بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
{يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله وهو الغني الحميد إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز} [فاطر: 15 ـ 17]، {وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين} [هود: 6].
أما بعد:
أيها المسلمون: من حديث المجالس في كثير من المجالس والقرى التي تعتمد على الأمطار في زروعهم ومواشيهم تأخر نزول المطر، تأخر نزول الغيث من سنوات عدة، بعد أن كانت الأودية فيها العيون النابضة بالماء، وفيها مجاري المياه، يشكون جدب الأرض بعد أن كانت الأرض مخضرة، يشكون ذلك، وحُق لهم أن يشكوا من ذلكº لأن الماء نعمة من نعم الله - تعالى -، قال - عز وجل -: {وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون} [الأنبياء: 30].
من الذي ينزل الماء من السماء؟ إنه الله رب العالمين {أفرأيتم الماء الذي تشربون أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون لو نشاء جعلناه أجاجًا فلولا تشكرون} [الواقعة: 68 ـ 70]، {الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابًا فيبسطه في السماء كيف يشاء ويجعله كسفًا ـ ويجعله قطعًا ـ فترى الودق يخرج من خلاله ـ فترى المطر يصيب من خلاله ـ فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون} [الروم: 48].
ولا يعرف حقيقة الاستبشار إلا من كان يعتمد على الأمطار، والعرب كانوا كذلك، فيصف الله - عز وجل - لنا حالهم {وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبله لمبلسين ـ لقانطين ـ فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها} [الروم: 49، 50]، انظر إلى آثار رحمة الله في النفوس القانطة, وفي الأرض الهامدة التي خشعت والتي أنبتت النبات، {فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها إن ذلك لمحيي الموتى وهو على كل شيء قدير}، ما سبب عدم نزول الأمطار؟ ما سبب القحط؟ ما سبب جدب الأرض؟
أخرج البيهقي في سننه عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي أنه قال: (يا معشر المهاجرين خصال خمس إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركهن: ما ظهرت الفاحشة في قوم حتى يعلنوا بها إلا فشى فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا مُنعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يُمَطروا) يقول مجاهد بن جبير - رحمه الله تعالى-: \"إن البهائم لتلعن العصاة من بني آدم إذا اشتدت السنن تقول: من شؤم معصية بني آدم \".
ويقول أبو هريرة - رضي الله عنه -: \"إن الحبارى لتموت في وكرها من ظلم الظالم\".
(ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط عليهم عدوهم من غيرهم فأخذ بعض ما كان في أيديهم وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله - عز وجل - وينظروا فيه إلا جعل الله بأسهم بينهم).
أمران بهما يمنع القطر من السماء، بهما يحصل الجدب والقحط:
أولهما: لم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين، والأخذ بالسنين من البلاء والأخذ بالسنين من العذاب، قال - تعالى -عن عذاب آل فرعون في الدنيا: {ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذّكرون} [الأعراف: 130] فالأخذ بالسنين من العذاب.
ما هو نقص المكيال والميزان؟ نقص المكيال والميزان أن يغش الناس في معاملاتهم فإذا ذهبت إلى السوق حرص البائع على غبن المشتري فيجعل السلعة الرديئة تحت، وبعض السلعة الحسنة أعلى، يحرص على أن يطفف في المكيال والميزان، إن كان الأمر له بخس صاحبه، وإن كان الأمر لغيره اكتال عليه.
وهذا من أسباب شدة المؤنة إذ قال: (إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجَور السلطان) ولا يقف قول النبي على نقصوا المكيال والميزان عند هذا الحد، بل يتعدى إلى ما يحصل في زماننا من السرقات، من سرقات أموال المسلمين، من التزوير، من الاختلاس وغير ذلك، كل ذلك من نقص المكيال والميزان، ولا تبخسوا الناس أشياءهم قالها شعيب - عليه السلام - لقومه.
(إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان)، أعمالكم أيها المؤمنون عُمالكم، أصلحوا، إذا صلح الناس صلح الولاة عليهم بإذن الله رب العالمين، إنه على كل شيء قدير (وما نقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان), ثم قال: (ولم يمنعوا زكاة أموالهم) ـ هذا هو السبب الثاني لتأخر نزول الغيث من السماء ـ (إلا مُنعوا القطر من السماء)، يكنزون الذهب والفضة، يكنزون أموالهم ولا يخرجون منها شيئًا، وإن أخرجوا، أخرجوا دون ما أمر الله به في النصاب، ترى بعضهم أمواله بالملايين ويخرج بضعة آلاف ظنًا منه أن هذه تغني عن الزكاة ولا يتحرى في زكاة ماله، و والله الذي لا إله إلا هو ولتبلغ زكاة ماله في السنة الواحدة الملايين ولا يخرج منها إلا بضع آلاف، يقول أخرجت زكاة مالي؟ لم يا عبد الله، لم هذا البخل؟ لم هذا الكنز للمال؟ أما سمعت قول الله - تعالى -: {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم} [التوبة: 34].
أتريد أن تنال هذا العذاب الأليم أتعرف ما هذا العذاب الأليم؟ {يوم يُحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون} [التوبة: 35]، وإذا نزلت قطرات من المطر، وإذا نزل غيث من السماء ما كان ذلك إلا للبهائم، ولولا البهائم لم يمطروا، أي ولولا البهائم موجودة لم يقطروا، فإذن المطر الذي ينزل قليلاً ليس لهؤلاء العصاة المصّرين على معاصيهم، الذين لا يقلعون عنها، الذين لا ينفون أسباب القحط وعدم نزول المطر، إنما الرحمة بالبهائم، إنما الرحمة بالعجماوات، ولولا البهائم لم يمطروا، هكذا بين لنا الصادق المصدوق.
فليس سبب تأخر الأمطار رياح تأتي من الشمال أو الجنوب أو تغير في الأحوال المناخية، لا سبب تأخر الأمطار هو هذا، هو ما ذكره الرسول - عليه الصلاة والسلام -، وإذا ما أقلع الناس عن هذه الأمور ورجوا من الله - تعالى -الرحمة ونزول الغيث، قال - سبحانه وتعالى - عن هود - عليه السلام -: {ويا قوم استغفروا الله ثم توبوا إليه ـ ماذا؟ ـ يرسل السماء عليكم مدرارًا ويزدكم قوة إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين} [هود: 52]، يا قوم استغفروا الله وتوبوا إليه من المعاصي كلها من الشرك والبدع وما يتعلق بهما من أكل الربا، ليس الاستغفار باللسان، إنما الاستغفار بالفعال، توبوا إليه، أقلعوا عن المعصية، ومع الإقلاع استغفروا الله - عز وجل -، عندها يرسل السماء عليكم مدرارًا ويزدكم قوة إلى قوتكم، وإن لم تفعلوا فسيبقى الحال على ما ترون لا تنتظروا إن لم تقلعوا عن معاصيكم وتستغفروا ربكم أن ينزل عليكم المطر بمجرد: اللهم اسقنا، لا، لا يكون ذلك بهذا فقط، وإنما يكون قبل ذلك بالاقلاع عن الذنب.
ويقول - تعالى - عن نوح - عليه السلام -: {فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارًا يرسل السماء عليكم مدرارًا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارًا ما لكم لا ترجون لله وقارًا} [نوح: 10ـ13].
إذن إخوة الإيمان: من أسباب نزول الغيث من السماء: أن تستغفر الله - سبحانه وتعالى - وأن تتوب إليه، فذلك هو المخرج، وأن نتضرع إليه أفرادًا وجماعات إذ هو القائل - تعالى -: {ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعلمون} [الأنعام: 42 ـ 43].
فنسأل الله - تعالى - أن يرزقنا الاستغفار والتوبة إنه على كل شيء قدير.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي رضي من عباده باليسير من العمل، وأفاض عليهم النعمة وكتب على نفسه الرحمة وضمّن الكتاب الذي كتبه أن رحمته سبقت غضبه، والصلاة والسلام على إمام المتقين وقائد الغُرّ الميامين محمد صلوات ربي وسلامه عليه.
أخرج الإمام مسلم في صحيحه، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسولنا أنه قال: (بينما رجل ـ أي فيما كان قبلكم ـ بفلاة من الأرض إذ سمع صوتًا في سحابة يقول: اسق حديقة فلان ـ أي سمع صوتًا في السحاب يقول: أيها السحاب اسق حديقة فلان ـ قال: فانقطعت قطعة من السحاب حتى إذا أتت على حَرّة فإذا شرجة من تلك الشراج فاستوعبت الماء كله فتتبع الماء فرأى الماء يأتي إلى رجل في حديقته يدير الماء بمسحاته فقال الرجل: يا عبد الله، ما اسمك؟ قال: اسمي فلان للاسم الذي سمع في السحاب، فقال يا عبد الله ـ أي الرجل الذي يدير الماء بمسحاته ـ: لم تسألني عن اسمي؟ قال: إني سمعت صوتًا في السحاب يقول: اسق حديقة فلان فماذا تفعل؟ قال الرجل: أما إذا قلت هذا فإني آخذ ما يخرج منها ـ أي ما يخرج من هذه الأرض ـ فأتصدق بثلثه وآكل أنا وعيالي ثلثه وأرجع ثلثًا إلى الأرض).
انظروا إلى من يشكر نعمة الله عليه، فيخصه الله - عز وجل - بالكرامة، الرجل يقسم الرزق الذي يُرزقه إلى ثلاثة أثلاث، ثلت يتصدق به، ثلث يأكله هو وعياله، وثلث يرجعه إلى الأرض، ما يضر العباد إن فعلوا مثل ذلك الرجل؟ ما يضرنا إذا أخرجنا من أموالنا شيئًا في كل شهر أو كل يوم، وإن كان قليلاً نتصدق به على من يحتاجه، أليس ذلك من موجبات رحمة الله تعالى؟ أليس ذلك من موجبات نزول الغيث من السماء؟ إن الله - تعالى -لا يُغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد