بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى:
ثم أما بعد: فاتقوا الله أيها المؤمنون، اتقوه وراقبوه، راقبوه عند خطرات القلب ولحظات العين وعثرات اللسان، واعلموا أن الله - عز وجل - قد وكّل بكم من ليس يغفل أو ينام، يحصي الأعمال ويكتب الحسنات والسيئات، {وَإِنَّ عَلَيكُم لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعلَمُونَ مَا تَفعَلُونَ} [الانفطار: 10-12].
احذروا ـ عباد الله ـ غدرات دوِّنت وسيّئات حفظت، فلئن نسيتموها فإنّ الدواوين لا تنسى، {أَحصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} [المجادلة: 6]، {وَيَقُولُونَ يَا وَيلَتَنَا مَالِ هَذَا الكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظلِمُ رَبٌّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49].
عباد الله: إنّ الكلمة من أعظم الأمانات وأثقل المسئوليات، تكون في قلب الرجل فلا يُسأل عنها ولا يحاسب عليها، ثم تخرج إلى لسانه فيتكلم بها فتورده الموارد أو ترفعه المنازل، تهوي به في الدركات أو تعلو به في الدرجات.
روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي قال: (إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله - تعالى - ما يلقي لها بالاً يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله - تعالى -لا يلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم)، وعن بلال بن الحارث - رضي الله عنه - قال: إن رسول الله قال: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله - تعالى - ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت يكتبُ الله له بها سخطه إلى يوم يلقاه) رواه مالك في الموطأ والترمذي وقال: \"حديث حسن صحيح\".
عباد الله: لم يكن اللسان بهذه المنزلة إلا لما له من الفعل الشديد والأثر الأكيد، يتكلم المؤمن بالحق والعدل فيتجلى للناظرين ويروق للسالكين، ويلحنُ الفاجرُ بالباطل فيعمي الحق على الناس ويزوّقُ لهم الباطل ويصدهم عن الصراط ويُلبسُ عليهم دينهم، فيضلُ الخلق ويضيعُ الحق.
ولهذا لما بين رسول الله لمعاذ - رضي الله عنه - أسباب دخول الجنة والبعدِ عن النار ودلّه على أبواب الخير ثم أخبره برأس الأمر وعمودِه وذروة سنامه قال له: (ألا أخبرك بملاك ذلك كلِّه؟) فلما قال: بلى، أخذ بلسانه وقال: (كفَّ عليك هذا)، فقال معاذ - رضي الله عنه -: يا رسول الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟! قال: (ثكلتك أمك، وهل يكبٌّ الناس في النار على وجوههم إلا حصائدُ ألسنتهم) رواه الترمذي وقال: \"حديث حسن صحيح\".
عباد الله: إن اللسان هو أخطرُ الجوارحº ذلك أنه أخفٌّها حركة وأشدٌّها أثرًا حتى إن رسول الله شبه أثر اللسان في قلب الحقائق وتلبيس الحق بالباطل بالسحر فقال: (إن من البيان لسحرا).
إخوة الإيمان: إن رجالاً يطلقون لألسنتهم العنان ولأقلامهم الزّمام، إنما يتقحمون بذلك نار جهنم، فعن سفيان بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: سألت رسول الله: ما أخوفُ ما تخافُ عليّ؟ فأخذ بلسان نفسه ثم قال: (هذا) رواه الترمذي وقال: \"حديث حسن صحيح\"، وسأل عقبة بن عامر - رضي الله عنه - رسول الله: ما النجاة؟ قال: (أمسك عليك لسانك، وليسعكُ بيتك، وابكِ على خطيئتك) رواه الترمذي وحسنه، وكان أبو بكر - رضي الله عنه - يمسك بلسانه ويقول: (هذا الذي أوردني الموارد)، بل إن رسول الله تكفّل لمن حفظ لسانه الذي بين لحييه وفرجه الذي بين رجليه بالجنة. متفق عليه.
عباد الله: هل أدرك هذا الأمرَ من يحمل قلمًا يكتب به في الصحف والمجلات أو الساحات والشبكات؟! هل أدرك هؤلاء أنهم يحملون في أيديهم سلاحًا أمضى من كل سلاح، سلاحًا يصلح ويفسد ويجمع ويفرق؟!
إن شئت أصلحتَ به ذات البين، وإن شئتَ فرقت به بين الحميمين، إن شئت جليتَ به الحقّ وعرّيت به الباطل فكنت هاديًا مهديًا، وإن شئتَ لبست به الحق ونصرتَ به الباطل فكنت شيطانًا على سبيل من سبل جهنم.
إن عددًا من مرضى القلوب ممن يحملون ألسنة حدادا وأقلامًا سلِطة وجرأة على الدين قد اتخذوا من الأحداث الآثمة التي تمرّ بها بلادنا ذريعة وسلَّمًا لنيل مآربهم وتحصيل مقاصدهم وتصفية حساباتهم، فباسم مقاومة الإرهاب سبّوا الدين وتكلّموا في الثوابت واجترؤوا على العقيدة ونالوا من رجالات الإسلام ودعاة الخير. فمرّةً على فهم السلف لملة إبراهيم، وأخرى لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وثالثة لعقيدة الولاء والبراء، ورابعة لشيخ الإسلام ابن تيمية، وخامسة لمناهج التعليم، وسادسة لهيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وسابعة لحِلق تحفيظ القرآن الكريم، وثامنة للجمعيات الخيرية، والمحصّلَة حرب الإسلام باسم حربِ الإرهاب، فإذا أنكِر على أحدهم أو خوِّف بالله أقسم الأيمان المغلظة أنه ما قصد إلا الإصلاح ولا أراد إلا الحسنى، وصدق الله العظيم: {وَلَيَحلِفُنَّ إِن أَرَدنَا إِلاَّ الحُسنَى وَاللَّهُ يَشهَدُ إِنَّهُم لَكَاذِبُونَ} [التوبة: 107]، {ثُمَّ جَاءُوكَ يَحلِفُونَ بِاللَّهِ إِن أَرَدنَا إِلاَّ إِحسَانًا وَتَوفِيقًا أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِم فَأَعرِض عَنهُم وَعِظهُم وَقُل لَهُم فِي أَنفُسِهِم قَولاً بَلِيغًا} [النساء: 62، 63]، لقد زعم كثير من هؤلاء الكتاب أنهم يحاربون الإرهاب، وكذبوا والله، إنهم يصنعون الإرهاب.
إن الرجل ليرخص نفسه ويبذلُ مهجته إذا انتهِك عرض، ولا شك أن دين الإنسان أغلى وأنفسُ من عرضه، فمن يسب الدين بسبِّ رجالاته ورموزه وأجهزته وهيئاته ومناهجه وعقائده يستعدي شعبًا بأكمله، بل أمة بأكملها، يسبّ دينها وثوابتها.
لقد رأى هؤلاء المفتونون أنّ الدولة ـ وفقها الله ـ تدافع عن الإسلام، وتدعَم هيئاته ومؤسّساته، فشرقوا بذلك، وأرادوا استعداءها على أهل الدين.
يتظاهرون بحرب الإرهاب وهم يطلبون الفتنة ويغرون بالعداوة، وصدق الله العظيم: {لَو خَرَجُوا فِيكُم مَا زَادُوكُم إِلاَّ خَبَالاً وَلأَوضَعُوا خِلالَكُم يَبغُونَكُم الفِتنَةَ وَفِيكُم سَمَّاعُونَ لَهُم وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ لَقَد ابتَغَوا الفِتنَةَ مِن قَبلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الحَقٌّ وَظَهَرَ أَمرُ اللَّهِ وَهُم كَارِهُونَ} [التوبة: 47، 48].
إخوة الإيمان: تهدأُ الأمور فيتخفّى المنافقون ويلبسون مسوحَ الإصلاح، حتى إذا كادوا أن يشتبهوا بأهل الحقّ رحم اللهُ الأمة ففتنَ أهل النفاق وأخرج أضغانهن وكشفَ دخائلهم، فيتبيّنهم المؤمنون، لا يضامّون في معرفتهم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {أَم حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَرَضٌ أَن لَن يُخرِجَ اللَّهُ أَضغَانَهُم وَلَو نَشَاءُ لأَرَينَاكَهُم فَلَعَرَفتَهُم بِسِيمَاهُم وَلَتَعرِفَنَّهُم فِي لَحنِ القَولِ وَاللَّهُ يَعلَمُ أَعمَالَكُم} [محمد: 29، 30].
بارك الله لي ولكم...
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك البر الرحيم، وأشهد أنّ محمدًا النبيّ الأمين، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
ثم أما بعد: فاتقوا الله أيها المؤمنون، واعلموا أنه لا بد للمؤمن من العلم ومعرفة الحق، ولا بد بعد العلم من العمل.
إخوة الإيمان: إنه لا يكفي أن يعرف المؤمن الحقّ من الباطل ولا المؤمنَ الصادق من المنافق الكاذب، بل لا بد بعد العلم من العمل.
إنّ دين المسلم هو أغلى شيء يملكه في الحياة، كيف لا وهو سرّ سعادة المرء في الدنيا والآخرة.
إخوة الإيمان: كان الرجلُ من صحابة رسول الله ما إن يدخلُ في هذا الدين ويخالط شغاف قلبه إلا وينذر نفسه لنصرتِه والدفاعِ عنه وموالاة أهله ومعاداة أعدائه. فبهذا انتصر هذا الدين وعلا شأنه وارتفعت رايته وعز أهله. وإن دَور كلّ مسلم يرى هذه الحربَ الضروس على دينه أن ينصر دين الله، ويقارع أعداء الله.
واعلموا ـ عباد الله ـ أن دين الله منصور وأمره ظاهر، ولكن الإنسان يرتفع بنصرة هذا الدين، ويحقق النجاة لنفسه، إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُركُم وَيُثَبِّت أَقدَامَكُم [محمد: 7].
ثم اعلموا ـ أيها المؤمنون ـ أن كلاًّ على ثغر، وأنّ كل أحد يطيق أن ينصر هذا الدين، فالوسائل كثيرة، والمجالات متعددة، ولكن ينبغي أن تكون نصرة هذا الدين بالحكمة والموعظة الحسنة، بالكلمة الهادئة والموعظة اللينة، بعيدًا عن التكفير والتفسيق أو التبديع والسبّ، فلعل صاحب شبهة أو مغررًا به يُغلَظُ عليه ويُستعدى فيكون من أعداء الدين.
لقد كان رسول الله يعلم أعيانَ المنافقين ومع ذلك لم يكن يواجههم بذلك.
إن الكلام اللينَ والدعوات الصادقة تفتح القلوب وتشرح الصدور وأنتم دعاة إلى الله - سبحانه -. وأما من ظهر فسقه واستشرى شره وعظمت فتنته فمنهج السلف الصالح تحذيرُ الناس من بدعته وتعريفُهُم شرَّه وخطَرَه.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد