الحلية (2/200)، والبيهقي في الشعب (4/105).
[14] مجموع الفتاوى (10/124).
[15] أي: أحمق.
[16] أخرجه هناد في الزهد (1/247)، ومن طريقه أبو نعيم في الحلية (1/135).
[17] أخرجه البخاري في الأدب المفرد (473).
[18] أخرجه أبو نعيم في الحلية (2/179)، والبيهقي في الشعب (9978) بنحوه.
[19] أي: أذية.
[20] أي: فترته وكسله وغفلته.
[21] أي: يضطرب.
[22] أي: على استعجال.
[23] الأندر هو البيدر: المكان الذي توضع فيه الحنطة.
[24] أخرجه ابن حبان (2898)، والحاكم (4115)، وكذا أبو يعلى (3617)، والطبري في تفسيره (23/167)، وأبو نعيم في الحلية (3/374-375) من حديث أنس - رضي الله عنه -، وقال أبو نعيم: \"غريب من حديث الزهري، لم يروه عنه إلا عقيل، ورواته متفق على عدالتهم، تفرد به نافع\"، وصححه الضياء في المختارة (2616، 2617)، وقال الهيثمي في المجمع (8/208): \"رواه أبو يعلى والبزار ورجال البزار رجال الصحيح\".
[25] صحيح البخاري:كتاب الجهاد (2996) من حديث أبي موسى - رضي الله عنه -.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد